الديوان

شاطئ (أبو روف).. عتق المكان وعبق الزمان

ربما استوقفك عبق المكان حال مرورك بشارع النيل أم درمان قبالة حي (أبو روف) بعد أن تحول المكان إلى واقع آخر وربما يصبح سياحياً بإطلالة مميزة عقب اكتمال الأعمال الإنشائية الخاصة بشارع النيل هناك، لتتبدل الملامح وتتشكل ملامح أخرى. هنالك فقط أسفل ذلك المنحنى تشدك عجلة التاريخ التي تأبى أن تتوقف عند تلك البوابة التي كانت تزود أم درمان بما لذ وطاب من منتجات الخضر والفاكهة القادمة من (جناين) حلة شمبات عبر المراكب خلال عشرينيات القرن الماضي. وكان ذلك الشاطئ يعج حينها بحركة دائبة منذ الساعات الأولى من الفجر، المراكب في حركة مستمرة أصوات (العتَالة) تملأ المكان وتحطم السكون لتشق جدار الصمت في عناد كبير، وتفرغ حمولتها قبل أن يستيقظ سكان الحي الذي يعود أسمه إلى أحد أمراء المهدية وهو الأمير (المرضي أبو روف). وفي تطور لاحق تم استبدال المراكب الشراعية ببنطون (معدية) لذات الغرض وهو تزويد أم درمان بالخضروات القادمة من شمبات والريف الشمالي، وهنا يتذكر الصغار تلك الأيام عندما يجترون شريط ذكرياتهم مع موج النيل بـ(أبو روف)، وكان بعض أبناء الحي والأحياء القريبة يعملون في غسل الخضار وتجهيزه لينقله التجار إلى داخل سوق أم درمان، ويتم ذلك مقابل أجرة زهيدة لكنها كانت تفي بطلباتهم لتخفف عن الأسرة بعض الأعباء ويحمله بعضهم  لبيعه هناك، ومن بينهم (جورج مشرقي) صاحب المقهى الشهير بسوق أم درمان، وكان وقتها صبياً لم يتجاوز عمره الثلاثة عشر عاماً، فقد أكد لنا خلال لقاء خاص معه في منزله قبل وفاته ببضعة أشهر وربما كان ذلك آخر لقاء صحفي للرجل، أنهم كانوا يذهبون منذ الصباح الباكر إلى أبو روف ويقضون بعض الوقت في انتظار المعدية لشراء الخضار ومن ثم نقله إلى داخل سوق أم درمان، ويقول “مشرقي” كانت الأسعار وقتها لا تتجاوز القرش ونصف القرش وكانت الحياة بصورة عامة (بسيطة).
وعرف ذلك الشاطئ صناعة المراكب باكراً واشتهر بها لاحقاً وأتقنت صناعتها أيادٍ ماهرة أشهرهم أسرة (آل حمد)، وكانت المراكب تصنع من الأخشاب التي تجلب عادة من الشمالية والنيل الأبيض والنيل الأزرق، وتستغرق صناعة المركب الواحدة قرابة الشهر ليتم دهنها بالزيت وطلاؤها بعد اكتمال عملية (القلفطة) وفيها يقوم الصنايعية بملء الفراغات بين الخشب في جسم المركب الرئيس وحشوه بقطعة من القماش لضمان عدم تسرب المياه إلى المركب، وتعقبها عملية إغراق المركب بالزيت ثم طلاؤها وتلوينها لتخرج في شكلها النهائي، وكانت المراكب تباع لأغراض الصيد وقلّ الطلب عليها عقب ادخال المعدية (البنطون) للعمل بين شمبات الحلة و(أبو روف) على ضفتي النيل منذ مطلع القرن الماضي وظلت إلى حين إنشاء كبري شمبات.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية