زعيم حزب (البعث) "علي الريح السنهوري" في حوار مع (المجهر) على نار ليست هادئة (2-2):
أظن أن الانطباع الأبرز الذي يمكن أن يخرج به المرء بُعيد فراغه من إدارة حوار مع عضو القيادة القومية لحزب (البعث العربي الاشتراكي) وأمين سر الحزب بالسودان الأستاذ “علي الريح السنهوري” هو أن الرجل يتكئ على إرث معرفي عميق جداً لقضايا أمته العربية، كما أنه يتمتع بقدرة جيدة على قراءة المستقبل والتحليل السياسي المدعوم بذهنية متقدة قادرة على استدعاء الأحداث وربطها.
خلال الفترة الأخيرة تردد اسم حزب (البعث) كثيراً من واقع تجاوبه السريع مع متغيرات الحياة السياسية في البلاد، لعل أبرزها نقده الشديد لميثاق (الفجر الجديد) وتأكيده على مبدأ التغيير السلمي الديمقراطي، بالإضافة إلى المواجهة الحادة بين البعثيين وحزب (الأمة) إثر انتقاد الإمام “الصادق المهدي” لهم، ما أثار غضباً شديداً داخل أروقة الحزب.
كثير من قضايا الراهن السياسي وبعض القضايا الفكرية والسياسية المتعلقة بحزب (البعث) وضعناها على طاولة “السنهوري” ورد عليها بعقل مفتوح قابلاً للنقاش والأخذ والرد… بماذا سألناه وكيف رد ذلك ما ستطالعونه في سياق الحوار التالي:
{ فضلت مسمى الإرادة الشعبية بدلاً عن الديمقراطية وأنا أصر على الديمقراطية لأنها تعني إرادة الشعوب؟
– لا يوجد خلاف، ولكن تعبير الديمقراطية تعبير فضفاض وفهم الناس لها يختلف، نحن جميعاً نناضل من أجل الديمقراطية، ولكن ما هو أعظم منها هو تحرير الإرادة الشعبية، لأن في إطار الديمقراطية الليبرالية العادية عندما يكون الشعب مقسماً إلى طوائف وكل طائفة لديها ثلاثة ملايين صوت… نحن نسعى إلى أبعد من ذلك بحيث يكون كل فرد من أبناء شعبنا يأخذ قراره بعيداً عن أي تسلط أيديولوجي أو جهوي أو قبلي أو غيره من التكوينات البدائية.
{ حسناً.. ولكن تجاربكم في البلدان العربية كحزب بعث عربي غير مشرفة على الإطلاق… هناك تناقض بائن بين دعوتكم داخل السودان للديمقراطية أو ما أسميتها بتحرير الإرادة الشعبية وبين الأنظمة القمعية لنظام (البعث) في (سوريا) و(العراق) التي أسقطت في سبيل تمسكها بالسلطة مئات الآلاف من أبناء الشعب في تلك البلدان… كيف ترد؟
– أولاً نظام الأسد ليس نظاماً بعثياً.. ومنذ (56) قام نظام عسكري وأعدم قادة هذا الحزب ووضع عدداً كبيراً منهم في المعتقلات، وشارك في كل المعارك ضد حزب (البعث).. سلطة حزب (البعث) كانت في (العراق).
{ لكن نظام “الأسد” محسوب على حزب (البعث)…؟؟
– محسوب على (البعث) نعم، مثلما تجد دولة محسوبة على الإسلام و(ليبيا) محسوبة على القومية العربية.. و(البعث) العربي الاشتراكي عندو قيادة معلومة في الوطن العربي وعانى ما عانى من النظام السوري، والذين يخلطوا بين حزب (البعث) وبين النظام السوري يتعمدون ذلك للإساءة لحزب (البعث)، ولكن في (سوريا) حتى قبل أن تصل إليها الانتفاضة، طالبنا نظام “بشار الأسد” بأن يستجيب للحراك الشعبي العربي في هذه المرحلة التاريخية مرحلة الديمقراطية، وأن يبادر هو بإطلاق الحريات العامة والتعددية السياسية وتشكيل سلطة تجمع كل القوى السياسية، أي أن يبادر هو بالمشروع الذي ابتدرته الشعوب العربية برفض الوصاية والتسلط، ولكن في نفس الوقت لا نؤيد قوى المعارضة المرتهنة للأجنبي القائمة في (سوريا) والمرتبطة بـ(أمريكا) و(تركيا) و(قطر) التي تسعى إلى تفكيك (سوريا) لمصلحة الكيان الصهيوني.
{ وماذا عن (العراق) التي مات فيها مئات الآلاف بسبب سعي “صدام حسين” للمحافظة على نظامه البعثي..؟؟
– للأسف كثير جداً من المثقفين في السودان وغيره لم يطلعوا على تجربة حزب (البعث) في (العراق)… (العراق) لم تكن فيه تعددية ولا ديمقراطية عندما جاء حزب (البعث) إلى الحكم.. حزب (البعث) جاء إلى الحكم مرتين الأولى كان بانتفاضة ضد حكم “عبد الكريم قاسم” وقام بثورة ضد حكم الأخوين “عبد السلام” و”عبد الرحمن عارف” كان حكماً ديكتاتورياً وكان البعثيون وقتها في المعتقلات وتحت التعذيب، وقُتل في عهد “عبد السلام عارف” عشرات الآلاف من البعثيين.. ولم يكن هناك نظام ديمقراطي، وعندما أتى نظام حزب (البعث) العربي الاشتراكي عمل على إعادة الحريات العامة وإطلاق سراح كل المعتقلين وإعادة كل المفصولين من وظائفهم، وفتح حواراً مع كل القوى السياسية الموجودة… وكان الحاكم هو حزب (البعث) وليس الشخص حتى مع “عزيز الحاج” الذي كان يحمل السلاح، جاءهم “صدام” وأجرى حواراً مع كل القوى، وإذا طالعت دستور (العراق) كان يقر بالتعددية السياسية وبحق الأحزاب في تنمية نفسها..
{ ثم حدثت الانتكاسة والردة على الديمقراطية بعد ذلك..؟؟
– بعد ذلك ووجه (العراق) بقوى طائفية مرتبطة بشاه (إيران) ومن بعده الخميني وخاميني.. ووجه من البداية لأنه حل المشكلة الكردية وببيان آذار وبتأميم النفط وبتفكيك شبكات التجسس الأجنبي التي كانت مهيمنة في (العراق)، ووجه بعداء قوي جداً من الامبريالية العالمية والصهيونية، وبدأت تجيش في الجيوش والأحزاب العميلة لمواجهة (العراق)… (إيران) من ناحية…. و(أمريكا) و(إسرائيل) من الناحية الأخرى، والرجعية العربية نفسها التي كانت تخشى من شعارات حزب (البعث) باعتباره يمثل حركة النهوض العربي وهي تمثل الرجعية، كانت أيضاً تحارب حزب (البعث).. مع ذلك الحزب خاض معارك قوية جداً.. وإذا تابعت تاريخ (العراق) بعد وصول (البعث) للسلطة تجد أنهم حركوا له تمرداً في المنطقة الشمالية مدعوماً من (إيران) و(أمريكا) وحسب هذا التمرد الاتفاقية، جاء بعد ذلك الشاه “الخميني” ليقود حرباً عنيفة لمدة (8) سنوات وبعد نهايتها بدأ التحرش بـ(العراق) وفرض عليه حصاراً جائراً استمر حتى 2003م، وهو حصار لم يحدث له مثيل في أي بلد في العالم أن تمت محاصرة بلد بهذه القسوة، وأُسقط نظامه بعدوان خارجي شاركت فيه القوى العظمى في العالم بالقوة التي كانت معه لمواجهة المعسكر الشيوعي.. الوضع في (العراق) يختلف… على كل حال تجزئة الوطن خلقت تفاوتاً بين الأقطار العربية وبالتالي جعلت لكل قطر قدراً من الخصوصية، وبهذا لا يجوز مطالبة البعثيين بالديمقراطية في السودان، السياق التاريخي مختلف وهذه كلمة حق أريد بها باطل واحتجاج في غير محله.
{ قبل ذلك انتقد “الصادق المهدي” حزب (البعث) وقال إنه يحدث (شرخ في الوحدة الوطنية) وهددتم بإجراءات ضده إلا أنكم لم تفعلوا شيئاً..؟
– لم نهدد باتخاذ إجراءات… ولكننا قلنا سنرد وفعلاً ردينا عبر لقاءات صحفية وفي قوى الإجماع الوطني، ولكن المشكلة لم تكن بيننا وبين “الصادق المهدي”، بل كانت بينه وبين قوى الإجماع الوطني… نحن كنا نستغرب لماذا يفتح “الصادق المهدي” معركة مع البعثيين.
{ لماذا برأيك..؟؟
– نستغرب هل قضية حزب (الأمة) الآن أن يفتح معركة مع حزب (البعث).. (البعث) يعتز بتراث الثورة المهدية ويعتبرها هي التي بلورت الشخصية القومية للشعب السوداني، وأن الثورة المهدية لم تكن قطرية ولم تكن منكفئة على السودان… “المهدي” كان يسعى لتوحيد الوطن العربي كله.. وأرسل جيشاً لتحرير مصر.. واعتبر “السنوسي” أحد خلفائه الأربعة… و”المهدي” لم يكن قطرياً ولا جهوياً.. فكيف لواحد من أحفاد “المهدي” أن يتحدث عن البعد القومي وكأنه شر على السودان… الآن حاجة (الأمة) للتوحد أكثر منها للتفرق.
