تحقيقات

داخل (دار المايقوما).. مواسم تلد الشقاء!! لماذا يتدفق الأطفال إلى الدار في هذه الفترة تحديداً؟!

لم يكن لأحد منهم أن يتوقع ذلك المستقبل المجهول الذي يعيشه الآن، فقد ارتسم الشقاء على محياهم رغم ابتسامتهم وضحكاتهم.. لا يعرفون من هم ومن أين جاءوا ولا إلى أين يتجه مصيرهم!! تحاصرهم المخاوف والمخاطر من كل جانب، وعلامات الاستفهام  تطل برأسها كل ثانية.. أين ومتى وكيف وماذا و… لماذا؟؟ لماذا ارتضى آباؤهم أن يصبح لقب (مجهولي الأبوين) عنواناً لهم؟ وكيف استطاع شيطان شهواتهم أن يمد أذرعه ليحجب رؤاهم ويصيبهم بصمم؟ ألا تحن تلك الأرحام التي لفظت حملها إلى ما كانت تحمل؟!
أرتال من الهمّ أضيفت إلى عاتقهم وهم يستمعون ويلحظون همزات  غيرهم.. ينعتونهم بما ليس لهم ذنب فيه حين يكبرون ويختلطون بمجتمع ترك الجاني وتمسك بالضحية.. جناة جعلوا من العبث بحياة الآخرين مصيراً مظلماً عندما كانت شهوراً وليالي بعينها شاهدة على جرائمهم.
 { الأسرة البديلة
أحاسيس عديدة انتابتني وأنا أضع قدميّ على أعتاب (دار المايقوما).. لم أستطع تلمس أياً منها ولا معرفة كنهها، ولكن ما بين الشفقة والغضب وجدت نفسي.. ومابين الطفلين “سعيد” و”أبو هريرة” شعرت بالارتياح وأنا أحملهما كلاً على حدة، تشبثهما بي وإصرارهما على عدم تركي لم يكن سوى دليل قاطع على أنهما يحتاجان إلى صدر يحنو عليهما.
 وفي ثنايا هذا الملف ربما بدا أمر ارتفاع معدلات العثور على الأطفال مجهولي الأبوين في أشهر بعينها أكثر إثارة للجدل.. إذ أرجعه متابعون إلى تزامنه مع مناسبات من بينها أعياد (الفلانتين) و(رأس السنة).. بعض الإشارات أطلقها دكتور “جمال يوسف” مدير مشرحة أم درمان وأنا أستمع إلى حديثه في ذات الإطار، وقبله عديدون، حين قال في حديثه لـ(المجهر) إن غالبية جثث الأطفال حديثي الولادة يتم العثور عليها خلال أشهر معينة، وعند رجوعهم إلى البحث في الأمر لاحظوا تزامن حدوث الحمل مع تلك الأعياد- أي رأس السنة وعيد الحب!   
العميد “خالد يس” مدير إدارة الشقق المفروشة رجل أنهكته الاستعدادات والضوابط المشددة التي تواجههم نهاية كل عام وبدايته، وجهوده المقدرة أسفرت هذا العام عن (رأس سنة) خالٍ تماماً من البلاغات في إنجاز يحسب له بعد أن تم إلغاء حجز أكثر من (20) شقة من قبل (المستأجرين) وفقاً لضوابط تلزم أصحاب الشقق بعدم الإيجار إلا بتصديق من الإدارة والإتيان بضامن يكون من أقرب الأقربين.. تلك الضوابط المشددة جعلت من أسعار الشقق بمدينة بورتسودان أمراً (خرافياً) هذا العام.. ورغم أن الأستاذة “زينب أبو جودة” مدير عام (المايقوما) لم تجزم بحقيقة ما يحدث خلال هذه الأشهر، إلا أنها لاحظت كثافة عالية لدخول الأطفال حديثي الولادة إلى الدار خلال (سبتمبر) و(نوفمبر)، حيث يتراوح المعدل ما بين (60 – 58) طفلاً يومياً، بينما ينخفض المعدل إلى (45 – 44) في الشهور الأخرى، ولكن تظل الحقيقة الجازمة هي أن معدلات الدخول تشهد ارتفاعاً ملحوظاً، ففي المتوسط تستقبل الدار من حوالي ثلاثة إلى أربعة أطفال يومياً، وفي أحايين يصل العدد إلى خمسة، إلى أن فاق عددهم الـ(250) طفلاً وهي السعة الاستيعابية للدار، وفي شهر رمضان الماضي وصل عدد الاطفال إلى (400) طفل، الأمر الذي جعل من المكاتب غرفاً تحوي الأطفال.
{ أعباء إضافية
 رغم أن إدارة (المايقوما) ومن قبلها وزارة الرعاية استطاعت توفير الجو المناسب لهؤلاء الأطفال للعيش في بيئة نظيفة وآمنة والتكفل بما يحتاجون إليه من تعليم وترفيه وعلاج، حيث للدار (عنبران) باسمها أحدهما بمستشفى (جعفر بن عوف) والآخر بمستشفى (الأكاديمية)، إلا أن أعباء إضافية تتحملها الجهات المسؤولة ممثلة في وزارة الرعاية والتنمية الاجتماعية، التي كان لها نصيب الأسد في توفير احتياجات الدار بنسبة (80%)، وارتفاع مؤشر دخول الأطفال (مجهولي الأبوين)، أمر شكت منه الأستاذة “زينب” وعدته من أهم المشكلات التي تواجههم بعد أن فاق عدد الأطفال طاقة الدار الاستيعابية رغم التوسع في مبانيها.
تكلفة عالية جداً تتحملها الدار مقابل الطفل (الواحد) تصل إلى (1400) جنيه في الشهر، حيث يحيط به ثمانية أفراد ممثلين في الطبيب وممرض الدم والمشرفة والمنظفة ومسؤول التغذية.. الخ، الأمر الذي نتج عنه ما يسمى ببرنامج الكفالة أو الأسر البديلة، وهو أحد برامج الرعاية الأسرية الذي تمخض عن تعاون بين الـ(يونيسيف) ووزارة الرعاية.. أهداف عديدة صاحبت قيام هذا المشروع تمثل أولها في خلق جو أسري للطفل، إلى جانب تخفيف العبء عن الدار، والتقليل من التكلفة العالية التي تقلصت بفضل الأسر البديلة إلى (400) جنيه شهرياً.
 { “أبو هريرة” ورفاقه
الأم البديلة لم تكن مجرد لقب ارتضته بعضهن لمشروع كان الغرض منه التخفيف من أعباء الدار والتقليل من عدد الأطفال الذي فاق سعته الاستيعابية فحسب، بل كن أمهات حقيقيات يؤدين كامل الواجبات، وحسب الأستاذة “زينب”، فإن نسبة النساء اللائي قمن بكفالة الأطفال كفالة دائمة بلغت (35%)، وهناك أمهات كفلن أكثر من طفلين.. وللكفالة شروط مشددة تقتضيها إدارة (المايقوما) ليس الغرض منها التشدد في الإجراءات فحسب، بل الهدف منها توفير حياة آمنة ومستقرة للطفل الذي يخرج عن طريق مكتب الكفالة بعد الإتيان بموافقة الزوج أولاً، وفي حال كانت الزوجة أجنبية تؤول الكفالة إلى زوجها، بالإضافة إلى إحضار المستند الرسمي للزوج والزوجة معاً وإقرار من اللجنة الشعبية، إلى جانب شهادتي السكن وحسن السير والسلوك، والأمر ذاته ينطبق على الولايات بعد استخراج الأوراق كافة من الولاية المعنية.
