تقارير

(كادوقلي) تحتضن انطلاقة (سيكافا) اليوم وتنشد السلام

(فضلاً لا تذهب).. تلك كانت أكثر العبارات تردداً على مسامعي طوال الأيام الثلاثة الماضية من جميع الذين علموا بتوجهنا مع مجموعة من الزملاء في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة إلى (كادوقلي) أو ولاية جنوب كردفان لتغطية فعاليات بطولة شرق ووسط أفريقيا لكرة القدم (سيكافا)، وتلك العبارة لم تكن وحدها وإنما تلتها عبارات متعددة تحمل في طياتها الطلب والتمني بالعدول عن ذلك القرار الذي عدّه البعض مجازفة أو ضرباً من الجنون.
ولعل الخوف مرده القصف المتكرر للمدينة عبر صواريخ الـ(كاتيوشا) التي كان آخرها ما وصل إلى بعثة الأمم المتحدة العاملة بـ(كادوقلي)، وأدى إلى مقتل فرد وإصابة آخر في نهاية الأسبوع الماضي، بجانب استمرار العمليات التي قادتها القوات المسلحة في اليومين الماضيين لاستعادة منطقة (كويا) على الجبال الغربية، والتوجه كذلك للسيطرة على مناطق ما بعد (كحيلات). والإنسان هو الإنسان، تنتابه لحظات من الرهبة والاهتزاز مثلما تهتز الصخور بفعل البراكين والزلازل، ولكن الذي قدر وقال إن الموت لا تمنعه القصور المشيدة حسم الأمر.
ونحن نجلس في ثكناتنا ونهم بإعداد المواد لإرسالها، نسمع البعض يتحدث همساً عن ضربات وصواريخ سقطت في مناطق بمدينة (كادوقلي)، وعند التوجه بالسؤال إلى رئيس لجنة الأمن والي ولاية جنوب كردفان مولانا “أحمد هارون”، أكد وقوع الحادثة ولكنه قلل منها ووصفها بالمحاولة اليائسة وعديمة القيمة سياسياً وعسكرياً، وأضاف: (لم تترتب عليها أية خسائر أو إصابات وكانت عبارة عن تعبير عن حالة اليأس التي منيت بها الحركات المتمردة نتيجة الهزائم التي لحقت بها)، وذهب إلى أن الحركات تعرضت في الفترة الماضية لضربات وإصابات أدت إلى فقدانها أرواحاً وعتاداً ضخماً، وقال إن ما حدث لن يزيد الناس إلا إصراراً لتقديم حدث متميز من خلال إحكام القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى كامل السيطرة على الولاية والتأمين الدقيق والمحكم للفعالية. وأكد “هارون” أن البطولة قائمة في موعدها ومكانها المحدد دون أن تحدث أية ردة أو انتكاسة، وشكر الجهات التي استجابت للدعوة وشاركت في البطولة، ومن بينها فريق (الضرائب اليوغندي) الذي قال إنه وصل ويضم في بعثته (23) فرداً من بينهم (18) لاعباً و(5) إداريين.
وما أن وصلتنا التصريحات التي أدلى بها والي ولاية جنوب كردفان، حتى شاهدنا بعض الزملاء يعلي من نظراته صوب الجبال الغربية التي وجهت منها القذائف تجاه المدينة دون أن يرى شيئاً يتحرك، فكل شيء كان ساكناً، ويغطي اللون الأبيض فراغ الألوان التي تكسو الجبال، وقد رسم الفنانون مفردات على قمم الجبال تؤكد معانيها بأن (كادوقلي) مدينة الصمود، وهكذا عاد بعضنا إلى داخل الغرف المغلقة.
{ خواجات في المطار
السادسة صباحاً من يوم أمس (الاثنين) كان هو الموعد المحدد للحضور إلى صالة الحج والعمرة بمطار الخرطوم، وجميع الزملاء من الحضور تبادلوا القفشات أثناء تبادلهم التحايا في ذلك الوقت الباكر، الذي ما زالت فيه الشمس تداعب أشعتها الأرض طاردة النعاس ومعلنة عن يوم جديد، أخف ما قيل من مداعبات كان يطلب من الآخرين كتابة وصاياهم وترك صور حديثة في الخرطوم قبل المغادرة، ما يعني أن الجميع تسيطر عليهم بعض هواجس الطيران أكثر من الخوف من الذهاب إلى مناطق الحرب ومصيرها المعلوم.