{ “الصادق المهدي” دائم الانتقاد لقوى الإجماع الوطني.. هل تعتقد أنه سيشارك الحكومة..؟؟
– هذا السؤال تكرر كثيراً من عدد من الصحافيين، وبالنسبة لنا في قوى الإجماع الوطني إحدى الإشكالات، وأنصحك أن تسأل السيد هذه الأسئلة وترى كيف يرد.
{ بصفتك عضواً داخل قوى الإجماع الوطني وتتأثر عموماً بحركة السيد “الصادق”.. لماذا لا تقول رأيك… وهل تخشى الرد العنيف منه تجاهكم..؟؟
– لا.. لا نحن لا نخشى “الصادق المهدي” ولا (أمريكا) ولا (بريطانيا) ولا غيره، نحن لا نخشى أحداً غير الله سبحانه وتعالى، لكنك سألت أسئلة محددة حول نهج حزب (الأمة)، فـ”الصادق” هو الأولى بالرد عليها.. أما نحن فقد قلنا إن هذا الأمر قد أدى إلى إضعاف المعارضة ككل وليس التحالف فقط… و”الصادق” لم يخرج من قوى الإجماع وفي نفس الوقت مستمر في انتقاد قوى الإجماع والتعرض لها دائماً ولكنه لم يخرج حتى الآن.
{ قلت في حديث سابق إن هوية السودان هي هوية عربية إسلامية.. والواقع التاريخي والحياتي يقول إن السودان متعدد الأعراف والأديان والاثنيات والثقافات… هل من الممكن أن نُسمي ما دفعت به استعلاءً عرقياً وثقافياً..؟؟
– كل دول العالم فيها تنوع، ولكن التنوع لا ينفي الهوية الغالبة في تلك الأقطار.. (فرنسا) و(انجلترا) و(أمريكا)، ونحن نقول إن الهوية الغالبة هي الهوية العربية الإسلامية، ولكننا لا ننكر حقيقة التنوع الثقافي ولا نقبل بكلمة (العرقي) لأنها كلمة بغيضة وغير علمية، النازيون كانوا يعتقدون بنقاء العرق (الآري) وجاء العلم ليثبت أنه لا يوجد نقاء لأي عرق.. والسودان من ناحية عرقية بلد تزاوج فيه الناس واختلطوا وتعددت سماتهم، ولكن الإقرار بالتعدد لا يلغي الهوية الغالبة التي هي الهوية العربية الإسلامية ولا أحد ينكر هذه الحقيقة… نسبة غير المسلمين في السودان بعد الانفصال لا تتجاوز (1%) بينما (99%) هم من المسلمين… سودان ما بعد التفتيت الأول… دعاة التعددية الثقافية نسألهم عن فهمهم للتعددية الثقافية لا نجد إجابة… حتى شعب الجنوب يتخاطب باللغة العربية والتعليم في جوبا باللغة العربية… لسنا ضد التعددية الثقافية… ولكن البعض يريد استعارة الثقافة الأجنبية لإحلالها محل الثقافة الوطنية.. والثقافة العربية لم تفرض على الجنوب بالعكس الانجليز أغلقوه وحظروا الثقافة العربية ومع ذلك تغلغلت نتيجة الحوار الطوعي ولم تفرض، ولكن الآن هناك سعي لفرض الثقافة الأجنبية وهي ليست ثقافة (الدينكا) أو (الشلك).
مقاطعة…ا لتحدث بلغة قوم لا يعني على الإطلاق الانتماء لهم.. في الشمال كانت قبائل المحس والنوبة، وفي الشرق الامرأر والبجة وغيرهم، وفي الغرب قبائل الزغاوة والمساليت وغيرها، وكل هؤلاء أصولهم ليست عربية ولكنهم يتحدثون العربية… حتى دول (أمريكا) اللاتينية تتحدث باللغة الاسبانية ولم يخرج علينا ذات يوم أرجنتيني أو فنزولي أو كولومبي ليقول إنه أسباني..؟؟
{ أنت عنصري ولا شنو…؟
• لا.. لست عنصريا ًولكني انقل تساؤلات عامة…
عندما أقول إن هويتي عربية معناها أنني ألغيت كل التكوينات التاريخية السودانية والأمر الشاهد أن الثقافة العربية ثقافة وافدة، فلا يمكن أن نذوِّب هوياتنا فيها… فبماذا ترد..؟؟
– هذا كلام عنصري….لأنك تحدثت عن الأصول بأننا اثنياً وعرقياً لسنا بعرب.. هل العرب عندهم دم معين… حتى العرب داخل الجزيرة العربية لم يكونوا أصلاً ولا عرقاً واحداً… قالوا انو العرب العاربة القحطانيين هم نتيجة لتمازج أجناس متعددة وحتى قريش من العرب المستعربة من العدنانيين أبناء إسماعيل ..العرب عندما حملوا رسالتهم لكل الوطن العربي الساد كل هذه المجتمعات هي الثقافة العربية ولم يسد العرق أو الاثن لأن هذا شيء غير موجود ولا يمكن احتساب هذا عربي بالشكل…العروبة ثقافة وحضارة والحضارات البائدة القديمة الفرعونية والنوبية وغيرها من الحضارات نعتز بها لأنها تراث لكل (الأمة) العربية وليس للسودان فحسب.. هذا تراث عام نحن نعتز حتى بالتراث الإنساني، فالعروبة ليست شيئاً عرقياً بأن نناهضها عنصرياً بأننا لسنا أبناء عدنان أو قحطان أو كذا هذا كلام عرقي…
{ مقاطعة – فعلا – نحن لسنا أبناء عدنان أو قحطان بل أبناء النوبة و”بعانخي” و”عمارة دنقس”..؟؟
– هذا كلام عرقي لن يستطيع حتى نوبة مصر أن يقولوا إنهم أبناء “بعانخي” ولن يستطيع الأقباط المصريين الادعاء بأنهم أبناء الفراعنة لأنه حدث تمازج نتيجة الحروب والهجرات وتحركات الأقوام والشعوب، والآن منطقة (دنقلا) بها (الميجراب) وهم أبناء الميجر وهم المماليك الذين تراجعوا من مصر وجاءوا إلى جنوب الوادي ولكنهم الآن (اتنوبوا).. نحن لا نتحدث عن أمة عربية بمعنى التماثل التام لأنه ليس موجوداً في أي وطن عربي.. نتحدث عن التعددية أما الكلام عن الفرعونية محاولة نبش وإعادة انو ديك فراعنة ونحن نوبة، وفي (سوريا)… هذا مخطط استعماري لتفكيك (الأمة) العربية ومنع وحدته وبالتالي الاستفراد بكل قطر وتجزئة المجزأ نفسه، نحن نتكلم عن حضارة وثقافة ووجدان وتطلعات مشتركة للحياة إذا كان الأوربيون باختلافهم يدعون إلى التوحد فما بالك نحن المتوحدين لغوياً وتاريخاً وثقافة وديناً لماذا لا نتوحد… لماذا نسعى إلى إبراز التناقضات عوضاً عن إبراز القواسم المشتركة… لماذا؟
{ رأيك في عمليات (الجبهة الثورية) ما الذي سيحدث مستقبلاً…؟
– نحن في البداية رفضنا التصعيد والتصعيد المضاد، ورأينا أن الحوار والحل السلمي للقضايا ونرفض أسلوب العنف الذي يدفع ثمنه السودان وهذا صراع على السلطة وعلى حساب شعب السودان، بل على حساب حركة التغيير الجذري لهذا الواقع، نحن نرفض الحرب وقلت أن نتحاور ألف سنة أفضل من أن نتحارب يوماً واحداً.
{ ثمة قائل إن حزب (البعث) لا وجود له على أرض الواقع.. بل عدد بسيط يتفرق في الجامعات السودانية….؟
– أقول ليك بصراحة هذا سؤال لن أرد عليه.. ولا يوجه إلا لحزب (البعث) ولم اقرأ أي حوار لأي حزب وجه له هذا السؤال، وحزب (البعث) أثبت أنه أكثر فعالية منذ قيام الإنقاذ.
{ ما أعنيه في حال جاءت الديمقراطية.. هل تعتقد أن حزب (البعث) مستعد لاستحقاقاتها وقادر على دخول البرلمان في حال وصلنا صناديق الاقتراع…؟
– مكسبنا ومكسب شعب السودان هو الديمقراطية ونحن لا نسعى للدوائر، وعندما أتت الديمقراطية لم نركز على دائرة أو اثنين بل ترشحنا في (75) دائرة، وكان هدفنا نشر الوعي ولم نكن نعتقد أن هذا البرلمان في تغيير الواقع السوداني وهو مؤسسة ستسيطر عليها الأحزاب الجهوية والطائفية وغيرها ذات الولاءات التي لا تقوم على أسس الاختيار الحر، لأن الإرادة الشعبية ما تزال خاضعة لتسييس جهوي، والقضية بالنسبة لنا ليست أن نصل للسلطة والمشاركة، نحن ندرك أن إسقاط النظام لا يعني حل مشاكل السودان ولكنه خطوة نحو الحل… أي أن نساهم في اطلاق الحريات العامة لشعبنا.