رأي

عامان مضيا منذ تفجّر ثورات الربيع العربي! (4)

{ في أمسية الأربعاء الثلاثين من يناير 2013م وبدعوة كريمة من منظمة أروقة للثقافة والعلوم، اجتمع لفيف من الإعلاميين والمفكرين السياسيين ومنسوبي البعثات الدبلوماسية، وعدد من القيادات الشبابية والطلابية والمرأة، ومنظمات المجتمع المدني، وكان الموضوع هو مناقشة كتابي (الربيع العربي.. ثورات لم تكتمل بعد).. قدم الجلسة الأستاذ “السموأل خلف الله” رئيس منظمة أروقة للثقافة والعلوم ووزير الثقافة السابق، وترأس الجلسة البروفيسور “علي أحمد شمو”. وكان أول المتحدثين السيد الإمام “الصادق المهدي” (رئيس حزب الأمة القومي) الذي بدأ حديثه مترحماً على السيد “جمال البنا” شقيق مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الإمام الشهيد “حسن البنا”، وكانت وفاته قد أُعلنت في ذات أيام الندوة.. وقدم السيد “الصادق المهدي” مداخلة مكتوبة، وحرصاً منا على الدقة، وحيث أنني أرى ملاءمة هذه المداخلة مع مبادرة السيد رئيس الجمهورية للحوار الوطني التي أعلن عنها أمام البرلمان في يوم الاثنين الأول من أبريل 2013م في افتتاحية دورة البرلمان الحالية، فسأقوم بنقل المداخلة كما هي.. فإلى نص المداخلة:
{ المقدمة:
أشكر مؤسسة أروقة للثقافة والفنون على دعوتي للتعليق على هذا الكتاب. فيما بين أطروحة الكتاب، وتعليق المعلقين، وجه من وجوه الحوار، الخيار الحميد ما بين خيارين: حميد وهو الحوار، وذميم وهو الإملاء، الحوار يعني احترام الرأي الآخر وهو المجادلة بالتي هي أحسن وهو أساس: (نصف رأيك عند أخيك)، والترياق المضاد للانفراد بالرأي الذي يورد المهالك:
رأي الجماعة لا تشقى البلاد به
رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها
وأحمد للكاتب د. “مصطفى عثمان إسماعيل” أنه، وهو سياسي، يهتم بالفكر خلافاً لجمهور الساسة الذين إذا ذُكر الفكر أو الثقافة صدّوا كالملدوغ، أو على الأقل استخفوا بها على نحو ما فعل الثري صاحب المرسيدس عندما أساء نطق اسمها، فلما صححه زميله المتعلم قال له: (أنتم انطقوها ونحن نركبها)!!
السياسة دون فكر عمياء، والفكر دون سياسية كسيح، ومع ذلك فإن الزواج بينهما قلق، لأن الفكر يستوجب المكاشفة التامة، والسياسة توجب المداراة، على نحو مقولة الإمام “علي”: (ما كل حق يقال، وما كل ما يقال حضر زمانه أو حضر رجاله).
وقبل أن أدخل في لبّ الموضوع أصوّب مصطلحين، الأول: عبارة (الربيع العربي)، هذه العبارة مشتقة من الطقس الأوروبي الذي فيه الربيع يعقب ظلمة الشتاء، ولكن عندنا العبارة الأصلح هي (الفجر)، لذلك كانت تسميتي للظاهرة (الفجر الجديد).
والعبارة الأخرى: هي عبارة (الإسلام السياسي)، فيما روى “مسلم” أن النبي “صلى الله عليه وسلم” قال لأمير السرية: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا).
وعاتب “أبو ذر الغفاري” “معاوية” قائلاً: لم تقول عن مال المسلمين مال الله؟
المبدأ في الحالتين أن الأمر متعلق باجتهاد المسلم، وهو قابل للخطأ والصواب، كما أن مقولة مال الله تنفي المساءلة.
لذلك لا نقول (الإسلام السياسي)، فالإسلام واحد، ولكن نقول سياسة المجتهدين الإسلاميين، وهي اجتهادات قابلة للصواب والخطأ، المهم أن ينسب الموقف للبشر لا لله ولا لدينه.
{ القسم الأول: نقاط اتفاق مع الكتاب
لقد وجدت في الكتاب عشر نقاط مهمة اتفق مع صاحبها، بل أعتبره انتصر فيها للفكر بموضوعية هي:
– إن البيئة السياسية في مجتمعات الربيع كانت مواتية لتحريك الشارع: الظلم، الاستبداد والفساد، وأن الشعب من المحيط إلى الخليج ينشد الحرية والإصلاح، والشفافية والعدل (صفحة 73).
– أوافق على مقولة إن الثورات لم تكتمل بعد، فهي لم تقض تماماً على الأنظمة التي فقدت رأسها وبقيت جذورها. الحقيقة أن الثورة بالتعريف الدقيق تعني أن قوة ما تطيح بأخرى وتحل محلها ببرنامج وقيادة ثورية، ولكن الثورات قعدت دون ذلك.
– يقول عن التوجه الذي يحقق الاستقرار في بلاد الثورات: (سوف تستقر الأمور في المنطقة الوسطى: دولة مدنية قاعدتها العريضة إسلامية دون إقصاء أو تهميش للأديان الأخرى، تحت مظلة الوطن للجميع، دولة تسير نحو الديمقراطية الحقة وصون حقوق الإنسان وسيادة حكم القانون وتحقيق العدل الاجتماعي).. (ص 85).
– قال: (إقحام الجيوش الوطنية في خطيئة الانقلابات العسكرية أفقدها الكثير من الاحترام، وصوّرها في صورة واحدة مع الأنظمة العسكرية القائمة على البطش والجبروت- (ص 86)- والحقيقة أن الانقلاب العسكري كما قال الشيخ “الألباني” مخالف لنهج الإسلام وهو نهج باطل جملة وتفصيلاً.
– قال تعليقاً على الثورة في بلدان الربيع: (لذلك تعتبر الثورة جسداً بلا رأس، فلم يكن هنالك أي محرك للثورة، حتى النشطاء والمعارضين لم يكن لهم أي ظهور).. (ص 96).
– مع دخولنا في عام 2012م فقدت السلطة السياسية في البلاد العربية الكثير من هيبتها ومن شرعيتها السياسية، ويتضح أنها في طريقها لفقدان المزيد من الشرعية حتى لو لم تقع ثورة في مواجهتها في كل دولة، فالشرعية أمر محسوس في الشارع، وفي المؤسسات، وفي المجتمع. إن تراجع الشرعية العربية في عام 2012م سيعني ضعف قدرة السلطات على استعادة توازنها في المجتمعات العربية التي لم تقع فيها الثورات، لهذا فتوازن هذه الدول أصبح مرتبطاً بمدى مقدرتها على إدارة تغيير جوهري في العلاقة مع المواطن والشباب من الجيل الصاعد، هذا سيتطلب السير نحو تحوّل ديمقراطي حقيقي، والعودة إلى مشروع بناء الدولة الحديثة وجوهره حقوق ثابتة للمواطن في تقرير شؤون السياسة في وطنه).. (ص 112).
– قال: (في هذا الحراك قد يخسر الإسلام السياسي الكثير من قوته إذا فشل في التعامل مع الحريات والتنمية والحقوق الديمقراطية والجيل الثوري بمرونة وانفتاح، كما قد يكسب مزيداً من النفوذ والقوة إذا نجح في التأقلم مع مجتمعات حرة وبلاد متحولة وانفتاح حتمي).. (ص113).
– حقيقة أن تمكين الشعوب سوف يؤدي لمزيد من التضامن الإسلامي. كما يُرجى أن تشهد الوحدة العربية هيكلة جديدة.
– ويُنتظر كذلك تطوير إستراتيجي في العلاقات العربية الأفريقية.
– ويتوقع مراجعة جوهرية للعلاقات الدولية مع الغرب وفي ملف السلام ومع الدول الصاعدة البريكس الـ(BRICS).
{ القسم الثاني: نقاط اختلاف مع الكتاب
وفي ما يلي نقاط اختلف معها، وأرجو من الكاتب أن يراجعها وهي:
– ربط الصحوة الإسلامية بهزيمة 1967م ليس صحيحاً، فالصحوة الإسلامية الحديثة بدأت منذ تراجع الخلافة العثمانية في مرحلتها الأخيرة، إذ تراجعت أمام الثقافة الأوروبية ومالت نحو الهوية الطورانية. ثورات كثيرة، على رأسها الثورة المهدية في السودان، جسّدت تطلعات أهل القبلة في ذلك الوقت، ما عبرت عنها نظرياً مجلة (العروة الوثقى)، من مدرسة (العروة الوثقى) إلى الشيخ “رشيد رضا” والشيخ “عبد الحميد بن باديس” وغيرهما، حتى الشيخ “حسن البنا” الذي ساهم في الصحوة التي أثارها ما فعل الكماليون في تركيا بإلغاء الخلافة التي كانت أصلاً محتضرة، ولكن إعدامها أحدث هزة في أوساط إسلامية.
صحيح أن يقال إن الفكر القومي العربي والانقلابات التي طبقته، غطت على السطح السياسي حيناً من الدهر إلى أن وجدت كبوتها في هزيمة 1967م. ولكن عوامل التطلع الإسلامي لم تنته أبداً، بل ساهمت الظروف الجديدة في تمدّدها.
– الإشارة إلى أن التيارات الإسلامية كما قال: (تأتي في مقدمة القوى التي قادت ثورات الربيع العربي) ليست صحيحة، فقد قادت الثورات عناصر شبابية غائبة عن رادارات الأجهزة الأمنية، لكن دور التيارات المنظمة أتى بعد أن تأكد أن السلطة الحاكمة قد اهتزت.
– التساؤل: كيف تحدث الفوضى، بالإشارة للفوضى الخلاقة والأمة مستنيرة بنور الإسلام وهديه وكيف وهي ترقد على رصيد ضخم من تراكمات الإرث الإنساني المجيد؟ لا توجد مناعة، لأن وعي الأمة بنور الإسلام وبالإرث الإنساني المجيد ضعيف، ما يجعل الفوضى ممكنة سواء كانت خلاقة أم متفلتة. فالذي يصنع الفوضى هو أن النُظم الاستبدادية تحجر التطور السياسي بأجهزة قمعية قوية، ولكن لسوء سياساتها ربما سقطت بثقل أخطائها وبفعل عناصر منفعلة ضد الظلم ولكن بلا هياكل قيادية وبلا برامج.
– أما إعلان العجز عن تحليل ما حدث ومقولة: (فقد كانت الثورة على حد تعبير الكثيرين هي ثورة ربانية) فليس صحيحاً، فالله الذي وهبنا العقل يلزمنا استخدامه لفهم الظواهر الاجتماعية، ففي عام 2008م قلنا في نداء البحر الميت بالإشارة للبلدان العربية إن هنالك احتقاناً واضحاً فإذا لم يحدث حوار بين الحكام والشعوب سيحدث انفجار.. وفي عام 2009م سألني بعض الأخوة منهم الأخ “المحبوب عبد السلام” في القاهرة: ماذا أتوقع في مصر؟ فقلت لهم: ثورة! نعم نحن وعقولنا وما حولنا من إرادة الله، ولكن تلك قضية تتعلق بالفلسفة لا تمنعنا من نسبة تحليلاتنا لاجتهاداتنا البشرية.
– الإشارة للمشهد السوداني واحتمالات التغيير غير صحيحة، فمع أن النظام ما زال موجوداً لكنه يتساقط، وهنالك دلائل على ذلك:
– انخرط عدد كبير من الشباب في حركات مسلحة تستهدف النظام وتكوين جبهات اقتتال متعددة.
– تراكم حركة مطلبية احتجاجية واسعة النطاق.
– شرخ في الكيان المدني الداعم للنظام.
– شرخ في الكيان العسكري الداعم للنظام.
– عجز النظام عن حل قضايا الوطن والاعتماد على جهات خارجية.
– تآكل اتفاقيات السلام التي أبرمها النظام.
– وجود حركة سياسية حزبية وشبابية صاخبة في المعارضة.
– شباب السودان يحتج بوسائل مختلفة رفضاً للمشروع الحضاري: في دراسة للجامعة العربية (80%) من شباب السودان يتطلعون للهجرة، وأرقام الأشهر الخمسة الماضية (66 ألفاً) مزعجة، وظاهرة ما أسميه (الشياخة الحوتية) لدى وفاة الفنان “محمود عبد العزيز” – رحمه الله – وتعلق جمهور كبير من شباب العشرينيات والثلاثينيات بهذه الشياخة، دليل آخر على رفض المشروع الحضاري.
– قرارات مجلس الأمن ضد النظام وأثرها السلبي على شرعيته الدولية.
{ والإشارة إلى أن السودان يجد قبولاً لدى شعوب الربيع العربي غير صحيحة، فهنالك رفض للتجربة السودانية والحرص على التبرؤ منها لأسباب واضحة أهمها:
– اتخاذها الانقلاب العسكري وسيلة للأسلمة.
– ربط الأسلمة بالتمكين الحزبي النافي للآخر.
– أدلجة مؤسسات الدولة وحزبنتها.
– تعديات موثقة على حقوق الإنسان.
– التفريط في وحدة الوطن.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية