قصة الصيف الدامي من (الدندرو) إلى (أبو كرشولا)!! (2 – 3)
{ قصة حرب الصيف التي بدأت في (الدندرو) شرق كادقلي لن تنتهي بالهجوم الذي تم دحره في (أم برمبيطة) الأحد الماضي، وتكبيد المتمردين خسائر فادحة في الأرواح والعتاد العسكري.. وفي كل من (الدندرو) و(أبو كرشولا) فظائع ارتكبت بحق المدنيين من قبل متمردي قطاع الشمال المسنودين بقوات الجبهة الثورية الدارفورية.. ولنبدأ أولاً بما حدث في منطقة (الدندرو)، معقل المقاومة الشرسة للتمرد في سنوات ما قبل 2005م، حيث استعصى على المتمردين منذ عام 1984م – حينما دخل التمرد جبال النوبة بمناطق (القردود) جنوب شرق تالودي – الاقتراب من الريف الشمالي لكادوقلي .. ولكن الآن أصبحت مناطق الريف الشرقي في قبضة التمرد من (عقب) و(كوراك) و(بجعاية) و(الدندرو) و(آيري)، وفر العرب البدو من مناطق (أبو سفيفة) و(بطحة) و(وادي أم سردبة) و(بطحة أم درافي) و(البطاح)، وهي أراضي غنية بالموارد المائية والعشب – عبارة عن (خيران) موسمية يتخذها البدو (مصائف) للثروة الحيوانية – أضحت كلها تحت سيطرة المتمردين الذين يستخدمون أسلحة حديثة ويمتطون سيارات الـ (لاندكروزر).
وفي منطقة (الكويك) تحدث لـ (المجهر) القيادي في قبيلة (الرواوفة) العمدة “أبو شوك”، قائلاً: من أسباب سيطرة التمرد على الريف الشرقي لكادوقلي أن المواطنين تم التضييق عليهم اقتصادياً بحجة أن هناك بضائع يتم تسريبها للمتمردين من خلال تجارة (السمبك).. وطالب العمدة “أبو شوك” الحكومة بوضع قواتها خلف القرى والفرقان وحمايتها من التمرد، والحكم بالإعدام على أي شخص يمد التمرد بالوقود والتمون.. ولكنه رفض التضييق على المواطنين، وقال: النازحون من (الدندرو) يرفضون العودة للقرى قبل تأمينها من قبل القوات المسلحة وسد كل الثغرات التي تسلل منها التمرد في هجمته التي استهدفت تهجير السكان من المنطقة لكشف ظهر مدينة كادقلي التي تمثل هدفاً للتمرد سعى إليه منذ (يوم الكتمة) وحتى اللحظة، وحينما تهجر السكان الريف كالريف الشرقي ويلوذون بالمدن يحقق التمرد أهدافه التكتيكية.
{ ومن جهتها ترفض الحكومة أية مظاهر لمعسكرات النازحين.. وعينها على قضية دارفور التي بلغت المحافل الدولية بسبب معسكرات النازحين.. لكن إذا كان هناك (12) ألف نازح في منطقة صغيرة مثل (الكويك)، يتخذون من ظلال الأشجار مأوى يقيهم من لسعات حرارة شمس الصيف، ولا تملك الولاية بإمكانياتها الشحيحة القدرة على الوفاء باستحقاق إنساني تجاههم وهم تحت رحمة الدولة.. فكيف توصد أبوابها في وجه المنظمات الدولية؟!
{ الرهد.. قصص وحكايات
{ في منزل اتخذته أسرة الراحل “العالم محمد أبو بكر” مقاماً لتلقي العزاء في روح رجل عُرف بالشهامة واستقامة الخلق.. حدثنا الابن الأكبر “الفاتح العالم” عن قصة استشهاد والده، بدمع يجرح القلب الصلد.. قال “الفاتح” وهو يغالب أحزانه بمقتل والده بطريقة بشعة: (إن التمرّد بدأ هجومه على (أبوكرشولا) في الساعة الخامسة صباحاً.. واستهدف أولاً مضارب العرب الرحل من الحوازمة، حيث تصدت لهم قوات الاحتياطي المركزي ببسالة وشجاعة.. وكنت في المسجد لحظة الهجوم وسلاحي في منزلي، وشاهدت المتمردين يصوبون نيران كثيفة نحو منزل الشهيد “حامد الأغبش” – (عضو بالمجلس الوطني استشهد في طائرة تالودي العام الماضي) – وبدأ زحف القوات على كل أحياء المدينة، فتوجهت للمنزل ثم خرجت للتصدي لهجوم المتمردين، وتركت الشهيد في المنزل وخرجت.. واستخدم المتمردون عناصر من الداخل كانوا يقطنون معنا في (أبو كرشولا)، ولحظة الهجوم حملوا أسلحتهم وأطلقوا النار على الأبرياء، ومن الذين شاركوا في القتل “الدرويش آدم بحيري” و”موسى آدم جمعة” الذي كان يعمل ضابط صف بقوات الاحتياطي المركزي، إضافة لـ “حسن آدم الشيخ” مدير مكتب “عبد العزيز الحلو”، وهو مرشح الحركة الشعبية في المنطقة في الانتخابات الأخيرة.
ويضيف “المهدي العالم”: (إن هناك شخصيات معروفة متورطة في اغتيالات (أبو كرشولا)، مثل “عبد القادر أحمد يعقوب” – مفتش تحصيل بوزارة المالية – حيث شاهدته يقود المتمردين لمنازل قيادات المؤتمر الوطني وحزب الأمة، وكان لديه كشف أعد مسبقاً. ومن النساء اللاتي شاركن في عمليات القتل والتصفية امراة تدعى “جدة حماد بحيري”، إذ عندما يطلق عناصر الحركة الشعبية الرصاص على أحد الضحايا كانت تزغرد وتحمل فأساً تنهال بها على رؤوس الجثث المسجاة على الأرض).
ويضيف “المهدي العالم”: وسقطت دانة “آر بي جي” داخل منزلنا، وأصيب والدي.
وانهمرت دموع “المهدي” في تلك اللحظة وتعثرت الكلمات في فمه.
{ وتحدث لـ (المجهر) المواطن “أحمد السيد” وقال: من أسباب استهداف الشهيد “العالم محمد أبو بكر” أنه كان رئيساً للهيئة الشعبية لمناصرة “أحمد هارون” في الانتخابات الأخيرة. ورغم أن الشهيد (حزب أمة) ومن قياداته المعروفة، لكن للأحزاب الوطنية في جنوب كردفان موقف من الحركة الشعبية، لذلك كان مستهدفاً من الحركة منذ فترة الانتخابات وحتى هجوم التمرد على (أبو كرشولا).
ويضيف “أحمد السيد”: (إن القوة التي هاجمت “أبوكرشولا” تقدر بنحو (45) عربة لاندكروز، والمكتمردون مسلحون بـ “دوشكا” و”رباعي”، ولم تشارك دبابات في عملية الهجوم.. والعناصر التي شاركت في الهجوم (خليط) من النوبة والزغاوة والفور وعرب من دارفور ومسيرية).
{ ونفى كل الذين تحدثوا لـ (المجهر) مشاركة الدينكا في العملية.. وتحدث المواطن “موسى عبد الله” عن الأحداث بقوله: (إن المعلومات التي شاعت قبل الهجوم، تحدثت بوضوح عن تجمعات للتمرد في مناطق “تومي” التي حشد فيها المتمردون بنحو (80) عربة.. ولكن تمت مباغتة المنطقة فجأة، وبعد سيطرة التمرد عليها انبرى شخص يدعى “عبد الحليم آدم رحمة”، كقاض لمحاكمة المواطنين الأسرى.. هذا المتمرد كان يعمل حكمداراً في قوة نظامية قبل السلام، وبعد إحالته للتقاعد نصب نفسه عمدة بالإدارة الأهلية بولاية الخرطوم، وعاد لـ “أبوكرشولا”، وفي فترة الانتخابات كان ناشطاً في صفوف الحركة الشعبية، وتم القبض عليه ثم أطلق سراحه، وهو الذي أشرف على ذبح الشهيد “عبد الرحمن إبراهيم” والشهيد “يوسف سليمان”، ومثلوا بالجثث وتركوها في العراء.. ومن الفظائع التي ارتكبتها قوات الحركة الشعبية أن الشهيد “محمد إبراهيم بشارة” بعد ضربه تم دهسه بالسيارة، وكذلك “الدونق ابراهيم بشارة”.. في مظهر ينم عن أحقاد دفينة في نفوس هؤلاء.
ويؤكد “العالم عبد الله” أن المك “يعقوب الفضل” والعمدة “موسى محمود المأمور” في (الفرشة) هما من قادا العمليات ضد المدنيين.
{ (أم برمبيطة) ومعركة الجمل!!
إثر حصار القوات المسلحة لمنطقة (أبو كرشولا) وتطويقها، بدأت الحركة الشعبية البحث عن طوق نجاة من مصير بات محتوماً، وذلك بفتح جبهات أخرى تخفف عنها الضغط الشديد، ولجأت للهجوم على منطقة (أم برمبيطة)، ثاني أكبر مدن محلية الرشاد.. وبدأ الهجوم مباغتاً في الصباح الباكر يوم الأحد الماضي .. ولكن القوات المسلحة تصدت للقوة التي هاجمت المنطقة ببسالة وشجاعة، وفق خطة نفذتها القوات المسلحة وقوات الدفاع الشعبي من فرسان (الطوقية)، وخسر التمرد ثماني عشرة سيارة جديدة تم تدميرها بالكامل، واستولت القوات المسلحة على مدرعة.. وشهدت معركة (أم برمبيطة) مشاركة فاعلة لقوات الدفاع الشعبي من قبائل (الشنابلة) وهم يمتطون ظهور (الإبل)، وتمت مطاردة العربات اللاندكروز بالجمال البشاريّة سريعة الخطى.. وشوهدت أرتال سيارات التمرد تولي هاربة من مواجهة الجمال، وفرسان الشنابلة يطلقون النيران نحوالمتمردين، حتى قتل منهم (67) متمرداً، بينما شهدت معركة (أم برمبيطة) مشاركة لقوات الدفاع الشعبي من (هبيلا) و(دلامي) و(الفيض) و(خور الدليب).. حيث تجمعت طلائع القوات منذ الصباح الباكر، مما أدى لهزيمة كبيرة للمتمردين في (أم برمبيطة) لم يتعرضوا لها منذ اندلاع التمرد الحالي، حيث خسرت الحركة الشعبية عدداً كبيراً جداً من قواتها.. وجرح آخرون.. و(تفرق) شملهم في الأودية يبحثون عن النجاة!
{ تلك هي وقائع الحرب على الأرض فماذا يحدث في مركز صناعة القرار السياسي والعسكري؟!
{ المعركة من فراش المرض!!
يخضع الفريق أول “عبد الرحيم محمد حسين” وزير الدفاع، لعناية طبية مكثفة إثر اصابته بانزلاق غضروفي أقعده عن الحركة بعد زيارته المفاجئة لمناطق الرهد وأم روابة و(الله كريم)، إثر هجوم التمرد على تلك المنطقة.. وخضع الجنرال الصامت لعناية من الأطباء، على أن يبقى في المستشفى لمدة (7) أيام.. ولكن الفريق “عبد الرحيم محمد حسين”، الذي يواجه منذ فترة ليست بالقصيرة هجوماً واستهدافاً من قبل بعض الأقربين والمتنفذين في الحزب والدولة.. ظل صامتاً.. لا يتحدث.. ومبعث الهجوم والتربص بالفريق “عبد الرحيم” من البعض هو علاقته الحميمة بالرئيس والثقة التي يحظى بها والأخبار التي يتم تداولها في مجالس الأنس عن خلافة الفريق “البشير” في منصب الرئيس.. ويتحدث البعض عن أداء القوات المسلحة ويغمضون الأعين عن التطور الذي شهدته في حقبة الفريق “عبد الرحيم” من حيث العتاد العسكري ومستلزمات القتال وتطوير قدرات القوات المسلحة الجوية والدفاعية والبنى التحتية للصناعة العسكرية.. ولا ينظر كثيرون للتعقيدات السياسية التي تتأثر بها القوات المسلحة من انفصال الجنوب وتنامي النزعات العنصرية والجهوية في الساحة السياسية، وهي سلبيات وأمراض كان أحرى بالسياسيين البحث عن دواء لعلاجها، ولكنهم أخذوا على عاتقهم صب الانتقادات على الفريق “عبد الرحيم محمد حسين”.
{ صباح الأربعاء تبادلنا الاتصالات مع الأخ الصديق الصحافي “محمد لطيف” في الشأن العام، ولكن في وقت متأخر من اليوم أبلغني بوعكة الفريق “عبد الرحيم”، وقال إنه بصدد الترتيب لزيارته مع بعض الزملاء، واقترح الساعة الثامنة مساء الأربعاء بالقيادة العامة، وفي الموعد استقبلنا الجنرال “عبد الرحيم” بملابسه المدنية، وكان بشوشاً رغم آثار المرض، حيث اختار الإقامة بمكتبه في القيادة العامة بدلاً من المستشفى أو حتى منزله، لمتابعة مسار العمليات العسكرية وجبهات القتال المفتوحة من غرب دارفور وحتى مناطق (لبدو) و(شعيرية)، وبوادر هجوم انطلاقاً من (وادي هور)، حيث تتربص حركة العدل والمساواة بالشمالية ونهر النيل، وحتى مسرح القتال في جبال النوبة.
{ كان الزملاء “عادل الباز” و”رحاب طه” و”عبد الماجد عبد الحميد” و”عبد الرحمن الأمين” و”ضياء الدين بلال” و”عادل سيد أحمد خليفة” يتلهفون، مثل سائر أهل السودان، لخبار عن: (متى يتم تحرير مدينة ابو كرشولا.. وكيف تسير العمليات.. وهل فعلاً قتل “عبد العزيز الحلو” في العمليات الأخيرة لنسور الجو السودانية)؟! تلك هي الاسئلة التي في مخيلة الصحافيين، ولكن الجنرال الصامت اختار وضع خارطة كبيرة للسودان وجنوب كردفان لشرح تمركز قوات الجبهة الثورية، وقدم معلومات دقيقة جداً عن نوايا التمرد وأهدافه المعلنة والمسكوت عنها. وعلى طريقة (تربيزة الرملة) بدا وزير الدفاع واثقاً من جنوده وضباطه في حسم المعركة، ولكن بالصبر والتأني، وليس الأمنيات وضغوط السياسيين.. وبدا الفريق “عصمت عبد الرحمن” رئيس هيئة الأركان للقوات المسلحة دقيقاً في تعبيره عن الذي يحدث في مسارح العمليات، الشيء الذي بث الطمأنينة في القلوب. وقبل أن يغادر الصحافيون مكتب وزير الدفاع بعد أن فرض الطبيب (تعليماته) الصارمة بأن موعد تلقي العلاج قد أزف.. تفاجأ الزملاء بالرئيس “البشير” وجهاً لوجه وهو يتأهب لدخول مكتب وزير الدفاع، ربما للاطمئنان على سير العمليات العسكرية من جهة ومعاودة مريض في (مشفاه).. الرئيس “البشير” ببشاشته المعهودة قال ضاحكاً: (الحاصل شنو يا جماعة)!! وتبادل الرئيس الضحكات مع الزملاء قادة الصحف ورموزها.. وكان في معيته مدير مكتبه المخلص الفريق “طه عثمان” وشقيقه “مصعب”.. وغاب الفريق “بكري حسن صالح” الذي يضيف على المناخات الساخنة برودة ومرحاً، وطلب الأستاذ “عبد الماجد عبد الحميد” من الفريق “طه” أن يلتقط للصحافيين صورة تذكارية مع الرئيس في وزارة الدفاع، وبدا الرئيس مرحباً بالفكرة، وداعبته بالقول: (نحن أغلبنا على أبواب الرحيل ويمكن أن لا نلتقي).. فقال الرئيس: (يعني خلاص كفاية)!! وقال الفريق “عبد الرحيم” مداعباً “ضياء الدين”: (في وزارة الدفاع ممنوع الاقتراب والتصوير).. ولكن في وجود الرئيس كانت الصورة حقاً حصرياً لـ (الأهرام اليوم).. وخرجنا ولفحتنا حرارة شمس مايو والطمأنينة والسكون في القلب!!