تعمدت البقاء لوقت أطول بين “أبو هريرة” ورفاقه.. تجولت بينهم وفي معيتي موظفة الاستقبال ترشدني وتعرفني على جميع الأقسام.. وأكثر ما يلفت الانتباه، تلك المغسلة الضخمة التي تحوي عدداً كبيراً من الغسالات الـ(أوتوماتك) بلغ العشرين، التي تعمل بنظام التعقيم دون أن تختلط ملابس الغرف ببعضها البعض.. وداخل الغرف اصطفت الأسرّة، حيث يوجد الأطفال، وعلى قدم كل منهم وُضعت ديباجة تحمل اسمه، وهي أسماء اطلقتها عليهم إدارة الدار جزافاً علها تقيهم أوجاع الزمان وغدره، وهم لا يأبهون، يلعبون ويضحكون وأحياناً يبكون، فكلما جاءهم زائر تشبثوا بعنقه رافضين النزول وكأنهم يعلمون أن مكانهم الحقيقي ليس هنا، مثلما  فعل معي الطفلان “أبو هريرة” و”سعيد” اللذان فارقاني بالدموع واكتفيت بالنظر إليهما والتحسر على حالهما.
 { تسمم
الحليب و(البامبرز) يحتلان المرتبة الثانية في قائمة ما تعانيه الدار من مشكلات.. ورغم دعم الدولة إلا أن التكلفة عالية جداً لتوفير هذه الاحتياجات، حيث يتم يومياً استهلاك (60) علبة حليب (بيبيلاك ون) أي ما يعادل (كرتونتين ونصف كرتونة) للأطفال من عمر يوم إلى ستة أشهر، بالإضافة إلى (16) علبة (بيبيلاك تو) من عمر ستة أشهر ألى عام.. و(البامبرز) لا يقل استهلاكاً عن الحليب، فالدار تستهلك يومياً (25 كرتونة) منه، وقد تصل إلى (30 كرتونة).. ولم تتردد أيدي الخيريين في تقديم المساعدة والعون، وكذلك ديوان الزكاة الذي يدعمهم عن طريق الوزارة، ولكن حسب مدير الدار، فإن الألبان التي تأتيهم من الخيرين لا تحوي جميعها الـ(بيبيلاك)، وهم كإدارة يستخدمونه بمشتقاته ويتم تحضيره بواسطة معمل اللبن بعد مروره بمراحل عديدة من التعقيم إلى الوقاية من الأمراض.. ولما كان تسمم الدم من أهم الأسباب التي تؤدي إلى الوفاة، استطاعت الإدارة التقليل من معدلاتها لتصل نسبة الوفيات إلى (7%)، والسبب أن أغلب الأمهات وهن ما دون العشرين يحاولن إجهاض أنفسهن باستخدام السموم للتخلص من حملهن.
{ جب مجهول وذكاء خارق
ولما كانت مدير الدار دائمة الحرص على النظر في الشهادات المدرسية لهؤلاء الأطفال بعد أن ينتقلوا إلى دار الأولاد أو دار البنات بعد عمر الأربع سنوات باستثناء ذوي الأمراض المستعصية ومعلومي الأبوين أو من كانت امه بالسجن وليس لديه من يكفله، فهي تصفهم بالذكاء الخارق، وتؤكد أنهم يتعايشون مع وضعهم دون مشاكل نفسية، وهنا تحرص الإدارة على أن لا تتم الكفالة بنسب الطفل إلى اسم الكافل، وتحبذ أن تخبره الأسرة البديلة أو الكافلة بحقيقة وضعه تجنباً لما يحدث في المستقبل..
 ليس كل الأطفال الموجودين بـ(المايقوما) مجهولي الأبوين.. هذه حقيقة قطعت بها مدير الدار، مشيرة إلى أن العديد من الأمهات يأتين عبر أسرهن لإيداع الطفل بالدار ومتابعته من وقت إلى آخر، مؤكدة نجاح مكتب (عدم الانفصال والدمج الأسري) الذي كان له الفضل الكبير في إقناع الأمهات بعدم ترك أطفالهن، وهناك من تزوجن ووفقن أوضاعهن وعدن مرة أخرى وأخذوهم للعيش إلى جوارهن، ولكن قطعت مسؤول الدار بأن هناك حوالي (75%) من الأمهات لا يأتين مرة أخرى، وفضلن إغلاق هواتفهن حتى لا يتم التوصل إليهن تاركات أطفالهن في غياهب جب مجهول.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية