شهداء القضارف
{ قالت جدتي رحمة الله عليها معلقة على خروج (معزة) “ود إبراهيم” الذي كان يقطن في الشارع الثاني من منزلنا: (كان ماتت ولا رجعت هي شن فايدتا وشن نفرها، لا بتجيب لبن ولحمها قوي ما تعملوا لينا وجع راس). تذكرت هذه التفاصيل وأنا أتابع بألم حقيقي خبر وفاة مواطني القضارف أمس بسبب انهيار حائط أودى بحياتهم فوراً.
{ السيد والي ولاية القضارف أبدى أسفه الشديد للحادثة وقام بواجباته التي تنحصر في ارتداء جلباب أبيض ناصع البياض وعمامة توتل ربما سويسري وشال من ذات الخامة، وزار أسر الضحايا والشهداء في بيوتهم وألقى كلمة مؤثرة أدخلت الحاضرين في نوبة من البكاء الهستيري، فالاستدلال بالآيات القرآنية والحديث النبوي قد مكن الوالي من إنجاز مهمته على أكمل وجه، ليتفرغ من بعد ذلك إلى صياغة التبريرات الفطيرة للإعلام حتى يتم إغلاق الملف على خير.
{ الأزمة الحقيقية في السودان تندرج في هذا الإهمال واللامبالاة التي يتعامل بها بعض الرعاة والطريقة التي يديرون بها الملفات، لأن لسان حالهم في كثير من الأحيان يندرج تحت مقولة جدتي (هم شن نفرهم) فتنهار الفصول الدراسية على رؤوس الطلاب والعنابر على نزلاء المستشفيات وتنفجر إطارات السيارات بفعل الغش والتقليد، ويموت العشرات في السودان، والتعليب والتبرير سيد للمواقف جميعها.
{ قلنا سابقاً إن السيد “الضو الماحي” لن يفيد القضارف، ولن يتمكن من القيام بإصلاحات شاملة أو محدودة، لان الرجل يفتقد لكل مقومات العمل الإداري الحديث، بالإضافة إلى حراكه المحدود، وقلة حيلته، والطريقة العقيمة التي يتعامل بها في إدارة الملفات في ولاية تعتبر من أهم الولايات في السودان، بل يعول عليها في النهوض بالبلاد اقتصادياً وسد الثغرات والفجوات الغذائية التي ظهرت مؤخراً.
{ انبرى السيد الوالي وحكومته في فترة سابقة، أكدوا من خلالها استعداد الولاية لاستخلاص إجراءات الحج، وأشاروا إلى انسيابية واكتمال الإجراءات، لينكشف أمرهم في كسر من الثانية وينفضح ادعاؤهم بوفاة خيرة شباب وشيب المنطقة الذين راحوا نتيجة وضحية الاستهتار الذي يمارس على المواطن المسكين، إذ أن المكان الذي قرر أن يكون قبلة لبداية التقديم لحج بيت الله، اتضح أنه لا يصلح حتى لاحتواء واستقبال الحيوانات، فالحوائط قديمة والمباني مهلهلة ومفتقدة لكل مقومات العمل الذي ينبغي أن يكون بذات عظمة ومكانة الحج.
{ العيب ليس في الأجهزة المختصة في القضارف بل في أهل الولاية الذين لزموا الصمت، والعبث يضرب بأطنابه من خلال تخبطات وتدهور في مناحي القطاعات الخدمية كافة للدرجة التي بات فيها الموت إحدى الوسائل المنقذة من عذابات تحتضنها الولاية الفاقدة لمعطيات الحياة.
{ انهار القطاع الصحي وباتت المستشفى هي مقبرة لكل المتوجهين إليها، لأن مقومات النظام الصحي مفقودة تماماً، بالإضافة إلى تدهور التعليم وضعف المياه التي أضحت مثل حجوة “أم ضبيبينة” وارتفاع أسعار السلع وانتشار العطالى والسرقات والمخدرات وفشل الزراعة، وامتلاء السجون من المعسرين، والسيد الوالي يتفرج..!
{ قضية القضارف تحتاج إلى ورش تستوعب كل المشاكل المطروحة حتى تتمكن الولاية من اختيار والٍ يتفهم كل المعطيات المطروحة ويعمل على إصلاح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ومن ثم إحداث ثورة إصلاحية تبشر بقادم أفضل.
{ لو كنا في بلد يحترم مواطنيه، ويقدر الروح البشرية لاستقال الوالي قبل أن يتم دفن الشهداء، ولكن من يشرح للضو ما قاله (روك لايتر) في كتابه “المثالية والعمل العام”، حيث قال: (جميل أن تتقدم الصفوف لخدمة البشرية ولكن لا بد أن تتفهم أن العمل يحتاج إلى مواصفات لا بد أن تنطبق عليك حتى تتمكن من القيام بواجبك على أكمل وجه، وإلا فالخروج بهدوء هو أفضل الطرق حتى تحتفظ بمكان مرموق في قلوب الناس).
{ الرحمة والمغفرة لكل الشهداء، ولأهلي في القضارف الصبر وحسن العزاء.