تقارير

العميد "ود إبراهيم" من غياهب الجبّ إلى فضاء الحرية قصة لم تكتمل بعد

الاهتمام الذي تبديه الحكومة ووسائل الإعلام بوصول بترول دولة الجنوب لصنابير التصدير ثم بلوغه بورتسودان، وغداً ستكتب الصحف ويتحدث بعض المسؤولين بلا حياء عن بيع بترول الجنوب و(قبض) السودان لعمولته بفرح طاغٍ.. مثل هذا الاهتمام والتهافت يفقد الدولة وقارها ويشوه صورتها، ويبعث برسائل سالبة للأخوة في الجنوب.. أولى هذه الرسائل إن الشمال يلهف قلبه للمال والبترول لا الإنسان والصداقة بين الشعبين.. صحيح أن العلاقات بين الدول أساسها المصالح المشتركة، وفي مقدمتها المصالح المالية والاقتصادية، لكن العلاقة مع جنوب السودان أكثر عمقاً ووثاقاً من بضعة ملايين دولار يضعها السودان في خزينته، ولا تقيه شظف العيش ونكد الفقر.. ولو بلغ صادر الجنوب المليون برميل فإن رمال السودان قادرة على امتصاص العائد منها في مشروعات كالتي نهضت في سنوات الرخاء المالي بعد عام 2005م، ولم يحصد منها الشعب إلا عمارات سوامق وأسماء أجنبية، وشركات خاصة تضارب في الدولار والذهب وتحترف استيراد الأثاث المكتبي الفخيم من ماليزيا وتايلاند.. وعلاقة الشعب الشمالي بالجنوب هي علاقات رحم ودم وتصاهر ووشائج، لن تفصم عراها أحابيل السياسة وفجور العنصريين من دعاة (الأفرقانية) في جوبا والعروبة في الخرطوم.. وقد صدح الفنان المسلم “يوسف فتاكي” القادم من مدينة ياي في غرب الاستوائية حينما كان بالسودان وزير للثقافة يقرأ ويكتب ويتأمل ويفجر طاقات الإبداع مهرجانات للثقافة، فقدمت الاستوائية الصوت الندي (ياي بلدنا.. كلنا إخوان)، وغنى “يوسف فتاكي” أغنية لـ”عبد المنعم حسيب”.
كل ما سألت عليك صدوني حراسك..
رد الجواب كافي مع أني من ناسك
وتمايلت الخرطوم طرباً مع “فتاكي” بلهجة عربي جوبا.. فكيف تندثر كل تلك العلاقات ويطحنها قطار السياسة المضرج بالدماء والمرارات والأحزان؟ وكيف ينسى التيار الإسلامي الحاكم في الشمال رجلاً مثل “منقو أجاك”؟ و”علي تميم فرتاك”.. ومثقفاً وحدوياً في قامة “فرانسيس دينق مجوك” الذي كتب كتاباً عن حياة الناظر “بابو نمر”، بينما تقاصرت همة مثقفي الشمال عن إصدار كتاب وحيد عن سياسي وحدوي خسر الجنوبيين في سبيل الوحدة.. إنه “ستانسلاوس بياساما” و”بنجامين لوكي”.. وآخر دفع ثمن مواقفه وفقد حياته “وليم دينق” الذي اغتيل في ظروف غامضة ما بين رومبيك وواو.
