مستشار جهاز الأمن في الديمقراطية الثالثة "عبد الرحمن فرح" لـ(المجهر):
اعتادت الصحف كلما مرت ذكرى ثورة الإنقاذ أن يتجه أهلها صوب أهل الفكرة للتعرف على أسرار انقلاب الإسلاميين، وفي كل عام تخرج بحصيلة من القصص والروايات الجديدة رغم أن مجموعة الإسلاميين الذين تفاصلوا مع إخونهم أصبحوا غير حريصين على اجترار هذه السيرة، ولهذا السبب فكرنا في (المجهر) بتسليط الضوء على زاويا مختلفة لها علاقة بانقلاب الإسلاميين حتى تكتمل صورة الحدث، فوقع اختيارنا على اللواء معاش “عبد الرحمن فرح” بصفته كان يشغل منصب مستشار بجهاز الأمن في حكومة الديمقراطية الثالثة التي انقلب عليها الإسلاميون، ورغم وضعه الصحي أفرد لنا مساحة مقدرة من وقته، فجلسنا معه في صالونه الأنيق بـ(المنشية) وأول ما يستوقفك فيه أنه يوثق لتاريخ الرجل السياسي والعسكري منذ أن كان طالباً بالكلية الحربية من خلال الصور التي تزين جنباته، وفي مبتدر الحوار حدثنا “عبد الرحمن” عن أنهم خططوا لإنتفاضة أبريل في هذا الصالون، وأشار بأصبعه هنا كان يجلس “الصادق المهدي” وهناك المرحوم “عمر نور الدائم”، وقال كان لدينا تنظيم سري، وهناك حلقة وصل بيننا وبين الجيش، حيث كنت أنسق مع الفريق “توفيق خليل “، وحينما تناقشنا حول مَنْ يقوم بهذا التغيير، كان رد الجيش أنه من الأكرم أن يقوم هو به على أن يلتزم “الصادق المهدي” بتحريك الشارع، وحينها طلب منهم “الصادق” بعدم التعرض للمواطنين، وبعد خطبة “الصادق” في (ود نوباوي) اندلعت التظاهرات وحاول الأمن اعتقال “الصادق المهدي”، فقمت بتهريبه إلى منزلنا بـ(المنشية)، وظل خمسة أيام (حتى زوجاته لم يكن يعرفن مكانه).
كذلك عقب ظهور نتيجة الإنتخابات في أبريل عقدنا إجتماعاً بهذا الصالون ضم “الصادق المهدي” و”عمر نور الدائم” وشخصي كممثلين لحزب (الأمة)، و”حسن الترابي” و”عثمان خالد مضوي” ممثلين لـ(الجبهة الإسلامية)، و”محمد عثمان الميرغني” و”الشريف الهندي” ممثلين لـ(الاتحادي الديمقراطي) لتشكيل الحكومة القومية، إلا أن هذا الإجتماع لم يجد حظه من التنفيذ لأسباب سياسية وتكتيكية تخص القوى الثلاثة، وبعدها تم تكوين أول حكومة بين (الأمة) و(الاتحادي)، وقبل أن يختتم قصته إنتقلنا به إلى محطة انقلاب الإسلاميين.. فماذا قال…؟
{ كنت مسؤولاً لجهاز الأمن عندما حدث انقلاب الإسلاميين.. حدثنا عن تلك الفترة؟
– أولاً أنا كنت مستشار جهاز الأمن بدرجة وزير مركزي، وحسب القانون يسمى مستشار جهاز الأمن.. وإذا تحدثنا عن الخلفيات التي تتحكم في أي مسؤول لجهاز الأمن وهذا الحديث أقوله لأول مرة..
أنا أثناء المراهقة السياسية كنت واحداً من كوادر الأخوان المسلمين ودخلت تنظيمات الأخوان، ليس من منطلق سياسي وإنما من منطلق أخلاقي، فأنا من بيت ديني يعتز بكثير من الأخلاقيات والتقاليد.
وفي زماننا كان هناك صراع بين الإلحاد و(الميوعة) والأخلاق، ومن هذا المنطلق أنا كنت من مجموعة الأخلاق التي تمثلها تنظيمات الأخوان المسلمين.
ولم تكن هذه التنظيمات سياسية، حيث كنا نكتب في جرائد المدرسة الحائطية ما يفرق بين الإلحاد والدين.
{ متى كان ذلك؟
– تقريباً كان من عام 1949م، 1950م، 1951م حتى 1953م زمن دخولي الكلية الحربية، وهم كتبوا في كتبهم أنني كنت من المؤسسين لحركة الأخوان المسلمين داخل القوات المسلحة.
{ حتى الآن هذا الحديث يردده بعضهم؟
– أبداً هذا لم يحدث، وإنما أنا كنت ضمن مجموعة ملتزمة بالقيم الإسلامية (تصلي وتصوم) وتؤدي واجبها العسكري، هذا الشيء جعلني طوال عملي في القوات المسلحة منضبطاً ورجل غير حزبي ولا تبدو عليّ الحزبية رغم أنني عشت في مناطق كانت تسيطر عليها أحزاب أخرى، أنا كنت أول قائد للقوات البحرية في بورتسودان وهي منطقة ختمية، وكانوا يشكون من أنني لا أصلهم، وأنا كنت لا أتواصل معهم لأنني أعتبر نفسي رجلاً قومياً،
بعد انقلاب “جعفر نميري” رغم العلاقة التي تربط بيننا أُحلت إلى التقاعد، وبذلك أصبحت في حل عن العمل العسكري فاندمجت في العمل السياسي السري لأنني أنتمي إلى بيت أنصاري كبير.
{ متى غادرت تنظيم الأخوان المسلمين؟
– الأخوان المسلمون فارقتهم بعد دخولي (الكلية الحربية) وذلك كان التزاماً أخلاقياً وليس تنظيمياً، وعندما خرجت من الجيش التزمت حزبياً، والدليل على ذلك ترشحت في دائرة من دوائر الوعي في الخرطوم كانت تشمل (المنشية) و(الرياض) و(الجريف) و(الطائف) وغيرها وفزت فيها كعضو برلماني، وكان لأول مرة يفوز حزب (الأمة القومي) في الخرطوم.
وكنت رئيس لجنة الأمن والدفاع والسلام داخل الجمعية التأسيسية، وهذا ما أهلني لأكون مستشار جهاز الأمن، فعُيِّنت مستشاراً للجهاز عند إنشائه، وعملية الإنشاء والتكوين عملية كبيرة محتاجة لكثير من التوضيح، لأن القانون الذي وضع لا يُمكن المستشار من تأدية واجبه الأمني بالطريقة الأمنية الصحيحة.
وكان ينبغي أن نتحصل على المعلومة ونرسلها إلى جهتين مجلس السيادة للعلم، وجهة العمل التنفيذي.
كانت التعليمات عندي بأن أطلع وزير الخارجية الشريف “زين العابدين” بأية معلومة أمنية.
وكنت أعاني جداً حتى أجد “الشريف” لأنه أحياناً يكون في نمرة (3) مع صاحبه “صلاح” ولا يذهب لمكتبه.
{ نعود للانقلاب.. لماذا لم تكتشفوا انقلاب الإسلاميين؟
– الجهاز كانت لديه معلومة بأن هناك تحركاً يحدث نتيجة لأسباب كثيرة منها جهل الشعب السوداني بالفرق بين الديمقراطية والفوضى، ثم التحركات التي كانت تقوم بها النقابات، بجانب الصراع غير المبرر وغير الأخلاقي الذي كانت تقوم به الأحزاب مع بعضها والمعاكسة في كل شيء خاصة الاتحاديين والكراهية الموجودة بين الاتحاديين والأخوان المسلمين.
هذا جعلنا نرسل المعلومة لكن لا نستطيع عمل شيء فيها، ولا نستطيع أن نعتقل وليس لك هذا الحق، فقط يتم تحولها للداخلية وهي لها جهازان الأمن الداخلي والأمن الخارجي لتقوم بهذا العمل.
{ هذا يعني أن هناك معلومات بطرفكم؟
– كانت هناك أربع حركات متحركة وكنا نعلم بها، المايويون والبعثيون وحركة الأخوان المسلمين(وليس لها وجود) وما يسمى بـ(الضباط الأحرار).
{ لكن قيل إنكم كنتم تركزون على المايويين.. لماذا؟
– نعم، كنا نركز على الناس (الحارقاهم الجمرة) وهم المايويون، لأن “جعفر نميري” كان في (مصر) ويرسل بعلم المصريين كاسيت مسجل وخطب مايوية لتوزع على المايويين في البلد، من هذا المنطلق كان تركيزنا على المايويين أكثر.
{ والبعثيون؟
– البعثيون رغم دمويتهم ويمكن أن تكون لهم علاقة بـ(العراق) و(سوريا) إلا أنهم كانوا أقلية.
{ الشيوعيون؟
– كان رأينا أنهم لا يكسبون أكثر مما كسبوه.
– أما (الجبهة القومية) فكان لها (54) نائباً في البرلمان وكسبت أصوات الخريجين، وهذا يعني أنهم متقدمون رغم أنهم (ما عندهم حاجة)، لذلك كان من المستبعد أن يقوموا بانقلاب على ضوء هذه المكاسب.
الشيء الثاني هم ناس دعوة والأخوان المسلمون حتى إذا كان عندهم أشخاص في الجيش، هم ملتزمون وأدوا القسم بأن يعملوا بحراً وجواً ويطيعوا، فهذه الأشياء تجعل من المستبعد أن يقوموا بشيء وينقضوا هذا العمل ويقوموا بالانقلاب، ولهذا السبب كان تركيزنا عليهم أقل، واعتبرنا أن الناس (الغاضبين) هم المايويون، وكانوا شغالين.
{ “الزبير محمد صالح” اعتقل في انقلاب 18 يونيو 1989م وكان إسلامياً.. ألم يكن كافياً للشك في (الجبهة الإسلامية)؟
– “الزبير” لا أدري أنه كان جبهة إسلامية، لكن في النهاية (خموه) الجماعة ديل وأخذوه معاهم، لكن في تقديري وحسب معرفتي أنه كان مايوياً، ودنقلاوياً ومن منطقة “جعفر نميري”.
{ كيف كانت علاقتك بالإسلاميين؟
– تربطني بهم علاقة صداقة ونسب، ابن أخت “حسن الترابي” متزوج شقيقتي، الشيء الثاني ننطلق من فهم ديني مشترك و”حسن” كان (جاري).
{ انتماؤك لـ(منبر السلام العادل) يدل على عودتك للإسلاميين؟
– بالعكس وجودي في (منبر السلام العادل) كان نتاجاً لأخطاء الإسلاميين والإنقاذ وما فعلته في البلد ونتاجاً لاتفاقية نيفاشا وما سببته من تعطيل، (عشان) نتحدث بوضوح ناس (الجبهة القومية) بعد أن خانوا العهد وأصبحوا حكاماً أتوا بالأولاد الصغار وعملوا ليهم (غسيل مخ) .. فذهبوا معهم.
{ قيل كذلك “إبراهيم نايل إيدام” أخو مسلم منذ الثانوي؟
– أبداً لم يكن حركة إسلامية، “إبراهيم” رجل عسكري منضبط ورياضي مطبوع.
{ قيل كان على علم بانقلاب الإسلاميين؟
– لم يكن يعلم بالانقلاب.
{ هو نفسه قال في الأول.. كانت تأتيني المعلومات ولكن أبعدتني الشكوك عن معرفة يوم الانقلاب؟
– حتى لو قال، أنا أعرفه جيداً لأن “إبراهيم” لما حصل انقلاب الإسلاميين اعتقل ووضع في سلاح المظلات ببحري ثم تم تحويله للميدانية.
{ ربما للتمويه؟
– أبداً، لأنه من هناك تم تحويله إلى الرئاسة.
{ لماذا عُيِّن إذاً في مجلس قيادة الثورة إذا لم يكن على صلة بهم؟
– للموازنة، هناك موازنة خلقت، عُيِّن بموجبها ثلاثة من الجنوبيين.
{ (مقاطعة) “محمد الأمين خليفة” مع (المجهر) قال: “نايل إيدام” أخو مسلم من الثانوي؟
– أبداً “إيدام” لم يكن أخاً مسلماً.
{ احكِ لنا عن ساعة الصفر التي قلت إنك لم تعرفها؟
– أنا كنت على علم بأن هناك تحركاً من بعض الجهات، ووقتها كنا مشغولين بإجازة الميزانية وتمريرها، لأنها إذا لم تمر في يوم 30/6/1988م البلد ستكون من دون ميزانية في 1/7/1989م، وكانت هناك جهات تسعى إلى التعطيل، لذلك كان لابد من حشد لتمريرها.
{ هل الإسلاميون حضروا جلسة الميزانية؟
– نعم، لكنهم خرجوا منها ورفضوا التصويت.
{ بماذا تحججوا؟
– حججهم كانت واهية، رغم ذلك الميزانية مرت بالنواب الموجودين.
{ هذا يعني أنهم سعوا لعدم تمريرها؟
– هم سعوا لتعطيلها، ولكن لا استبعد أن يكونوا سعوا لعدم تمريرها كذلك.
{ متى عدت من الجمعية التأسيسية؟
– وأنا راجع من الجمعية التأسيسية حوالي الساعة الثانية أو الثالثة صباحاً يوم الخميس 29/6/1989م لاحظت أن هنالك مجموعة من الناس يقفون على رصيف كبري القوات المسلحة.
{ هل استفسرت عن سبب وقوفهم بوصفك مستشاراً للأمن؟
– نعم، توقفت وسالت أحد العساكر الموجودين منهم.
{ ماذا كان رده؟
– قال لي: منتظرين مواصلات.
{ ألم يخطر ببالك أمراً آخر؟
– والله قلت ربما أشخاص يريدون الذهاب إلى مصانعهم لأنهم كانوا في اتجاه بحري.
{ إلى أين اتجهت بعد ذلك؟
– وصلت منزلي وأولادي كانوا خارج السودان، فجاءني المهندس “محمد أبو” وقال لي يا عم “عبد الرحمن” هنالك حركة انقلابية في الخرطوم وطلب مني الذهاب معه إلى منزله، لكني رفضت.
{ فيما فكرت بعد ذلك؟
– حاولت الاتصال فوجدت الجهاز السري الموجود بمنزلي معطلاً طبعاً عُطل من قبل ناس (الجبهة الإسلامية)، وبالتالي لم تكن هناك طريقة للاتصال بوزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان، فخرجت.
{ إلى أين؟
– أول ما خطر بذهني السيد “نصر الدين المهدي” الذي كان مسؤولاً عن شؤون الأنصار فلم أجده لأنه تم اعتقاله.
{ ثم ماذا؟
– اتجهت إلى منزل “مهدي بابو نمر” في بري فوجدت عمه وقال لي: حضروا جماعة هنا وأطلقوا طلقات نارية وأخذوه معهم.
{ ألم يتم توقيفك أثناء تجوالك أو سؤالك؟
– أبداً، لم يوقفني أحد، وكنت أقود عربتي بنفسي هم وصلوا منزلي ولم يجدوني. حاولت الذهاب إلى بيوت الأمان التي كانت مؤجره من قبلنا وموزعة في المهندسين والكلاكلة وبحري، وأخيراً وجدت “الصادق المهدي” بالمهندسين وحاولت مساعدته.
{ هذا قبل اعتقاله؟
– “الصادق” خرج من المنزل لم يعتقل.
{ إلى ماذا أرجعت نجاح الانقلاب؟
– نحن كجهاز أمن كانت عندنا المعلومة بأن هناك شيئاً سيحدث، لكن ما عندنا القوة القانونية التي تجعلنا نقوم بواجبنا، الأمر الثاني الشريك في الحكم كان مشاكساً همه كله المشاكسة (تقول ليهو الشمس طلعت من الشرق يقول لا طلعت من الغرب..).
{ من تقصد؟
– الاتحاديون، ومضى في حديثه الأمر الثالث، الأخوان المسلمون كان همهم مشاكسة حزبي (الأمة) و(الاتحادي)، إضافة إلى ذلك الإسلاميون كانوا قد أدوا القسم على تأدية واجبهم وهم لم يكونوا متضررين، لماذا الجري عشان يحصل الدمار الذي حصل لهم الآن.
{ من أخبرك بأن الانقلاب تابع للإسلاميين؟
– طبعاً تم تمويه، لأن “حسن الترابي” تم اعتقاله.
{ متى تم أول اتصال بينكم والإسلاميين بعد الانقلاب؟
– أنا قلت لـ”الصادق”: نحن فرطنا في “جعفر نميري” فحقوا نحتضن الإسلاميين، وطلب مني الاتصال بهم وحاولت أقنعهم، و”البشير” فيه رجولة، أبدى استعداده لمقابلته، لكن قال لازم نعتقله لأنه في الجهاز التنفيذي ولن أوعدك بإطلاق سراحه.
{ “مبارك الفاضل” أين كان؟
– “مبارك” كان مختفياً وقال لنا (عايزين نخرج)، “الصادق” وافقه لكن أنا رفضت وقلت لهم نحن لدينا التزامات كثيرة أولها أن لدي سبع بنات لن أتركهن وأخيراً أقنعت “الصادق”.
{ كيف أُعدت خطة الخروج؟
– “مبارك الفاضل” قال هناك عربات بالقرب من كلية (الأحفاد) ستأخذنا عن طريق أم درمان.
{ وبعدها تعرفت على هوية من قاموا بالانقلاب؟
– أثناء التعيينات والاحتضان الذي بدأ في مجلس قيادة الثورة لبعض الشخصيات وهذا العمل قام به بعض الأخوان المسلمين، هذا كان كافياً لمعرفة من قاموا به، حيث بدأوا يقسمون العمل في مجلس قيادة الثورة والمجلس نفسه كان مضللاً لأنه ضم ثلاثة من الجنوبيين وشخصيات من الغرب وجبال النوبة لم تكن لها إيديولوجيات معروفة.