لعنة البُوم في مقتل "كوال دينق"!! هل يغرق السودان في دماء الاغتيالات؟!
لعنة البُوم تلك الكلمات المترعات بالحزن على لسان شاعر من قبيلة الدينكا التي تصدرت صفحات أروع ما كتب البروفيسور “فرانسيس دينق مجوك” في القصص الواقعية، التي تمازج بين الأدب وقصص التاريخ الحديث في منهج أقرب لنظرية (الواقعية السحرية) التي أنجبتها مدرسة “غابرائيل غارسيا” في أمريكا اللاتينية.. و(طائر الشؤم) قبل أن يفرد جناحيه تغنى بأهزوجة:
يا ابن دينق حين يأتي السحر
سوف تدفن طفلاً..
طائر الليل ألقى على والدي سحره
فهو يعلم أين مقابرنا
وأنا أعرف قلب الأم
أمي أمي ابنة دينق
أنا أعرف قلب الأم
الشمس شوتنا حتى احمرت أعيننا
في الجو تطير الطيارات
وعلى القضبان تسير قطارات
ولهذا تهز الأرض طول الليل
هذه الأشعار ترجمت مرتين من لغة دينكا نقوك إلى الإنجليزية لغة نصف العالم ثم إلى العربية، ترجمها الأديب الشاعر “عصام عبد الرحمن” في كتاب (طائر الشؤم) الذي نقله للعربية د. “عبد الله أحمد النعيم”.. وحينما يفرد هذا الطائر جناحيه في الهزيع الأخير من الليل ويصدر صوتاً يثير الرعب في مساكن دينكا نقوك، يخور الثور ويفسر العرافين، وهم آلهة يتعبّد في محرابهم أصحاب الديانات المحلية من الدينكا مثل (ملينقديت) الذي يشفي السقيم من المرض ويبارك أسماء المواليد عند دينكا نقوك.. و”إلياس” أو “بول” هما اسمان لشخصية واحدة، تمثل البطل في رواية (طائر الشؤم) التي تجري أحداثها ما بين بحر الغزال والجمعية التأسيسية، حيث يلتقي “إلياس” أو “بول” وهو نائب عن التجمع السياسي لجنوب السودان بشقيقه “بركة” الذي يمثل حزب أمة الإسلام.. “بركة” تم اختطافه بواسطة العرب في غاراتهم على قرى الدينكا وهو توأم لأخ آخر يدعي “أشويل” سقط من ظهر الحصان وأصيب بعاهة (عرج) مستديمة، بينما فقدت الأسرة ابنها الآخر لينشأ في كنف أسرة عربية (استرقته) كعبد حتى نشأ عربياً رغم ملامح شخصيته التي يقول عنها “فرانسيس”: (كان بركة هو الناطق باسم حزب أمة الإسلام، في الثلاثين من العمر، طويل القامة، نحيف البنية، دقيق الملامح، داكن السحنة، وسيم الهيئة، إلا أن التشابه بين إلياس الجنوبي وبركة الشمالي بمثابة تشابه خارجي، وداخلياً يمثل الرجلان جماعتين مختلفتين عرقياً وثقافياً ودينياً، بل متناحرتين. وبركة يطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية اعتماداً على أغلبية الجماعات المسلمة في السودان وعلى المصادر المالية الغزيرة من الدول العربية الإسلامية، ويهدف حزب أمة الإسلام لرفع راية العروبة ليس في السودان فحسب بل في كل أنحاء أفريقيا.. أما إلياس فيمثل تنظيماً حديث التكوين اسمه التجمع الثوري لأقليات السودان، وهو تجمع يمثل حركة جذرية تهدف لخدمة مصالح الجماعات الريفية المحرومة والجماعات غير العربية في البلاد، لذلك يحظى بدعم من قبائل الشرق والغرب التي احتفظت بذاتيتها العرقية واللغوية رغم تدينها بالإسلام.. ويثير تناقض الرجلين، إلياس وبركة، إحساس كل منهما بأن الآخر يمثل خطراً عليه ونشأت بينهما عداوة وخصومة).. وأحداث الرواية المثيرة تبلغ ذروتها حينما يرتبط “إلياس” عاطفياً بفتاة اسمها “فضيلة” من سوء حظه أو حسنه أنها ابنة خصمه اللدود في البرلمان “محمد بركة” شبيهه شكلاً وخصمه موضوعاً، ويتسلل الحب لقلب الفتاة “فضيلة” وتجد في ابن الدينكا وسيم الطلعة فتى أحلامها وزوجها القادم إذا سمحت تعقيدات تقاليد أسرتها العربية!! ولكن يكتشف “إلياس” أو “بول” في نهاية الرواية أن خصمه (اللدود) ووالد الفتاة “فضيلة” التي عشقها حد أن سنحت له الظروف بالخلوة بها ليلاً إلا أن أخلاق الدينكا عصمته من المساس بها، اكتشف أن “محمد بركة” ما هو إلا شقيقه الذي اختطفته الجماعات العربية في (غاراتها) على الدينكا، وأن “فضيلة” الفتاة التي عشقها هي ابنة شقيقه، ليفضح د. “فرانسيس دينق” في رائعته (طائر الشؤم) مزاعم النقاء العرقي في دولة متمازجة ثقافياً وإثنياً، وخسر ابن “دينق مجوك” كل رهاناته على الوعي العام للسودانيين بخصائصهم وتكويناتهم حينما (اختبرت) مصداقية السياسيين، فذهبت صناديق الاستفتاء بالجنوب بعيداً وبقيت أبيي (رابطاً) يثير المتاعب والرهق، ويهدد من حين لآخر بعودة (البُوم) ليصيح وصوته الأجش مصدر شؤم للعرب البدو والدينكا معاً.. ويصيح البُوم في الغالب نهايات شهر أبريل وبدايات شهر مايو، حينما تبدأ السماء تتلون بالسحابات الماطرة في السافنا الغنية.. ويصيح البُوم مرة أخرى عند حلول فصل الجفاف في نوفمبر وديسمبر.. وحينما يصيح البُوم يبدأ (العرافون) تأويل صيحاته التي تثير الفزع والخوف.
وفي الأسبوع الأول من شهر مايو الجاري صاح البُوم في بلدة أبيي التي اغتال الخلاف السياسي التراضي المجتمعي منذ مئات السنين، وأضحت المنطقة تحت الوصاية الدولية تحميها قوات أثيوبية بقبعات أممية، وتنتظر استفتاءً في عنق السياسيين ربما حرم نصف سكانها من حق تقرير مصيرها، ومنح النصف الآخر امتيازاً مشفوعاً بتحيزات الأمم غير المتحدة إلا في مصالحها وتحت وطأة القهر.
طائر البُوم الذي صاح في سماء أبيي هذا الشهر ردد نغماً قديماً حينما صاح في السبعينيات من القرن الماضي كنُذر شؤم ولعنة، وقبل أن يمضي أسبوع على تلك الصيحة اغتيل السلطان “عبد الله دينق مجوك” بسبب خلافات داخلية لمشيخات دينكا نقوك.. وصاح البُوم مرة أخرى ليقتل بعدها “ماتيت أيونق مجوك” رئيس محكمة أبيي على أيدي متطرفين من أبناء دينكا نقوك من منسوبي الحركة الشعبية.. ويدفع رئيس المحكمة روحه ثمناً لموقفه الرافض لعودة أبيي إلى بحر الغزال مرة أخرى، بعد أن نزعت المشيخات التسع واستتبعت لكردفان بقرار إداري من الحاكم الإنجليزي حينذاك.. ودفعت أسرة “دينق مجوك” الثمن مرة أخرى بمقتل الشيخ حافظ القرآن والفقيه “إبراهيم دينق مجوك” في ظروف غامضة جداً ما بين منطقتي الدبب ولقاوة بغرب كردفان، وأبناء الناظر “دينق مجوك” هم: “عبد الله” الذي قُتل، و”آدم دينق مجوك” الذي أقعده المرض بمدنية جوبا الآن، و”علي دينق مجوك” يعمل تاجراً، و”عثمان دينق مجوك” الذي توفي في الثمانينيات، ثم “أبو لبك دينق مجوك” الذي تم اخيتاره مؤخراً سلطاناً على القبيلة وهو خريج (صيدلية) جامعة الخرطوم شقيق المرحوم “كوال” وكذلك د. “زكريا دينق مجوك” الناشط في المنظمات الطوعية، وكان من قيادات الإخوان المسلمين، عمل في بنك فيصل الإسلامي، و”أروب دينق مجوك” الموظف بدرجة قيادية في شركة سكر كنانة، ثم “فينق دينق مجوك” مدير شرطة جنوب السودان حالياً، ثم “حسن دينق مجوك” الوزير السابق بإقليم كردفان.. والأسرة المفجوعة والمكلومة بمقتل السلطان “كوال دينق مجوك” تميزت عن غيرها من الأسر السودانية الكبيرة بالذكاء الحاد والتعليم الذي ارتقى بـ”فرانسيس” من وزير دولة بالخارجية لأعلى منصب يناله سوداني في الأمم المتحدة عبر التاريخ، حينما أصبح مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون النازحين، ولم يجد الاحتفاء الذي يليق بموقعه المرموق، فضلاً عن تهجمات من مثقفين ساءهم أن يرتقي قرين لهم مكاناً علياً.. وبهذا التميز.. كان الراحل المقتول “كوال دينق مجوك” قد نال القيادة وهو فتى صغير السن، والدينكا يقدسون الزعماء وينزلونهم مقامات القائد الملهم.. وحتى تنتهي لجنة التحقيق التي ينتظر أن تبدأ أعمالها في غضون الأيام القادمة، فإن مقتل السلطان “كوال دينق مجوك” يمثل نقطة مهمة في لجنة بحر الاغتيالات الذي غرقت فيه مراكب السودان لفترة ليست بالقصيرة، ولم تعرف الممارسات السياسية للأحزاب الطائفية الوطنية الإقصاءات من مستوى الوجود والفعل، ولم تخضب أحزاب مثل الاتحادي الديمقراطي والأمة وحركة الإخوان المسلمين أياديها بالدماء. ويعدّ اغتيال السياسي الوحدوي “وليم دينق” في منطقة رومبيك على أيدي مجهولين بعد ثورة أكتوبر أول حادثة تصفية جسدية، و”وليم دينق دفع ثمن تحالفه مع “الصادق المهدي” و”الترابي” ضمن قوى جديدة أطلت في ذلك الزمان مناهضة للتيارات الانفصالية.. وتعددت الروايات عن مقتل السياسي “وليم دينق”، وبينمّا حمل “أبيل ألير” في كتابه (جنوب السودان التمادي في نقض العهود والمواثيق) الأحزاب الشمالية مسؤولية تصفية “وليم دينق”، ذهب السياسي الراحل “صموئيل أرو بول” في مذكراته التي صدرت في لندن إلى أن الجيش السوداني هو من تولى تصفية “وليم دينق”، وللواء (م) “الخير عبد الجليل المشرف” الذي كان برتبة الملازم في رومبيك رواية يباهي بها عن مشاركته في الحادثة!!
وتخضبت أيادي متمردي الجيش الشعبي في جنوب السودان بدماء قيادات عديدة مثل “عبد الله شول الأحمر” و”صموئيل قاي توت” وهما قائدان لحركة الانانيا التي تمردت على مايو قبل أن يسرق الأثيوبيون نضالها ويغدروا بها لصالح “جون قرنق” الذي أعلن مسؤوليته عن تصفية القاضي “مارتن ماجير” من أبناء جونقلي (مدينة بور) لمعارضته تحالف “قرنق” مع بعض القوى الشمالية.. وتوالت الاغتيالات لقيادات الحركة الجنوبية من “وليم نون” و”كاربينو كوانجين” حتى التصفيات الأخيرة لبعض قيادات المعارضة الجنوبية.. والشمال شهد أيضاً تصفيات واغتيالات على أيدي شماليين وأجانب كاغتيال الصحفي “محمد مكي”.. واغتيال البعثيين لـ”مهدي الحكيم”.. واغتيال الفلسطينيين لبعض الشخصيات كحادث الأكربول.. وفتحت حركات دارفور صفحات ملطخة بدماء الأبرياء، وكان اغتيال د. “خليل إبراهيم” رغم ما يحيط به من غموض شديد وتعدّد الروايات وتضاربها، الذي مثل نقلة نوعية في الصراعات السودانية، وفتح صفحة جديدة في التاريخ.. واغتال من بعده فصيل حركة العدل والمساواة المنشقين عنه “محمد بشر” و”أركو سليمان ضحية” داخل الأراضي التشادية، وفصول مؤامرة تلك الجريمة البشعة لم يُكشف عنها بعد، وتحيط بها الشكوك هل نفذتها حركة العدل من وراء ظهر الحكومة التشادية والرئيس “إدريس دبي”؟ أم أن المناوئين لـ”دبي” من أسرته وعشيرته متورطون في الحادث؟؟ وهل تحقق في جريمة الاغتيال جهات دولية؟ أم القضاء والشرطة التشادية باعتبار الأرض التشادية هي مسرح الجريمة البشعة التي هزت ضمير العالم؟!
ولكن الاغتيالات السياسية حينما تتفشى في بلد كالسودان تضعف قواه وتبدد ثروته وتحيله إلى مستنقع آسن.. وقد كانت لبنان في حقبة التسعينيات هي موطن للاغتيالات!! وقد تعافى كل العالم من مثل هذه الأمراض إلا باكستان والعراق بعد الاحتلال.. والسودان الذي كان يباهي بعفة الصراع السياسي بين تياراته أخذ يشرب من إناء تأففت منه الشعوب وأقلعت عنه منذ سنوات طويلة.. والسودانيون لا يتعلمون من التجارب.. وفي غضون شهر واحد حصد الموت ثلاثة من القيادات المؤثرة جداً على المسارح التي توجد بها، أولهم السلطان “كوال دينق مجوك” والثنائي “محمد بشر” و”أركو سليمان ضحية”!! فهل بزغت في بلادنا حقبة الاغتيالات والإقصاءات وبحور الدماء؟!