{ إن كثيراً من الأسر الآن هي ثمرات لزواج شمالي جنوبي.. الأم من توريت والأب من بحر أبيض.. أو الأب من ملوال شات والأم من شركيلا في بادية البقارة في كردفان.. ويوثق التاريخ الشفاهي غير المكتوب قصة جعلي من ضواحي شندي حملته التجارة إلى مدينة واو فازدهرت ثروته.. وتزوج فتاة من الكريش وطاب له المقام وأنجب الأبناء السمر والفتيات ذوات اللون القمحي.. ولكن أسرته من أبناء العمومة والأشقاء لم ينقطع رجاؤهم في العودة لديار الجعليين.. وتوسلوا له برضا الوالد والأم فحملوه مكرهاً على العودة وزوجوه من سليلة المك نمر.. وظل قلبه معلقاً بين واو ورومبيك.. وفي أحد أيام الصيف.. هبت نسائم خريفية باردة أنعشت روحه قبل جسده وجلس بعيداً يتأمل السماء ولاح في الجنوب البعيد (برق) أضاء عتمة السماء وأنشد الجعلي في حب زوجته (الكريشية) أبياتاً من الدوبيت (النضيف):
ست القرقدي الواقف مسامير نقله
كلما أتذكرك تتبرجل عليّ الخدمة
إنه الوطن الذي مزقته أحابيل السياسيين ومرارات الحروب، فلا ينبغي لنا العيش على جراحات الماضي.. ووجدان الإنسان الجنوبي مترع بحب “وردي” و”عثمان حسين”، وعاشق للهلال والمريخ ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بأنغام الموسيقارين “أسماء حمزة” و”برعي”.. والجنوبيون يأكلون (العصيدة)، ويشربون (الجعة)- (المريسة)- مثل بقية أهل السودان، ويتلذذون بـ(أم فتفت) و(ملاح الكول).. فلماذا تدفعهم خصومات السياسة لتغيير نمط ثقافتهم الغذائية نحو شرق أفريقيا، ويهدر الاقتصاد السوداني سوقاً للمنتجات الزراعية والصناعية.. ويتم الحكم بإعدام أكثر من ثلاثة ملايين رأس من أبقار الحوازمة والرزيقات والمسيرية ورفاعة والأحامدة هلاكاً بالجوع بعد حرمانها من مصايفها الطبيعية في بحر العرب أو نهر (كيت) وجنوب بحيرة الأبيض، وعند كاكا وضفاف فشودة الغنية، ويلحق الضرر الاقتصادي والاجتماعي بأكثر من (10) ملايين نسمة من سكان التماس من أجل مصلحة أفراد لا يتعدى عددهم الألف من تجار السلاح والمستفيدين من الحروب ممن يأكلون ويشربون دماء البسطاء.. وينثرون الكراهية ليحصدوا عمارات سامقة ونساء حرائر نعمت وجوههن النعمة، ليموت الناس (سمبلة) وتهدر المصالح؟!.
إن ما بين الشمال والجنوب أكثر من براميل النفط التي يفقد البعض وقارهم حينما يتلهفون لعائداتها، ولا يتلهفون لعودة الصفاء مع أخوتهم في الجنوب، لتغني البلابل (رجعنالك) في مدينة بور، ويلعب أهلي شندي مباراة لتكريم “جيمس واني” في طمبرة.. وتحتضن دامر المجذوب ليلة ثقافية لطلاب جامعة جوبا.. وتنهار إلى الأبد الحدود، ويبقى لكل دولة نظامها السياسي وخياراتها بلا وصاية من جهة.
{ “ود إبراهيم” و”يوسف لبس”:
أصدر الرئيس قراره بالعفو عن المحكومين في قضية المحاولة الانقلابية التي قادها العميد “ود إبراهيم” من داخل البيت الإنقاذي والإسلامي، وأفرجت السلطات نهار الأربعاء عن المجموعة التي خططت لتنفيذ الانقلاب الفاشل، لتصدر المحكمة العسكرية أحكامها بحق المتورطين وتبرئ ساحة آخرين.. ويتقدم المحكوم عليهم باسترحام للرئيس بلغه في أيام معدودة ليطلق سراح الانقلابيين الإسلاميين ولم يمكثوا في السجون إلا بضعة أيام، بينما انقلابيون آخرون طال بقاؤهم في غياهب السجون لسنوات تجاوزت العشر مثل “يوسف لبس” الذي تمت محاكمته وآخرين في محاولة انقلابية مماثلة كالتي قادها العميد “ود إبراهيم”.. وكان قائد المحاولة الانقلابية حينذاك هو النائب لرئيس الجمهورية الآن الدكتور “الحاج آدم يوسف” الذي تم فصل بلاغه عن بقية المتهمين وبرأته المحكمة وهو في المنفى الاختياري بأسمرا.. وعفا الرئيس “عمر البشير” عن (17) من العسكريين الذين كانوا عصب وروح وقادة المحاولة الانقلابية بسماحة وخلق سوداني أصيل ومقدرة وكظم غيظ يليق برجل دولة في قامة “البشير” رغم أن بعض العسكريين الذين عفا عنهم الرئيس حينذاك ذهبوا إلى لاهاي وقدموا شهادات ضد من عفا عنهم ومنحهم الحرية.. وتراوحت أحكام هؤلاء ما بين (5-15) سنة.. وشمل العفو قبل الأخير بقية المدانين في المحاولة الانقلابية ولم يتبق إلا “يوسف لبس” لا يزال في السجن ينتظر عفواً من الرئيس “البشير” ليذهب حراً طليقاً مثل “ود إبراهيم” وجماعته.. فلماذا تبعيض العفو والسماحة؟! فالذين تورطوا مباشرة في القتال أثناء أحداث أم درمان عفا الرئيس عن بعضهم، بل يوجد الآن في الدوحة من قادة الحركات المسلحة من ألقي عليه القبض في غزو أم درمان وأمضى بعض الوقت في السجن واستفاد من الاتفاق الذي وقعه د. “التجاني السيسي” وانضم إلى آخرين يحملون السلاح.. وشملت سماحة الرئيس وعفوه المحكومين في غزو أم درمان.
وإذا كانت البلاد اليوم مقبلة على تعافٍ وطني شامل من كل علل الأمس وإحن وظلامات حقبة الاحتراب الماضية، فليتمدد عفو الرئيس ليشمل هؤلاء السجناء من أبناء دارفور.. وليذهبوا طلقاء حيث شاءوا، وما عادت هناك حركة مسلحة لم تقبل على السلام أو باتت قريبة من الدخول في تفاوض مباشر مع الحكومة.. والإنقاذ التي قاتلت إريتريا ويوغندا وأثيوبيا، وواجهت بثقة في النفس الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، ولم تخش أو تخاف بطش هؤلاء، لن يخيفها رجل يدعى “يوسف لبس” مهما حاول البعض إضفاء قصص أسطورية عنه، فسياسياً يعدّ د. “علي الحاج” أذكى المعارضين في الخرطوم و”الترابي” معلمه لم يسقط الإنقاذ أو حتى يحرك الشارع ضدها.. فلماذا الخوف من قيادي من الصفوف الخلفية في المؤتمر الشعبي؟ حتى قادته في تنظيم الأمن الشعبي السابق هم الآن طلقاء يجتمعون وينفضون والإنقاذ تمضي في عافية معنوية وحسية.. وقرارات الرئيس الكبيرة لا ينبغي هزيمتها بمواقف صغيرة.. وحتى لا يتم تفسير قرار العفو الشجاع عن “ود إبراهيم” ورفاقه بغير مقاصده، ويضاف جرح آخر لجراح وطن تعددت وتمددت.. وقد كان “ود إبراهيم” كبيراً شامخاً حينما تحدث لـ (المجهر) وأثنى على عفو الرئيس عنه ومجموعته من الضباط، بل نظر الرئيس وقدر جهد أبنائه من الضباط وأسقط عقوبة الطرد من القوات المسلحة لتستبدل بالإحالة للتقاعد عن الخدمة العسكرية.. وقد نظر “البشير” لتاريخ “ود إبراهيم” في القوات المسلحة ودوره في العمليات العسكرية كأحد الضباط المخلصين فعفا عنه ساعة المقدرة.. وهو عفو يغسل ما في النفوس، ويفتح باباً لهؤلاء القادة من الضباط نظيفي السيرة والسريرة.. وكان “جعفر نميري” حينما يطلق سراح المعتقل السياسي يمنحه وسيلة نقل حيث مسقط رأسه.. وقد يستعين به بعد أيام في مهمة كبيرة، وزيراً أو مديراً.. وقد يبلغ “ود إبراهيم” وبقية الضباط المعفو عنهم في قادم الأيام كراسي الوزراء أو النيابة.. وقد حمل “صموئيل أرو بول” من سجن كوبر في عهد “النميري” إلى مسقط رأسه في رومبيك بعد إطلاق سراحه ليتم تعيينه بعد أيام وزيراً في حكومة مايو.. وليت العفو والسماحة والتصافي وطي صفحات الأمس يشمل الفريق “صلاح قوش” المدير العام السابق لجهاز الأمن والمخابرات، ومثل “صلاح قوش” يستحق العفو وأن يبقى طليقاً حراً مها اقترف من خطأ، فالوطن يسع أبناءه، والسماحة وسعة الصدر تبني الأوطان.. ولا تنهض أمة من الأمم بالإقصاءات والسجون والمعتقلات.. والوفاء لمن أعطى وبذل من شيم القادة الكبار.. والدولة والحزب والحكومة لا تغضب مثل الأفراد.. لكنها تصفح عن أخطاء أبنائها.. وتمسح دموع الحزن وتحتضن البعيد قبل القريب.. وحتى يقبل الجميع على دستور وطني جديد، فإن تهيئة المناخ بالتصافي والتعافي تمثل أهم مطلوباته.. ولله القصد من قبل ومن بعد!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية