سحر الغناء السوداني!!
سؤال يوجه إليّ مرات عديدة وفي مناسبات كثيرة (شنو الحاجات التانية الحامياك)؟!! كذلك يتكرر السؤال لأستاذي الشاعر الكبير “محمد يوسف موسى” (شنو يا أستاذ كلمتي المسّت غرورك)؟!! وكثير من الأسئلة يطرحها محبو الشعر والغناء على الشعراء والفنانين يسألونهم مثل تلك الأسئلة.. وتبقى الإجابة في كثير من الأحيان مبهمة لا يفصح عنها شاعر القصيدة، ترى هل هو الفضول الذي جعل من يسألون هذه الأسئلة؟ أم يريدون أن يخترقوا جدار الخصوصية للشاعر في محاولة لـ(الشمارات) التي تُسكب في مجالس الأنس والحكي؟! وأغنية (جاي تفتش الماضي) التي نظمتها منذ عقود من الزمان والقلب أخضر والشباب في عنفوانه والعاطفة مشبوبة تشبه عشرينيات العمر أخذ يتدحرج في العد التنازلي، ولم يبق من عبق تلك السنوات إلا أصداء الذكريات وبعض من أصدقاء الصبا الذين أخذوا يتساقطون بمغادرتهم الفانية إلى الدار الآخرة، فنبكي عليهم بكاءً مراً، فهم بعض من تكويننا وعلاقة ممتدة حتى الموت لا يفصمها، ولولا السلوى والنسيان وحقيقة الموت الأزلية باعتبار كل من عليها فان وكل نفس ذائقة الموت وأنه مدركنا ولو كنا في بروج مشيدة فهو آتٍ آت.
نص (جاي تفتش الماضي) له عشاق ومحبون، فهو يمثل نوعاً من موت آخر وهو حينما يسدل الستار على قصة حب.. جاي تفتش الماضي؟ خلاص الماضي ولىّ زمان!! وجفت مقلتي الباكية ونامت من سنين أحزان.. أرجع بالزمن مرة.. وإتذكر حكايتي معاك.. تلاقي القصة جد مُرة!! هل راعيت شعور مُضناك؟ وكل ما تزيدني في هجرك.. أقول ليك: زيدني ما أحلاك.. لا شفع التوسل ليك.. ولا حرماني يوم هماك.. وجيت تترجى بالدمعات.. أسامحك، أنسى، أغفر ليك؟! جفف دمعك الغالي.. مسامحك، وما عشان عينيك.. عشان تتعلم الغفران.. وتصفح لو زمن جار بيك.. وحاول لو قدرت كمان.. تقدر رقة الحابيك.. دي عزة نفسي ما بيه عليّ.. أسلم قلبي ليك تاني.. سنين الهجر بيناتنا.. وحاجات تانية حامياني.. ولو رجع الحنين عاود.. وليك من تاني وداني.. ومكتوب ليا تاني أحب.. بحب إنسان يكون تاني.. (انتهت القصيدة).. حكاية تحدث كل يوم بين المحبين، لذا أصبحت هذه الأغنية لسان حالهم.. يعني (طاقية) يلبسها كل من تناسب رأسه.. من هنا يأتي سحر فن الغناء فتظل أغنيات بعينها راسخة في وجدان الإنسان، تخاطب ناحية مخبوءة في مشاعره.. هنالك من يبكي لسماع أغنية وكثيراً ما شاهدت مثل تلك الدموع: (بكيتنا يا أستاذ) ولي صديق يكبرني عمراً يقتني تسجيلات بعينها يسمعها في خلوته وحيداً أو مع صديق مقرب يشاركه نفس مواجع التذوق (أنا المظلوم جفاني حبيب.. وظلموني الأحبة في شارع الأحبة).. وكل أغنياته المحببة لا تخرج من دائرة الهجر والصد والحرمان (الشواكيش)، لذا كانت وما زالت تلك الأغنيات الأثيرة إلى نفسه برغم أن جراحاتها اندملت منذ سنين عددا.. ومحبو تلك الأغنيات لو قُدّر لهم وكتبوا الشعر لفاضت قرائحهم بالدرر الغوالي من الغناء الجميل، لكنهم لا يملكون موهبة نظم الشعر فاستعاروا أشعاراً تعبّر عنهم.. من هنا صدقت مقولة إن الشاعر لسان حال الأمة المعبر عن أفراحها وأتراحها، والحامل دوماً مشاعل النور لإنارة ظُلمات وعتمات دواخل الأمة، وهو المحرّض على نصرة الضعيف والموثّق للعديد من مواقف أمته، ودونكم أشعار أهلنا بالبطانة التي ترسم بيئتها كأروع ما تكون اللوحة المعبرة عن أهل البطانة بتفاصيل حياتهم كافة.. اقرأ معي هذا المربع من الدوبيت: (الناس بالعروض.. ما تقيسها بي تيبانها.. وما يغرك لباس تحتو العروض عريانة.. ديل حراس رزق.. متل التكنو أمانة.. زي إبل الخلا.. شايلة السقا وعطشانة).. مربع من الدوبيت يحوي بضع كلمات فيها جماع فلسفة المظهر والجوهر.. ويظل هذا المربع من الشعر السهل الممتنع خالداً ما بقيت الحياة، مؤكداً أن جوهر الإنسان هو القيمة الحقيقية في وجوده، فلا يغرنك مظهر الإنسان مهما أفرط في التزين، فلربما يخبئ تحت ثيابه الجميلة شخصاً بشع الدواخل سيئ الطوية، لا يؤمن شره.. لذا القياس على المظهر فقط قياس مضلل.
يعجبني الصديق د. “البوني” حينما يحتاج إلى استخدام عبارة (حاجات تانية حامياني) في مقالاته الرائعة، فهو يستخدمها لاختزال معانٍ كثيرة، وفي الغالب يترك تفسير (الحاجات التانية) للقارئ، فلربما يستشفها من السياق العام لما يرمي إليه في مقاله.. حكى لي أحدهم القصة المشاعة بين الناس لمناسبة أغنية (حلو العيون) وهي من كلماتي وألحاني وأداء صديقي الأستاذ الفنان “محمد ميرغني”: (قالوا إنت نظمتها على لسان صديقك المغترب، فقد سافر ليعمل بالخليج بعد زواجه مباشرة وترك زوجته حبلى ومكث سنوات.. وضعت زوجته ابناً لم يشاهده إلا عبر الصور ويسمع صوته عبر الهاتف وظل متلهفاً للقاء الأهل وأسرته الصغيرة لا سيما ابنه “محمد” الذي لم يره.. وبعد سبع سنوات حزم حقائبه متلهفاً للقاء أسرته، وفي يوم وصوله فارق “محمد” الصغير الحياة ووجده مسجى وبالقرب منه أمه المكلومة والأسرة الحزينة، فاحتضنه وهو يجهش بالبكاء والعويل مردداً (كلمني يا محمد .. كلمني يا حلو العيون.. كلمني خت اللوم عليّ) بعدها نظمت لصديقي المكلوم (كلمني يا حلو العيون.. حيرني صمتك يا حنون…الخ كلمات الأغنية المعروفة)..
بالطبع القصة من نسيج خيال من رواها وأشاعها بين الناس والحقيقة غير ذلك، فالأغنية نظمتها أيام الجامعة، أيام لم نعرف من الدنيا سوى مرح السرور والقلب مفعم بالرومانسية والحب.. لذا فالمثل القائل (يغني المغني، وكل حد على هواه) يصدق في مثل هذه الحكاية.. أما قصة سائق عربة الأجرة التي استقللتها في مشوار طويل فهذه طرفة ومضحكة، فالرجل كان مستغرقاً يستمع إلى كاسيت به أغنية (أظلم من ظلم) بصوت صديقي المطرب “كمال ترباس”، ويبدو أنه اجتهد في تسجيل الأغنية في شريط كاسيت بالجانبين للشريط، تنتهي لتبدأ من جديد، الشيء الذي جعلني أسأله: (أغنية واحدة؟) رد قائلاً: (ما عندي غيرها)، وسرح بعيداً وبدأ يحكي قصة (أظلم من ظلم) وما كان يعلم أني مؤلفها: (الأغنية دي يا ابن العم، قصتي لأنو الأظلم من ظلم ده خالي أخو أمي.. رفض يزوجني بتو.. قال شنو؟ بتو جامعية وأنا بتاع تاكسي خريج أولية!!.. وبت خالي بتحبني.. أنا ما عندي غير الأغنية دي!!) طبعاً لم أشأ أن أفسد عليه استغراقه في الاستماع وأكشف له عن شخصي مؤلف الأغنية، فالأمر يصب في كون الأغنية عبرت عن حاله.. والغناء عند أهل السودان قيمة معنوية عالية ورسائل حافلة بقيم الخير والجمال، لا سيما الغناء الديني، الذي تفوّق فيه أهل السودان على كل البلدان العربية، ودونكم الطرق الصوفية التي يتبارى شعراؤها في مدح الحبيب المصطفى “صلى الله عليه وسلم”، بل زادوا بالحديث عن السنة المطهرة وسيرته خاتم الأنبياء والمرسلين.. ومحبة صحابة الرسول “صلى الله عليه وسلم” من أهل السودان تروى عنها القصص والطرائف.. يحكى أن أحد أهل السودان وقف أمام قبر سيدنا “حمزة”– رضي الله عنه– وأخذ يجهش بالبكاء رافعاً كفيه بالدعاء وكان بقربه أحد حراس المقبرة التي ضمت شهداء الصحابة الذي سأله: أيش فيك يا رجل؟ ليه بتبكي؟ فرد عليه أخونا السوداني: ما أبكي ليه؟ والله العظيم لو ديل ماتوا عندنا، لي هسه الفراش يكون موجود!!
ولو قلّبنا مكتبة غناء التراث سنجد الذي وصلنا منه قليل، والسبب أننا لا نوثّق لآدابنا وفنوننا.. وهذه دعوة للمنقبين فيها من أساتذتنا، وبالتحديد الذين لم ينشروا بحوثهم ومؤلفاتهم، ومنهم الأستاذ الدكتور الفنان “عبد الكريم الكابلي”، أدعوه بعد مجيئه بالسلامة من أمريكا إلى نشر مؤلفه وبحثه القيّم عن أغنيات التراث التي قدم منها كماً مقدراً (ما هو الفافنوس.. ما هو الغليد البوص)، و(الجنزير في النجوم والواعي ما بوصو).. كذلك أتوجه بدعوة أساتذة من ذوي الاختصاص ومنهم صديقي د. “علي الضو” وعدد من المختصين لديهم بحوث بهذا الخصوص، ولتبادر وزارة الثقافة والإعلام عبر إدارة الطباعة والنشر بتبني مشروع نشر تلك المصنفات وأن تعيد نشر كتب بهذا الخصوص نادرة نفدت من الأسواق.. والهدف من كل ذلك أن نمكّن أبناءنا من الوقوف على جانب مهم من إرثهم الثقافي، وإعادة تقديمه محتفظين بأصالته ومضيفين بصماتهم من توزيع موسيقي وأداء، فالأمة التي تهتم بإرثها الثقافي أمة متجددة غير منبتة، محصنة ضد الاستلاب والغزو الثقافي.. ورحم الله أستاذنا “الطيب محمد الطيب” الذي قدم في هذا المجال الكثير.. والرحمة والمغفرة لبروفيسور “عون الشريف قاسم” الذي ترك آثاراً مهمة في مثل هذه الدراسات.. والقائمة تطول، والأمر يحتاج منا جميعاً إلى وقفة متأنية، ودعوة بضرورة التنقيب والرصد والتوثيق لكنوز نخشى أن تندثر فنصبح أمة منبتة الجذور.