مدير مكتب التنسيق لحكومة ولاية جنوب كردفان الشاب “أسامة” قابلنا باكراً وهو يكمل إجراءات السفر للوفود كافة، والجميع يدلف إلى داخل الصالة التي اختلط فيها ركاب الطائرات المغادرة إلى مدن السودان المختلفة، الفاصل بينهم فقط هو موعد إقلاعها الذي يحدده مندوبو الشركات بأصواتهم التي تنادي: (هجليج.. هجليج)، وأصوات أخرى تتعالى: (الفاشر.. الفاشر)، وريثما يتوجه المسافرون إلى طائراتهم تلاحظ وجوداً كثيفاً لوفود أجنبية غربية وسفراء ومبعوثي عدد من الدول، من بينهم المبعوث البريطاني الخاص للسودان وجنوب السودان “روبن غوين”، وسفير بريطانيا بالخرطوم، وسفيرة الاتحاد الأوروبي، والسفير الصيني بالخرطوم، وعدد من مندوبي البعثات الدبلوماسية، وقال المبعوث البريطاني الخاص للسودان وجنوب السودان “روبن غوين” في حديث قصير لـ(المجهر) بمطار الخرطوم إنه وعدد  من قادة البعثات الدبلوماسية والمبعوثين في طريقهم إلى مدينة الفاشر لعقد مؤتمر تنظمه بعثة الأمم المتحدة العاملة بدارفور (يوناميد)، وإنه لن يتمكن من الإدلاء بأية معلومات إضافية إلا بعد انتهاء المؤتمر.
{ قصة “أيمن”
هبوط الطائرة في مدرج مطار (كادوقلي) يجعل المتأمل والقارئ لا يستطيع أن يتأمل شيئاً واحداً ويركز عليه، فكل شيء هنا مختلف، حتى الطبيعة، والحرب تتعدد ألسنتها وليس السلاح وحده من يتحدث فيها.. الأطفال الذين يجوبون الطرقات بحثاً عن الطعام والأمن لديهم تعبيرات ولغة تتحدث عن الحرب ببلاغة لا يضاهيها أفصح الخطباء، فـ”أيمن” ابن العاشرة يحمل بين أنامله الغضة أداة حديدية تصدر صوتاً وتنبه إلى أنه يعمل في تنظيف وخياطة الأحذية، (صبي ورنيش).. “أيمن” يدرس في الصف الرابع بمدرسة (تلو)، وحينما يُطلب منه أن يؤدي عمله يجلس القرفصاء ويمسح بالفرشاة التي تزيد في طولها عن يده التي تحن إلى القلم. ويقول “أيمن” في حديثه لـ(المجهر) إن والده يعمل في الحقل الصحي، وإن أدوات عمله باهظة، ويكاد لا يتذكر على وجه الدقة الفترة التي ظل يعمل فيها ومتى بدأ العمل، وكل إجاباته كانت مفتوحة خاصة حينما تتعلق بالزمان.. هذه قصة الطفل “أيمن”، وهناك العشرات بل المئات من أمثاله ممن فقدوا آباءهم أو أمهاتهم بسبب الحرب، وليس الفقدان بسبب الموت وحده ولكن الإعاقة والتشرد تمثل فصلاً آخر يفتح باباً على ناصية التسول كوسيلة لأكل العيش، وأيضاً هؤلاء كُثر هنا من العجزة والنساء والأطفال.
{ روايات الأهالي
أصحاب العاهات المستديمة الذين يعيشون في عالمهم الخاص، أو عالم (الجنون)، من الذين يسيرون في طرقات المدينة المختلفة لا يؤذون أحداً، ولكنهم ينثرون الدعابة بين الناس ويبادلهم الناس العبارات التي تُقال بعد أن يبارح أحدهم المكان، حيث يطلبون من الله لهم الشفاء، ليس لشيء أكثر من كونهم (مجانين) بعد أن كانوا أصحاء حسب روايات الأهالي.
وسوق مدينة (كادوقلي) رغم ما ذكرناه عنه في السطور أعلاه، لكنه بالمقابل يشهد حركة تجارية واسعة من بيع وشراء.. لا يتوقف.. والمركبات القادمة من المناطق خارج المدينة والرحلات العكسية تكاد لا تنقطع في المواقف.. الزي الرسمي لمختلف القوات النظامية هو الأكثر انتشاراً في الطرقات المؤدية إلى المدينة من المطار وحتى السوق، وخضرة الجبال تشابه إلى حد كبير لون أزياء العسكريين، وآثار الأمطار واضحة على الأرض والأجواء مختلفة لا يعكر صفوها إلا ارتفاع صوت الأسلحة.. والناس هنا طيبون وبسطاء حتى أن التواضع يتوارى خجلاً منهم، وطلباتهم وآمالهم يمكن الاستجابة لها، ولكن شعورهم بالخوف جعل الأكثر سلماً منهم هم من يحملون في أيديهم السلاح الأبيض رمزاً للرجولة.
{ إعداد شعبي
المدينة أعدت نفسها وهيأت أهلها لتظاهرة رياضية تتمثل في بطولة (سيكافا)، وثقافية تتمثل في وصول الكثير من أهل الفن والمسرح والإبداع إلى مدينة (كادوقلي)، ومن بينهم نجمة المسرح السوداني “فايزة عمسيب”، وتمثل تظاهرة اجتماعية سياسية لما تحمله من دلالات تتعدى كونها مباريات تنافسية بين فرق وطنية وأجنبية.. فدلالة المكان لها معانٍ أخرى.
وتتعدى تغطية الإعلام حدود أثير موجة إذاعة ولاية جنوب كردفان وإعلامها المحلي الداعم للسلام إلى نطاق الإقليمية والدولية، من خلال الوجود الكبير من المرافقين للبعثات الرياضية القادمة من خارج السودان، إضافة إلى القنوات والصحف الوطنية المحلية.. وزغاريد النساء ورقصات الشباب وتجمهر المواطنين معبرين عن ثقافاتهم المحلية، تصاحبها أصوات النقارة والصافرات وضربات الأرجل على الأرض والربابة والمزمار.
رئيس المجلس التشريعي لولاية جنوب كردفان “عبد الرحمن جبارة عبد الرحمن” أعلن عن اكتمال الاستعدادات لبداية بطولة شرق ووسط أفريقيا (سيكافا) ورحب بوصول الوفود الرياضية والإعلامية والثقافية والفنية، وبدأ في شرح تفاصيل اليوم الأول للبطولة (يوم الافتتاح) الذي سيكون اليوم (الثلاثاء)، وقال إن الافتتاح سيشهد فقرات متعددة، تُقدم من خلالها عروض من الفنون الشعبية والرقصات التراثية والأغاني الوطنية، وأشار إلى أن الألعاب تمثل (47%) من تراث جنوب كردفان، وذهب الرجل في معرض حديثه إلى الإقرار بوجود تحديات تواجهها الحكومة بالولاية من خلال إقامة النشاط الحالي، ولكنه أكد بأن ولايته ستجتاز ذلك التحدي بأمان، ووصف البطولة وما يتخللها من أنشطة وبرامج بأنها تمثل حدثاً كبيراً وإنجازاً، وأضاف: (لن تفشله إرهاصات الحركات المسلحة وتنال منه).. ومضى وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم حكومة ولاية جنوب كردفان “رجب الباشا عمر” في تصريحات صحفية إلى أن ولايته مستعدة للبطولة، وأن الفرق الشعبية التي وصلت بلغ عددها (18) فرقة، وعدّ الحدث أنه يمثل أكبر تظاهرة قومية شعبية تشهدها ولاية جنوب كردفان لما فيها من تعدد للمكونات من مختلف مناطق الولاية، وأشار إلى أن الحدث أكد قوة النسيج الاجتماعي وتصديه لأية محاولات اختراق من قبل من وصفهم بأعداء الوطن، وأضاف: (نحن اليوم نقول للعالم نحن ننشد السلام عبر الرياضة، ونرسل رسائل السلام عبر تعاضد الجميع هنا بالثقافة والتراث والأصالة والإبداع).
{ تاريخ (سيكافا)
بطولة شرق ووسط أفريقيا للأندية المسماة بـ(سيكافا) بدأت عام 1974م، وكان لكينيا نصيب الأسد من بطولاتها لأنديتها بـ(15) لقباً، بينما كانت البداية تنزانية لنادي سيمبا المعروف، وأحرزت تنزانيا (9) بطولات كان لنادي سيمبا (5) منها، وتقاسمت الأندية الكينية قورماهيا وليبارد وتوسكار (3) ألقاب لكلٍ، بينما كانت ليوغندا (5) ألقاب أحرز منها فيلا وحده (3) ألقاب، أما رواندا فلها (3) بطولات موزعة بين كمبالا سيتى ورايون سبورت واي بي آر.. وللسودان لقبان كانا من نصيب المريخ، بينما لم يكن لدول بورندي وملاوي والصومال وزيمبابوي وزنزبار أي لقب لأنديتها.
وقد استبق سكرتير مجلس اتحادات دول وشرق أفريقيا (سيكافا) “نيكولاس موسوني” الكيني انطلاقة البطولة قبل فترة بزيارة إلى مدينة (كادوقلي) استمرت خمس ساعات، وقف خلالها على إمكانيات (كادوقلي) لاستضافة إحدى مجموعات بطولة (سيكافا) للأندية على كأس الرئيس “بول كاجامي” الرواندي. ونسخة بطولة (سيكافا) للأندية للعام الجاري 2013م التي يستضيفها السودان في الفترة من يوم الثامن عشر من يونيو الجاري 2013م حتى الرابع من يوليو 2013م بحاضرتي ولايتي شمال دارفور وجنوب كردفان مدينتي (الفاشر) و(كادوقلي).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية