الاعمدةرأي

إمام محمد إمام يكتب : السودانُ يُودِعُ الإمامَ عِنْدَ عزيزٍ مقتدرٍ (4-4)

بحصافة – يوم السبت 2020/12/5

بحصافة

السودانُ يُودِعُ الإمامَ عِنْدَ عزيزٍ مقتدرٍ (4-4)

إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com

اختتم اليوم (السبت 5 ديسمبر (كانون الأول) 2020)، هذه العُجالات الأربع الحزنى، بالتطرق إلى بعض الجوانب المهمة في شخصية، السيد الصادق الصديق عبد الرحمن محمد أحمد المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام كيان الأنصار، ورئيس الوزراء الأسبق، الذي تُوفي إلى رحمة الله تعالى، يوم الخميس 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، إثر إصابته بمرض الكورونا (كوفيد 19)، عن عُمرٍ قارب الـ 85 عاماً، أي قبل شهرٍ، مما اعتاد عليه أهلوه وأصدقاؤه، ومناصروه – سياسةً وإمامةً -، وعارفو فضله وجهاده، من الاحتفاء بيوم مولده، في الخامس والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) من كل عامٍ. وإثر اعتلال صحته بذاكم المرض، نُقل في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، بُغية تلقي المزيد من العناية والعلاج هناك، ولكن كان أمرُ الله نافذٌ فيه، تصديقاً لقول الله تعالى: “بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ”.
غير خافٍ على أحدٍ، أن الراحل السيد الصادق المهدي، طوال الستة عقودٍ من العمل السياسي، قيادةً وإمامةً، حيثُ تسنم رئاسة الوزارة في الثلاثين من عُمره ليكون أصغر رئيس وزراء ليس في السودان فحسب، بل في العالم المعاصر، إذ لم يتقدم عليه في هذا الصدد، إلا البريطاني وليام بيت الذي تولى رئاسة الوزارة البريطانية وعُمره أربعة وعشرين عاماً، وذلكم في عام 1873، الذي ما زال يحتفظ بذلكم السبق إلى يوم الناس هذا! تميز الفقيد الإمام الصادق المهدي بحكمةٍ، كانت ضالته طوال سنيّ حياته السياسية، أحياناً يستشكل على الكثيرين من السودانيين، حتى الذين قريبين منه، فهم مرئياته لبعض الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية، مما يبدو كأنه شخصيةٌ مُثيرةٌ للجدل، باتخاذ ما يراه من قرارات، مهما وُصِفَتْ بالتناقض، ووُجِهَتْ إليه الانتقادات، فهو يمتص الغضب، ولا يُظهر المغاضبة!
عرفتُ السيد الراحل الصادق المهدي رئيس حزب الأمة القومي، وإمام كيان الأنصار، منذ عهدي الطالبي في جامعة الخرطوم، في خواتيم سبعينات، ومطلع ثمانينات، القرن الماضي، إذ كنتُ أُقدمُ برنامج “شذرات من الثقافة” مع أستاذي العالم العلامة، والحِبر الفهامة، البروفسور الراحل عبد الله الطيب المجذوب – تنزلت عليه شآبيب رحماتِ الله الواسعات – وأنا طالب في السنة الأولى بكلية الآداب في جامعة الخرطوم، وظللتُ أقدمه كل يوم جمعة، إلى حين ذهابي إلى بريطانيا، في سبتمبر (أيلول) 1986، بعد تخرجي بأقل من عامين، وأختارني الأستاذ الجهبيذ، ومعلم الأجيال، محمود أبو العزائم مدير عام الإذاعة السودانية آنذاك – يرحمه الله -، لتقديم برنامجٍ إذاعيٍ يوميٍ، بعنوان “آفاق” يهدفُ إلى استضافة أساتذة جامعة الخرطوم عن الراهن السياسي والثقافي، إلى جانب موافقة أستاذي الراحل فضل الله محمد – تغمده الله بواسع رحمته -، لأعمل صحافياً في جريدة الصحافة، وطالباً في الوقت نفسه، بجامعة الخرطوم. أوردتُ كل ذلكم لأُبين حقيقةَ معرفتي بدءاً، بالسيد الصادق المهدي، بإعتباري صحافياً وإعلامياً، منذ ذلكم الزمان، ثم كيفية توطيد هذه العلائق به، طوال ثلاثين عاماً، فترة عملي في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية. وتجدني هنا أفخر بأني أقنعتُ السيد الصادق