السفير سراج الدين حامد يكتب حول ما لا يعلمه الناس عن المحكمة الجنائية الدولية
السودان والمحكمة الجنائية الدولية
بقلم السفير / سراج الدين حامد
* سفير سابق بوزارة الخارجية السودانية ومحام و خبير في القانون الدولي
مقدمة:
لا يجوز لأي سوداني أن يكون جاهلاً بطبيعة المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي، إذ أن العلم بالحقائق المحيطة بهذه المحكمة هو المدخل لتأمين سلامة السودان في الحاضر والمستقبل، والجهل بها هو الذي يغري صانعي هذه المحكمة و المتحكمين فيها وأتباعهم في بلادنا من السفهاء والخونة والعملاء بالعبث ببلادنا مما يؤدي حتما لضياع أمة وفقدان دولة وتشتيت شعب وانتصار عدو. ونحاول هنا أن نعطي صورة مختصرة لطبيعة المحكمة الجنائية وإنشائها والدور المنوط بها أن تؤديه، وموقف السودان منها في الماضي والحاضر، وما هو المطلوب من الشعب عامة ومن الحكومة ومن أهل القانون من مساعي تجنب الأضرار الناتجة عن استهدافها للسودان.
أولا، التكوين والاختصاص :
1) تم إنشاء المحكمة الجنائية الدولة بضغوط قوية ومباشرة من المنظمات غير الحكومية الأوربية، وبتشجيع من الاتحاد الاوربي. وهذه المنظمات هي التي حاصرت أعمال اللجنة التحضيرية المكلفة بموضوع إنشاء المحكمة منذ عام 1994م بمسودات معدة سلفاً لإعلان روما المنشئ للمحكمة والذي فرغت اللجنة التحضيرية من صياغته والتوقيع عليه في عام 1998م؛ حيث مورست بعد ذلك ضغوط كبيرة من دول الاتحاد الأوروبي وغيرها على دول ضعيفة لحشدها للتوقيع على إعلان روما 1998م أو الانضمام إليه لاحقاً، دون خضوعه للمناقشة المقنعة وإنما بخياري القبول كاملا أو الرفض.
الهدف من الجنائية هو إنشاء محكمة دولية علي غرار محكمة نورمبيرغ التي شكلها الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية لمحاكمة ضباط النازية الألمانية. لقد نادت المنظمات الطوعية الأوربية بقيام المحكمة لهدف ” إنساني” هو حماية المجتمعات الضعيفة من انتهاكات دولها للقانون الدولي الإنساني وميثاق حقوق الإنسان. ولكن الدافع الحقيقي كما ذكر بروفسير محمود ممداني هو مساندة الاستعمار الجديد لغزو إفريقيا لتحقيق فرصة انتهازية غير أخلاقية ضد الخصم المعاند من خلال المحكمة الجنائية وتبرير أحكام المحكمة كعمل قانوني في نظر المجتمع الدولي. ليتم ذلك باستخدام المحاكمات التي لا سند لها من الوقائع أو القانون لتكون أداة حرب ضد العدو. بمعني آخر الاستغلال البشع للقانون ليكون آلة حرب ضد أعداء النظام الدولي الجديد، ولخدمة استراتيجية حربية في معركة غير متكافئة.
2) تم إنشاء المحكمة في عام 2002م بعد اكتمال توقيع 60 دولة علي ميثاق روما وبحضور أقل من نصف هذا العدد. وقامت المحكمة تحت إشراف الاتحاد الأوربي بتعيين قضاة لها، ليس بمعايير الكفاءة القانونية المميزة عالميا، وإنما باستخدام المعيار التجاري لضمان العائد من التعيين، بعضهم تم تعينهم موظفين من أرائك التقاعد الوظيفي، بعضهم تم تعيينه كمغسلة سياسية، بعضهم دبلوماسيين، بعضهم اتخذ المحكمة محطة انتظار لوظيفة أحسن، بعضهم تم تعيينه مراعاة لدولته الممولة للمحكمة، بعضهم عين ليتخذ أحكاما مفصلية دون أن يكون يوما ما قانونيا ناهيك من أن يكون قاضيا. (من كتاب العدالة المفقودة بروفسير ديفيد هويل تأليف Justice Denied)
3) تهيمن على المحكمة الجنائية خمس دول أوربية لها تاريخ استعماري عريق هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وهي الممول الرئيسي للمحكمة وتقوم بدفع أكثر من ٦٠٪ من موازنتها السنوية، ولها التأثير المباشر في اختيار القضاة والمدعي العام ومساعديه. وهي الدول الساعية لاستخدام المحكمة الجنائية لأهداف سياسية في أفريقيا.
