تحقيقات

بعد حدوث اشتباكات مسلحة ونفوق أعداد من الماشية: منطقة (الباجة).. الرعي على فوهة بركان!!

هكذا بدأت فصول القصة، لحظة انفصال جنوب السودان عن شماله، حين تقلصت مساحات العديد من المراعي المتاخمة لحدود الدولة الجديدة بما في ذلك هذا المرعى موضوع الملف.. قبائل عديدة بمختلف مسمياتها أبرزها بني جرار، الحسانية، الكواهلة، الصواردة، الحسونات، الهواوير، القريات، الشويحات وقبائل أخرى أصبحت تربية ماشيتها تشكل لديها هاجساً في ظل رحلة البحث عن مرعى مناسب عله يقي إبلهم الجوع.. وها هو فصل جديد من فصول الصراع بين المزارعين والرعاة بمنطقة (الباجة الرعوية)، التي تتمدد بين ولايتي شمال كردفان والنيل الأبيض، يتجدد مرة ثانية إلى أن وصل حد الاشتباكات المسلحة مع أفراد الشرطة.. فما أن يبدأ فصل الخريف ويعلن عن نفسه حتى تبدأ أولى مراحل الصراع بين المزارعين وتلك القبائل الرعوية التي تيمم وجهها شطر (الباجة) بحثاً عن الماء والكلأ لقطعانها من الإبل والضأن.
 { مخاوف
ربما بدا الأمر برمته عادياً لدى البعض، ولكن ما أن يتطور الأمر إلى حد رفع السلاح في ظل أوضاع احتلال مدينة (أبو كرشولا) وتحريرها مع الأخذ في الاعتبار أن البعض صار يحمل السلاح دفاعاً عن نفسه، فالأمر يحتاج إلى التروي والتمعن وتدخل السلطات.. وما أن طوت قبيلتا (البزعة) في شمال كردفان و(الشنابلة) في ولاية النيل الأبيض وهما من السكان الأصليين (للباجة) بالإضافة إلى قبيلة (المجانين)، صفحة الخلافات بينهما، حتى اندلعت اشتباكاتهما مع القبائل الرعوية الأخرى التي ترى في ازدياد المساحات الزراعية تغيراً عما اعتادت عليه من مسار لماشيتها طيلة سنوات مضت.
بعض الإشارات بعث بها العمدة “ياسر نوباوي” عمدة قبيلة (بني جرار) وهو يعرب عن تخوفه من تطور الأمر إلى حد فقد السيطرة عليه لاحقاً.. و(بني جرار) هي إحدى القبائل الرعوية التي تضررت من ازدياد المساحات الزراعية وتأثيرها السلبي على  الماشية، الأمر الذي أدى إلى نفوق العديد منها بعد أن مارس السكان الأصليون زراعة السمسم.. وبما أن الأرض خصبة ونتحدث عن خريف وافر فإن إنتاجية السمسم للفدان الواحد بلغت ثلاثة جوالات وهي إنتاجية عالية تفوق مشروع الجزيرة، والأمر يرجع إلى أن الأرض حديثة العهد بالزراعة.
وحسب العمدة “ياسرط فإن ثروة هائلة تمتلكها تلك القبائل تقدر بـ(1,250,000) رأس من الإبل و(3,000,000) رأس من الضأن جميعها تواجه الموت حال عدم توفر المرعى الكافي، خاصة أن أغلب المساحات صارت زراعية.
مخاوف باتت تحدق بالآخرين ووعود أضحت لا تعني الكثيرين، بعد إصدار وزير الزراعة والثروة الحيوانية بولاية شمال كردفان عدداً من القرارات التي تمنع جميع الأفراد والمؤسسات التي لها حيازات بطرق غير قانونية بمنقطة (الباجة) من الزراعة، ويشمل هذا القرار جميع الأراضي الزراعية بالولاية، بالإضافة إلى القرار رقم (63) لعام 2012م الصادر تحت توقيعه، الذي ينص على تشكيل لجنة تخريط المنطقة أصل الخلاف ورفع خريطة مساحية لمحمية (الباجة) تحديداً لحدودها كمنطقة للمراعي، وأكد العمدة في حديثه لـ(المجهر) أن جميع تلك القرارات ضُرب بها عرض الحائط دون أن يُنفذ أي من بنودها لتظل المشكلة قائمة.. مليارات الجنيهات هي قيمة المبالغ التي أضحت على عاتق الرعاة بعد اشتباكاتهم المسلحة مع المزارعين وأفراد الشرطة، ومنهم من بات حبيساً بين القضبان إلى حين سداد ما عليه وقضاء محكوميته.. وهنا أطلق العمدة “ياسر” ومن معه مناشدات إلى بقية عمد ومشايخ القبائل الأخرى للتدخل السريع لدى السلطات بغرض ترسيم المنطقة تفادياً للمزيد من الخسائر في الأرواح والماشية..
بدا العمدة “سالم بلة” عمدة قبيلة الهواوير أكثر انزعاجاً وهو يتحدث لـ(المجهر) عن ما سماه بالهجمة الشرسة التي تواجهها منطقة (الباجة) من قبل بعض القادمين من مناطق وقبائل مختلفة، رفض تسميتها، بغرض ممارسة مهنة الزراعة في منطقة يشهد التاريخ برعويتها.. مخاوف عديدة أطلقها العمدة “سالم” من تطور المشكلة التي قد تقود إلى هلاك الكثيرين إذا لم تتدخل السلطات لفض الاشتباكات، ولكن تظل بعض التساؤلات بحاجة إلى إجابة وهي: أين والي النيل الأبيض ووالي شمال كردفان رغم علمهما بما يحدث وإخطارهما به؟ لماذا فضلا الصمت والنظر إلى المواطنين وهم يشتبكون فيما بينهم؟ أما كان الأجدى لهما أن يتدخلا لفض النزاع وإنقاذ مايمكن إنقاذه؟ ولماذا لم تجد قرارات وزير الزراعة والثروة الحيوانية بولاية شمال كردفان حظها من التنفيذ؟ وإلى متى تستمر معاناة الرعاة الذين باتوا يعيشون الهواجس كلما اقترب موسم رعوي جديد؟ هل ألقت لعنة الانفصال بظلالها على تلك المناطق التي تضررت جراء انقسام الجنوب؟ أم أنه فعل السياسة التي شكلت ملامح دولة جديدة فتقلصت المساحات ولم تعد كافية لهؤلاء الرعاة؟!
اشتباك بين الشرطة والرعاة امتد لأربع ساعات في مشهد يرويه العمدة  “ياسر” دون أن تحرك السلطات ساكناً، ومزارعون اتخذوا من امتلاك السلاح حماية وأمناً لهم ولأراضيهم، التي أفسدت محصولها وطأة أقدام ماشية الرعاة الذين أصبحوا لا يأبهون للوعود طالما أن ماشيتهم بحاجة إلى الكلأ.. “علي سلام” أحد أفراد قبيلة (بني جرار) يحكي عن معاناة العام الماضي وفضهم للاشتباكات التي وصلت في بعض الأوقات إلى استخدام سلاح (الدوشكا)، ويبدي تخوفه من تكرار سيناريو ما مضى، ويقول إن قبيلتهم كان لها نصيب الأسد من الخسائر، فهناك أفراد من القبيلة يواجهون ثمانية بلاغات تقدر جملتها بمبلغ (500) مليون، ويناشد المسؤلين التدخل السريع لإشاعة الأمن بالمنطقة..
لقاء مصغر جاء بترتيب من نائب رئيس الكتلة البرلمانية في مجلس الولايات السيد “هشام البرير” جمع بين وزير الزراعة والثروة الحيوانية بولاية الخرطوم وبين العمدة “ياسر” عمدة (بني جرار)، أفضى إلى الاتفاق بين الوزير ورئيس مجلس الولايات على وضع المشكلة على طاولة مجلس الوزراء للنظر فيها، في وعود تضاف إلى سابقتها دون جديد يذكر.
المشكلة لا تزال بعد قائمة.. والموسم الرعوي على الأبواب.. والسلاح أصبح في يد كل شخص يحمي به نفسه وأرضه.. والمسؤولون فضلوا الجلوس على مقاعد المتفرجين.. والرعاة يطلقون مناشداتهم هنا وهناك لإيجاد حل جذري يمكنهم وإبلهم من العيش ووقف حمامات الدم التي يمكن أن تحدث حال ترك الأمر دون معالجة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية