عمالة الأطفال .. ضياع الحاضر والمستقبل
عمالة الأطفال واحدة من الظواهر السالبة التي انتشرت في الآونة الأخيرة وتفشت وعمت كل المدن، فأضحت مثلها مثل التسول وغيرها من الظواهر التي دائماً ما يكون ضحاياها الأطفال، حيث نجد ذويهم بدلاً من أن يشكلوا لهم حائط صد وسياج حماية يدفعونهم طوعاً إلى الشارع الذي يفضي بهم إلى مسالك خطرة، تعرضهم لكل الانتهاكات والممارسات السالبة التي تؤثر في تركيبتهم النفسية والجسدية. مجموعة من الأطفال بمختلف أجناسهم وسحناتهم وأعمارهم يجوبون الآن الشوارع والأزقة والحواري، منهم من أجبرته الظروف ليجلس بذلة تحت أقدام الكبار يمسح أحذيتهم، وغيرها من المهن القاسية، فكم من صغير علق بأبواب (مركبات النقل العامة) يفرقع أصابعه طلباً لثمن التذكرة، وقد تطاله يد أحدهم كلما احتدم النقاش، وكثيراً ما تجدهم يمرون بين السيارات عند التقاطعات محملين بأصناف وأشكال من البضائع، معرضين حياتهم للخطر، وبعضهم يمشطون الأسواق حاملين (باقات) لبيع الماء والعصير ناءت ظهورهم عن ثقلها وهم يلهثون خلفك وقد تصبب عرقهم، وغيرهم يلوحون بأكياس النايلون يستجدون المارة لشرائها.
القضية استوقفت الجهات المعنية فقامت بجراء العديد من المسوحات والخطوات التي من شأنها تقليص هذه الظواهر إن لم تقضِ عليها تماماً، لكن يبقى الحال كما هو عليه. وليس ببعيد وجود عدد مقدر من الأطفال تحت البصر على مدار اليوم وفي كل الأمكنة. ماذا قال الأطفال الذين التقت بهم (المجهر) وبماذا أجابت بعض الأمهات.
اللعب بين إطارات السيارات
عند تقاطع شارع (المك نمر) مع شارع الجامعة وفي عجالة سألنا الطفل “عثمان” الذي كان يتسابق مع بقية أقرانه للفوز بزبون يروي عطشه ومن ثم (يبل ريقهم) الذي جف في حلوقهم بحفنة المال. سألناه إن كان يدرس ومن أين جاء، فأجابنا بابتسامة عريضة أنه من شرق النيل (الحاج يوسف)، يدرس بالصف الخامس (بداية العام) وهو يعمل حتى يوفر مصروفات الدراسة والزي المدرسي، وعن دخله في اليوم قال إن ربحه لا يتجاوز العشرة جنيهات فما دون يضيع نصفها في المواصلات. وقبل أن أزيد أذنت الإشارة بالمرور، تركته وأنا أدفع ثمن ثرثرتي قارورة ماء ساخن لم أكن في حاجة لها.
ونحن نتجول في سوق بحري قبالة زنكي الخضار حاصرنا عدد من الصبية الذين يسوقون أمامهم (درداقات)، ناداني أحدهم بقوله (يا خالة ما دايرة توصيلة)، ولما كانت الأشياء التي في معيتي لا تحتاج إلى شيال، اعتذرت له، لكن تحت إلحاحه استجبت له ووضعت حاجياتي في كرش درداقته، سرنا وأنا أوسعه بوابل من أسئلة كاد من سخونتها أن يرمي أشيائي ويفر فرار المجذوم من النار قبل أن يسألني (انتو محلية ولا شنو؟)، ومن خلال ردوده استقيت أنه يسكن بحري، ويستأجر هذه الدرداقة من أحد معارفه بعشرة جنيهات في اليوم رغم أن دخله يتراوح ما بين خمسة عشر إلى عشرين جنيهاً، وأضاف معقباً صاحب الدرداقة يستفيد أكثر مني وهو قاعد في الضل. هذا الطفل كغيره ممن حرمهم المجتمع حقهم الطبيعي في الحياة، ترك المدرسة بعد نهاية السنة الثانية، فهل تسعى إدارة التعليم لاستيعاب هؤلاء الأطفال من الشوارع وإلحاقهم بركب التعليم؟.
خروج للعمل الجماعي
(توهطت) سيدة في صدر (بنبرها) واصطفت أمامها مجموعة (حلل) مجلية بعناية وصحون وغيرها من الأواني وهي لا تفتأ تجهز وتوزع طعامها بين الزبائن الذين جلسوا إليها قبالة تلك المؤسسة العريقة، وليس ببعيد عنها ابنها صاحب العشر سنوات وهو يتحرك كالنحلة يجمع الصحون وينظف المكان، فيما تجلس بقربها ابنتها ذات الإثني عشر ربيعاً تغسل الأواني، فاجأتها بسؤال مباغت لماذا تحضر معها أطفالها ومكانهم الطبيعي البيت، ردت متأسية منذ هجرنا أبونا (زوجها) هارباً إلى جهة غير معلومة منذ أكثر من سبع سنوات، خرجنا للبحث عن الرزق الحلال، وأشارت إلى أنها تعمل في بيع الطعام حتى قبل هروبه، لكنها اضطرت لاصطحاب أولادها في العطلات فقط لمساعدتها كي لا تضطر لاستئجار عامل حتى تؤمن لهم مصاريف الدراسة. تناولت منا الحديث جارتها التي تعمل في بيع الشاي مضيفة، يا أختي الظروف بقت صعبة شديد، هسه أنا وأولادي نطلع من الصباح نقفل بيتنا ونتفرق في القبل الأربعة نلقط رزقنا بعرق جبينا، ودايرة أقول ليك حاجة أغلبية النسوان العاملات هن وأولادهن إما أرامل أو مطلقات، وبعضهن أزواجهن مقعدين أو هاربين من المسؤولية.
الأثر النفسي لعمالة الأطفال
تقول دراسة أجرتها الطالبة “سهام محمد عبد الله” تؤثر عمالة الأطفال سلباً على النمو المعرفي للأطفال العاملين وذلك قياساً بالأطفال غير العاملين، كما تؤثر سلباً في إشباع الحاجات النفسية لديهم قياساً بغير العاملين، وكذا في النمو المعرفي وإشباع الحاجات النفسية. وتدل هذه النتائج على أن عمالة الأطفال تصبح سالبة عندما تحرم الطفل من مواصلة تعليمه، فتؤثر بذلك على نموه المعرفي وعلى إشباع حاجاته النفسية. إلى ذلك أشارت الدراسات الصادرة في الأعوام الماضية عن المجلس القومي لرعاية الطفولة إلى أن نسبة الأطفال الذين أكملوا الدراسة الابتدائية في ولاية الخرطوم بلغت (72%) فقط، وذكرت الدراسة أن نسبة (34%) من الذين تركوا الدراسة تركوها بسبب إخفاقهم في تسديد مصاريفها، وبيِّنت الدراسة أن نسبة عمل الأطفال في الشارع والأسواق وصلت إلى (75%) ويتعرض (25%) منهم للحر والشمس، وأظهرت الإحصائيات نفسها أن نسبة كبيرة من هؤلاء تسكن في مكان العمل، كما أن بعضهم لا يتقاضى أجراً، بل يعملون لساعات طويلة من أجل المأكل والملبس فقط.