4) في عام 2006م وقع الاتحاد الأوربي اتفاقا مع المحكمة الجنائية نص على حصانة المواطن الأوربي من أية إجراءات جنائية إلا بموافقة الاتحاد الأوربي وبذلك ضمنت الدول الأوربية سلامتها من بطش المحكمة، بينما أصبح نشاط المحكمة الجنائية موجها نحو إفريقيا لمعاقبة المسئولين الأفارقة الذين يقفون حجر عثرة في طريق الاستعمار الجديد، إذ أن جميع المتهمين والمطلوبين في قضايا جنائية لدى المحكمة حتي الآن من المسئولين الأفارقة دون غيرهم.
5) على الرغم من أن المحكمة الجنائية توشحت بالصفة العالمية في اسمها فإن تكوين عضويتها، فيما عدا عضوية الدول الاستعمارية التي أنشأتها أتي من دول فقيرة أو ضعيفة أو لا تأثير لها في الملعب العالمي، بينما غابت عنها معظم الدول المؤثرة، مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان وإندونيسيا وغيرها. فالدول التي امتنعت عن الانضمام للمحكمة تحوز على ثلثي سكان العالم وعلي غالب موارده وتتمتع بقوة التأثير السياسي العالمي، مما يجرد المحكمة الجنائية من الصفة العالمية التي يروج لها.
6) ينص ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية علي اقتصار اختصاصها علي الدول الموقعة علي ميثاق روما وعلي الأفراد الذين يوافقون طوعا علي المحاكمة بها وعلي ما يحيله لها مجلس الأمن من عمل، ولا يمكنها النظر في دعاوي جنائية من دولة غير موقعة علي ميثاق روما المنشئ للمحكمة ولكنها أيضاً محكومة بالطبع بالخضوع لاتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969 م التي تنص في المادة 34 منها علي عدم إجبار الدول غير الموقعة علي الاتفاقيات علي الخضوع لأحكام تلك الاتفاقيات، وبالتالي علي حصانة المسئولين في تلك الدول التي لا تكون طرفا موقعا في تلك الاتفاقيات فيما يختص بالدعاوي الجنائية.
7) ينص الميثاق أيضاً على اختصاص المحكمة الجنائي، إذ جعل اختصاصها مكملاً لاختصاص المحاكم الوطنية فيما يعرض عليها من دعاوي جنائية، بحيث لا تتدخل المحكمة الجنائية الدولية إذا كان القضاء في الدولة الوطنية قادرا على النظر في الدعوي و راغبا في ذلك، فرغبة القضاء الوطني وقدرته هما الشرطان لعدم تدخل المحكمة الدولية.
السودان والمحكمة الجنائية الدولية:
1) على الرغم من أن السودان قد شارك في جلسات مناقشة ميثاق روما في الفترة 1994 – 1998م ووقع على الميثاق فيما بعد مسجلاً ملاحظاته الجوهرية حوله، فإن انضمامه لعضوية المحكمة لم يتم إذ لم يصادق البرلمان السوداني علي ميثاق روما، بل اتخذ البرلمان قراره برفض الانضمام لعضوية المحكمة عام 2007م وقام بتسليم هذا القرار لمجلس الأمن الدولي عند زيارة المجلس للسودان في ذلك العام – وما يزال قرار البرلمان سارياً كتشريع وقانون لم يتم إلغاؤه أو تعديله.
2) في عام 2006م شكل مجلس الأمن الدولي لجنة تقصي حقائق لدارفور حول دعاوي انتهاكات لحقوق الإنسان وارتكاب جرائم إبادة جماعية أو تطهير عرقي وجرائم تحت طائلة القانون الدولي الإنساني. وقد رفعت اللجنة تقريرها لمجلس الأمن وخلص التقرير على أنه على الرغم من عدم ثبوت وقوع جرائم إبادة جماعية أو تطهير عرقي فإن هناك دلائل علي ارتكاب جرائم لانتهاك حقوق الإنسان، وجرائم تحت طائلة القانون الدولي الانساني، وأشار التقرير إلى اتهام طرفي القتال في ارتكاب تلك الجرائم وهما حكومة السودان وحركات التمرد في دار فور.
بناء على هذا التقرير أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1593 بإحالة ملف دار فور إلى المحكمة الجنائية الدولية. وقد قاد مجلس الأمن لإصدار هذا القرار عاملان رئيسان هما الحملة الإعلامية العالمية الشرسة ضد السودان، وتقارير المنظمات الطوعية المتتالية التي جعلت من قضية دار فور الحدث الأبرز في العالم، وكان للوبي الصهيوني الأثر البالغ في التأثير على الإعلام وعلى صانعي القرار العالمي. كما كان لبعض أبناء دار فور في الخارج مساهمة كبيرة في تأجيج واستعار الحملة الإعلامية وذلك لأسباب سياسية تتعلق بمعارضة السلطة. هكذا وجد السودان نفسه محاصراً بوطأة قرارات متتابعة من مجلس الأمن تتضمن عقوبات عدة، مدعومة بسيل من التقارير المضللة حول اتهامه بارتكابها.
وعلى الرغم من أن الاتهام بارتكاب الجرائم قد جاء في تقرير لجنة تقصي الحقائق قد أشار إلي ضلوع حكومة السودان والحركات الدار فورية المتمردة، فإن الحملة الإعلامية أسقطت في اطروحاتها السياسية والإعلامية أي دور للحركات في ارتكاب الجرائم وركزت حملتها في مواجهة حكومة السودان وكأنما هي وحدها المقصودة بتلك الحملة.
3) في نفس تلك الفترة أصدرت حكومة السودان قراراً بتشكيل لجنة وطنية لتقصي الحقائق في أحداث دارفور برئاسة رئيس القضاء الأسبق دفع الله الحاج يوسف، وقد رفعت اللجنة تقريرا مفصلا عن رأيها في الأحداث، وبناء على ذلك أصدرت الحكومة قراراً بتعيين مدع عام لقضايا دار فور برئاسة مستشار رفيع بوزارة العدل، وقد شكل المدعي العام لجاناً للتحري والتحقيق منذ العام 2006م، وتم فتح بلاغات جنائية هناك. كما شكل القضاء محاكم خاصة لمحاكمة المتهمين بجرائم دار فور، وقد أصدرت تلك المحاكم أحكامها في بعض القضايا التي عرضت عليها وحكم في بعضها بالإعدام والسجن على المدانين.
المحكمة الجنائية واتهام مسئولين سودانيين
تجاوزا لما قامت به الدولة من التحقيق والتحري والمحاكمة عمد المدعي العام بالمحكمة الجنائية لويس أوكامبو إلي اتخاذ قراره في عام 2008م بتوجيه التهمة للرئيس عمر حسن احمد البشير ووزير الدفاع الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين و آخرين بارتكاب جرائم في دارفور، وطالب بتسليمهم للمحكمة الجنائية، وصاحب هذا القرار حملة إعلامية سياسية لم تتوقف حتي اليوم، مما يعني أن قضية دارفور ليست قضية محكمة عدلية وإنما هي نتاج صراع دولي علي المصالح والموارد، بين السودان المستمسك باستقلال قراره والاستعمار الجديد الساعي للهيمنة عليه، وأن الأمر كله لا يعدو كونه قضية سياسية استخدمت المحكمة الجنائية الدولية فيها كسلاح حرب توجهه الدول الغربية ضد خصومها بعيداً عن فرص التكافؤ والعدل والمنطق.
ردا على هذه الخطوة أصدرت الحكومة السودانية رفضها للمثول أمام المحكمة الجنائية لعدة أسباب جلية منها:
أولا: إن السودان لم يصادق على ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية فهو إذا ليس عضواً خاضعا لاختصاص المحكمة بنص ذلك الميثاق. وقدر أصدر البرلمان قراره برفض التعامل مع المحكمة الجنائية.
ثانيا: ليس من حق مجلس الأمن إحالة القضية للمحكمة الجنائية في مواجهة دولة غير موقعة على ميثاق روما، وذلك وفق ما نصت عليه المادة ٣٤ من اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات لعام 1969م.
ثالثا: أصدر المدعي العام قراره دون أن يزور هو أو أي من مسئوليه دارفور أو يحصل على أية أدلة مباشرة أو غير مباشرة، وإنما استجابة لضغوط سياسية عالمية مورست عليه من قبل الاتحاد الأوربي وعلى وجه الخصوص من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبعض المنظمات التابعة لهذه المجموعة.
رابعا: المحكمة الجنائية غير مؤهلة للنظر في الدعوي الجنائية ضد المسئولين السودانيين، إذ أنها ليست محكمة عدلية بالمعنى القانوني للمحكمة العدلية التي يطمئن المتهم علي عدالتها ، فالمحكمة قامت علي أكتاف الدول الأوربية ذات المصلحة في قيامها، ويأتي تمويلها في معظمه من خزائن خمس دول أوربية هي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وهذه الدول هي التي تؤثر تأثيراً مباشراً في إختيار قضاة المحكمة والمدعي العام ومساعديه، والمعروف أن من بيده المال والقلم هو الذي يتحكم في الأحكام الصادرة من المحكمة مما يفقدها استقلالها وحيادها.
خامسا: اقتصر نشاط المحكمة علي إفريقيا وصارت كلب صيد استعماري مسلط علي المسئولين الأفارقة المستمسكين باستقلال قرارهم السياسي في بلادهم، وكل المتهمين الذين وجهت لهم تهما جنائية هم من القادة الأفارقة، وقد غضت المحكمة الطرف عن الفظائع العظيمة المرتكبة من الدول المجرمة في حق الشعوب المضطهدة في أفغانستان والعراق وسوريا وفلسطين والروهينقا والايغور، وغيرهم ممن ارتكبت في حقهم جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وانتهاك الحق الإنساني، وهي جرائم لا تحتاج لأدلة إثبات إذ أنها ترتكب علي رءوس الأشهاد وتحت سمع وبصر الإعلام العالمي، ويفاخر مرتكبوها بارتكابهم للجريمة، وليس هناك مقارنة بينها وبين الادعاءات الموجهة ضد الحكومة السودانية في أحداث دار فور.
سادسا: علي الرغم من أن تقرير اللجنة الأممية قد أشار إلي تورط حركات التمرد في دار فور بارتكاب الجرائم المذكورة جنباً إلى جنب مع حكومة السودان، فقد وجهت المحكمة الجنائية الاتهام لمسئولين في الحكومة دون أن توجهها عدلا لقادة تلك الحركات، الذين تمردوا علي سلطان الدولة وبدأوا هجمات مسلحة ضد مطار الفاشر وحطموا وأحرقوا الطائرات ونقاط الشرطة النائية وقتلوا ودمروا وشردوا وارتكبوا الفظائع قبل أن تتحرك الحكومة لمواجهتهم بالقتال. ومن السخرية أن يكون أولئك القادة الذين صاروا مسئولين حكوميين اليوم هم الذين ينادون بتسليم الرئيس السابق وزملائه للمحكمة الجنائية.
سابعا: لقد أثبت السودان بما لا يدع مجالا للشك أن النظام العدلي السوداني مؤهل وقادر وراغب في تولي النظر في كل الجرائم المدعي ارتكابها وتحقيق العدالة باستقلال وتجرد، فأنشأ لجان التحقيق والتحري وقام بفتح البلاغات الجنائية ضد المتهمين، وفتح الباب أمام كل متظلم من المدنيين ليتقدم ببلاده، وذلك منذ عام 2006م قبل أن توجه الجنائية الدولية اتهامها. وهذا الإجراء يقطع أي حجة للمحكمة الجنائية للتدخل وفق ما نص عليه ميثاقها، إذ أن اختصاصها مكمل للاختصاص السوداني وليس بديلا عنه.
تطورات ما بعد التغيير السياسي عام ٢٠١٩ :
الكل يعلم أن الانقلاب العسكري المدعوم عالميا ومحليا قد أزاح نظام حكومة الإنقاذ، وقام بالتحفظ على مسئولين في نظام الإنقاذ علي رأسهم الرئيس البشير ومعاونيه، وقد نتج عن هذا التغيير أن بعض القوي السياسية المعارضة في السابق تبوأت مواقع السلطة بما واقع معلوم بكل عيوبه وثقوبه، وأن خصوم الأمس قد صاروا حكام اليوم. وقد ترتب على هذا التغيير عدة أمور لها تأثيرها البالغ على مصير البلاد، ومن بينها التأثير علي هيكلة الدولة ونظامها الدستوري والعدلي، نوجزه في النقاط التالية:
أولا: إصدار الوثيقة الدستورية للفترة الانتقالية والتي واجهت انتقادات حادة من أهلها وصانعيها بما أظهرته من ثقوب تتعلق بصحة النص المعلن الساري، مقارنا بنص آخر موقعا عليه من الاتحاد الأفريقي وهو غائب عن الأنظار مختف عن التطبيق، وقد نصت الوثيقة علي هيكلة الحكم وعلي قيام مؤسسة تشريعية انتقالية في مدي ثلاثة أشهر يعهد إليها بالتشريع الانتقالي، والآن بعد مضي أكثر من عامين لم تقم المؤسسة التشريعية، ويتم التشريع في الدولة ممن ليس لهم اختصاص تشريعي دستوري، مخالفة للنصوص الدستورية مما يعني بطلان تلك التشريعات. ومن التشريعات الباطلة دستوريا إجازة الموافقة علي الانضمام لميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية، فلا يزال القرار التشريعي الصادر من المجلس الوطني برفض الانضمام للمحكمة الجنائية في 2007م ساريا وملزما للحكومة إلي أن يبطل بقرار من برلمان منتخب.
ثانيا: وقعت الحكومة الانتقالية على وثيقة الاتفاق المبرم في جوبا مع الحركات المسلحة والجبهة الثورية والذي نص من بين نصوصه على إشراك هذا الطرف في الحكم الانتقالي، ونادي ضمن ما نادى بمثول المتهمين السودانيين بقضايا دار فور أمام المحكمة الجنائية الدولية، وبناء على هذا النص أصدر مجلس الوزراء الانتقالي قرارين لم يظهرا حتى الآن في الجريدة الرسمية ولكن تم الإعلان عنهما: وهما :
(1) انضمام السودان لعضوية المحكمة الجنائية و (2) الموافقة على تسليم المتهمين السودانيين للمحكمة الجنائية. وترتب علي ذلك التواصل بين مسئولي المحكمة الجنائية والحكومة الانتقالية، بزيارات عديدة، وهنا أصبح قادة الحركات المسلحة الذين أورد تقرير الأمم المتحدة ضلوعهم في ارتكاب جرائم بدا فور هم المنادون بتسليم الرئيس البشير و زملائه وحدهم للمحكمة الجنائية.
ثالثا: عمدت القوي السياسية الحاكمة في الفترة الانتقالية إلي إحداث ارتباك هائل في النظام العدلي السوداني بتدخل مباشر أنهي خدمة عدد كبير من قضاة المحكمة العليا والمحاكم الأدنى ، وإعادة قضاة سابقين للخدمة في مواقع قيادية بعد انقطاعهم عن العمل لأكثر من عشرين عاما، وتم ذات الفعل في مستشاري النيابة العامة ،إذ تم فصل عدد كبير منهم واستعيض النقص بالتعيين من خارج الخدمة النيابية، وواجهت المؤسسات العدلية تحدياً عظيماً في كيفية الحفاظ علي استقلالها وإفلاتها من التأثير السياسي ، وما تزال الهيئة القضائية محافظة علي ما تبقي من استقلالها في ظل وطأة الضغط السياسي الرامي لانقيادها للأجندة السياسية وفقدانها لهيبة الاستقلال المفضي إلي العدل والاستقامة واستخدامها للأغراض السياسية ومعاقبة الخصوم.
تحليل عام لمآلات قضية دار فور والمحكمة الجنائية :
قضية دار فور بنزاعاتها القبلية المتوارثة خرجت فجأة من مكونها المحلي إلي تدخل خارجي هائل أتي بعد أن لاحت بشائر السلام في حرب الجنوب، وأصبحت في أسابيع قليلة القضية العالمية الأولي، بفعل التضخم الإعلامي العالمي والتدخل الدولي واستخدام المنظمات الطوعية وأخيرا دخولها مجلس الأمن، والتضييق علي السودان بشتى الوسائل وصدور أكثر من خمسة عشر قراراً من مجلس الأمن تحتوي علي عقوبات متنوعة في مواجهة السودان ، ونبتت منظمات جديدة باسم دار فور قامت بالترويج الإعلامي وإرسال التقارير المضللة للإدارة الأمريكية عن السودان واستقطاب الدعم المالي من المجتمع الأمريكي باسم دار فور دون أن يصل منه شيء لمواطني دار فور ، وصدرت ضد السودان عقوبات متنوعة من الحكومة الأمريكية والكونجرس كما صدر قانون معاقبة السودان وفرضت به جزاءات علي الدول والمؤسسات المالية التي تتعامل مع السودان في ظل حصار محكم ضد البلاد ساهم فيه للأسف بعض أبنائها وأوقع أكبر الضرر باقتصاد البلاد وأمنها وعلاقاتها، في غير مبرر منطقي إلا السعي لإضعاف قدراتها والحيلولة بينها وبين التقدم والنجاح والنماء .
إن أخطر ما نتج من تدويل قضية دار فور هو السعي لتمزيق عري المجتمع السوداني الذي يعتبر الركيزة الأولي للبناء والنهضة ، فقد شحنت قلوب أبناء الوطن بالبغضاء والكراهية وروح العداء وزرع الاتهامات المتبادلة والسعي لإفراغ هذه الشحنة بأساليب الدعوة للتشفي والانتقام وغياب روح الود والإخاء والمسالمة والتصالح والتعافي ، وبرزت مظاهر التفكك الأسري وضياع الشباب وانهيار التعليم والبحث عن البدائل في الإغتراب والهجرة غير المقننة ووقوع الآلاف من المواطنين في براثن المنظمات الإجرامية واستغلالهم فيها جنودا مرتزقة وموت كثير منهم في حروب خارجية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وقد ناءت المدن السودانية بحشود من الشباب القادم من الريف وانتشرت البطالة وضمرت وسائل العيش وارتفعت أسعار السلع ، وساد الفقر والحاجة وكل ذلك من أثر التناول الخاطئ لقضية لا تحل بالمحاكم الجنائية الأجنبية ولا بالإدانة الدولية ، ولا بأساليب إشباع روح العداء وبغض الوطن وبيعه بثمن بخس للأجنبي.
ونخلص هنا إلي بعض ما يضئ لنا النفق للخروج من أزمات صنعناها بأيدينا ورجونا الحل فيها من غيرنا:
أولا: ليس في هذا التحليل ما يعفي مرتكبي الجرائم من مسئولية ارتكابهم للجريمة أو الإفلات من العقوبة، سواء كانوا في موقع المسئولية أو خارج الموقع، إن مبدأ سيادة حكم القانون مبدأ لا رجعة فيه، وخضوع المتهم في أي جريمة للقانون والمحاكمة مبدأ متعارف عليه عالميا وإقليميا ومحليا، ويجب أن ينال مرتكبو الجرائم جزاءهم العادل من محكمة عدلية مختصة، وأن يمنحوا حقهم القانوني في الدفاع عن أنفسهم وأن يستعينوا بالمحامين لهذا الغرض.
ثانيا: القضاء الوطني هو صاحب الولاية القضائية علي المواطنين في الدولة، وعلى الدولة أن تعين القضاء فيها على أداء واجباته العدلية بما يحقق استقلال القضاء كاملا دون تأثير حكومي أو سياسي أو استغلال سياسي لصرح القضائية وهيبتها، إذ أن ذهاب هيبة القضاء يفضي عاجلا إلي خراب لا صلاح بعده.
ثالثا: من العيب، بل من الخيانة والمذلة التضحية بتاريخ القضاء السوداني وعظمته وسمعته العالية بتجاوزه والذهاب إلي المحكمة الجنائية الدولية، إذ أن هذه الخطيئة ستدمره للأبد وتذهب بهيبته وسمعته ووقاره وتطرح عنه ثيابه وتزهد المتقاضين في عدالته وتذهب بطمأنينة المتقاضين أمامه، وكل ذلك يذهب ثمنا لقرار خاطئ باللجوء إلي المحكمة الجنائية لإشباع شهوات السياسة وضغائن السياسيين.
رابعا: إن الاحتكام إلى قضائنا الوطني يحقق ما نصبو إليه من عدل إذا ارتضى الكل بالنأي عن اجتذاب خاطئ للقضاء لأجندته السياسية، فمع الأحكام التي تصدر من القضاء يستصحب القاضي الوطني المعالجات الاجتماعية للدعوى الجنائية بما يجلب كثيراً من الرضى للأطراف المتخاصمة ويضمن تماسك المجتمع وذهاب الضغائن والإحن وحلول روح المودة واستقرار الأحوال. إن سياسة تشجيع المصالحات بين القبائل والأفراد ذوي الخصومة هو واجب جليل للدولة الساعية لاستقرارها وأمنها، ولن تستطيع المحكمة الجنائية القيام بهذا الدور ولو كان دافعها فيه الإخلاص والتقرب إلي الله، وذلك لجهلها بالمجتمع السوداني.
خامسا: ليست هنالك أية مصلحة محققة يجنيها السودان من تسليم متهمين سودانيين للمحكمة الجنائية الدولية التي انحطت سمعتها بالفساد المالي الذي ارتكبه بعض موظفيها أو بالفساد الأخلاقي الذي مارسه المدعي العام الأسبق أوكامبو بالتحرش الجنسي و إدانته و بدفع الحكمة الجنائية للعقوبة المالية له. ولقد انفض سامر المحكمة الجنائية إفريقيا بعد اتخاذ الاتحاد الإفريقي قرارا بعدم التعامل معها، وهو القرار الذي التزمت به دول الاتحاد الأفريقي منذ عام ٢٠١٢ ما عدا السودان الذي أعلن انضمامه هذا العام لعضوية المحكمة. فما هو المكسب الذي يجنيه السودان من تعامله مع تلك المحكمة المؤتفكة؟ العكس هو الصحيح، إذ سيخسر السودان سمعته بين الدول وسيخسر احترام مواطنيه إذ ابتاعهم بثمن بخس في سوق النخاسة الدولية، وفرط في الحفاظ علي سيادته وكرامته وعزة أهله، كما قضي علي نظامه العدلي الوطني وطرحه في أرض العدو الموحشة وأفقده احترام الأمة وجرده من سمعته الجاذبة لقضاته للعمل في الدول الأخرى. فليس إذن هناك مصلحة يجنيها السودان من تعامله مع الجنائية الدولية.
سادسا: ينعكس إحالة الدعوي الجنائية للقضاء الدولي علي القوات المسلحة السودانية وقوات الأمن والشرطة الذين يوكل إليهم الحفاظ علي كيان الدولة وأمنها وسلامتها، وهم يرون قادتهم من الضباط العظام الذين خاضوا معهم المعارك الوطنية وتدربوا تحت قيادتهم علي حب الوطن والانضباط والطاعة يروهم اليوم مقادون الي المحاكمات في الدول الأجنبية بإحلال وإهانة تتعدى الأفراد إلي مؤسسة الجيش النظامي وعزته وكبريائه النابع من كبرياء بلاده ، مما يجعل الجيش مستباحاً يسهل اقتياد عناصره الي محاكم الأعداء ، فماذا بقي للسودان من عزة وكبرياء بعدها؟.
سابعا: نلاحظ فرحا مفرطا وتسرعاً لدي بعض المسئولين بدا في تصريحاتهم بالمناداة بتسليم الرئيس ومعاونيه للمحكمة الجنائية، ومرد ذلك ربما لقلة خبرتهم بشئون الحكم. “والله لا يحب الفرحين،” فما نعلمه من تجاربنا مع مسئولي الدول الاستعمارية أنهم لا يحترمون صنائعهم في الدول المقهورة، وإن ظهروا بمظهر الود، وإنما يضمرون الاحتقار لمن يحقق لهم أهدافهم في وطنه ثم يلقون به في المزبلة بعدها، فكثير ممن هلل لتسليم البشير للمحكمة الجنائية سيجد نفسه مقيداً ومساقاً لتلك المحكمة بعد انتهاء المهمة الموكلة إليه من الأسياد. والأمثلة المعاصرة تكثر في ذلك.
الخلاصة:
إن قضية دار فور المحلية لن تحسمها التدخلات الدولية، بل تستخدمها لتنفيذ استراتيجية النظام العالمي الجديد في السعي لتفتيت الدول المستهدفة وخلخلة مجتمعاتها وتشجيع استعار النزاعات المسلحة بها وسلبها أعز ما تملك من قيم وأخلاق ومبادئ وموارد واحتلالها والهيمنة الكاملة عليها في النهاية، وقد بدت نذر ذلك واضحة جلية. كل مواطن سوداني في أي موقع كان، رسمي أم غير رسمي مطلوب منه أن يتخذ موقفا وطنيا غير مرتبط بتدخل أجنبي، مساندا لسيادة القانون في بلده، متجردا من الهوى السياسي خاليا من المكائد السياسية مبتغيا به المصلحة العامة. فإن فعل السودانيون ذلك فسيغشاهم خير وفير وسلام دائم وعيش هنئ وسعادة في الدنيا والآخرة، وإن كانت الأخرى لا سمح الله فنسأل الله اللطف إنه نعم المولى ونعم النصير.