المهدي – يرحمه الله -، على الكتابة الراتبة في صحيفة “الشرق الأوسط”، عندما كنتُ من قياديي تحريرها، وانتظم مشكوراً في الكتابة الراتبة لنا دون سوانا حتى الصحف المحلية، لفترةٍ طويلةٍ، خلقت بيننا نوعاً من استدامة التواصل، لا سيما عند حضوره إلى لندن، ويشهد على ذلكم، أمين سره، وموطن أسراره، الأخ الصديق محمد زكي – ألهمه الله الصبر الجميل في مصابه الجللِ، وذلكم بوفاة الإمام الصادق المهدي الذي كان يحسبه من أهليه الأقربين، ويكاد يقول محمد زكي، منا آل المهدي، إذ كان متابعاً حريصاً على التأكد من وصول المقال إلينا، وإن غابت “الشرق الأوسط” عن السودان، في يوم نشر المقال الراتب (الثلاثاء)، لأسبابٍ شتى، بعثتُ إليه من جدة نسختين أو ثلاث. فعليه يُمكنني أن أشهد بحقٍ، على سماحة الإمام الصادق المهدي، وحِلمه ونُبله، وطيب معشره، وكريم خُلقه، وجمَّ تواضعه، واعتداله في مواقفه الإسلامية، ونجاعة فكره، وغزارة إنتاجه، فكراً وفقهاً، وسياسةً وثقافةً. وتأكيداً لهذه السماحة، أُورِدُ قصةً حدثت لي معه في الخرطوم، ومعارضة حزب الأمة للإنقاذ على أشدها حينذاك، إذ كنتُ في زيارة إلى السودان، واغتنمتُ تلكم السانحة، وطلبتُ إجراء حوارٍ صحافيٍ معه لصحيفة”الشرق الأوسط”، واتفقنا على محاور ذاكم الحوار الصحافي، وحددنا موعد اللقاء. وبالفعل ذهبتُ إلى منزل السيد الصادق المهدي، واستقبلتُ استقبالاً طيباً، وكرمَ ضيافةٍ منه شخصياً، فلمَّا هممتُ بتشغيل جهاز التسجيل اعتذار لي بلطفٍ ورقةٍ، بحجة أنه أجرى العديد من الحوارات الصحافية في الأيام القليلة الماضية، فلذلك يُرِيدُ أن يصمتَ قليلاً! وعلمتُ أن شخصاً أوعزَّ له بعدم إجراء الحوار الصحافي معي، وقبل سفري عائداً إلى لندن، علمتُ من مصادري ذاكم الشخص، وعمداً لا أُسميه، فهو الآن صديقٌ، نُمازح بعضنا كلما التقينا، ولكن من سماحة الإمام أنه ودعني حتى بوابة الخروج من الدار! ولكنه بعد ذلك عمرت علائقنا، وكنتُ التقيه في الخرطوم ولندن كثيراً.
أذهبُ إلى أنه، لم يرفد المكتبة السودانية من السياسيين السودانيين، مثل ما رفدها الراحل السيد الصادق المهدي، بما يزيد عن مائة كتابٍ، بعضها باللغة الإنجليزية، وآلاف المقالات والخُطب والأحاديث الصحافية والإعلامية. ولتأكيد تنوع مؤَلَفات السيد الصادق المهدي، من حيثُ قضاياها وتصنيفها، أبسطُ إليك – يا هداك الله – نماذجَ من بعض ما جادتْ به قريحته من مؤَلَفاتٍ متنوعةٍ متعددةٍ: ففي الفكر والفقه: “يسألونك عن المهدية”، و”العقوبات الشرعية وموقعها من النظام الإسلامي”. وفِي السياسة: “مسألة جنوب السودان”، و”جهاد من أجل الاستقلال”، و”تحديات التسعينات”، و”الديمقراطية عائدة وراجحة”، وغير ذلك من مؤَلَفاتٍ كُثرٍ، رفد بها المكتبة السودانية.
لا ينكر أحدٌ، نضالات ومجاهدات السيد الراحل الصادق المهدي، ضد الأنظمة العسكرية الشمولية، وهو في ريعان الشباب، تزعم معارضة الحكم العسكري (1958 – 1964) بقيادة الفريق إبراهيم عبود، ثم ترأس الجبهة الوطنية المتحدة (1969 – 1977)، ضد المشير جعفر محمد نميري (1969 – 1985)، وبعد المصالحة الوطنية في يوليو (تموز) 1977، ببضع سنوات، اختلف مجدداً مع الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، وزاول معارضته لنظام مايو من جديدٍ، إلى أن أسقطته الانتفاضة الشعبية في السادس من أبريل (نيسان) 1985. ورفع في الانتفاضة شعار “كنس آثار مايو”!
ولم يكن حظ الرئيس عمر حسن أحمد البشير بأحسن من سابقيهِ، فعارضه معارضةً شرسةً إلى حينٍ، رغم توقيعه لاتفاقية جيبوتي، بعد مجاهدات “تهتدون”، والتي كان ينبغي أن تُنهي معارضته، لتبدأ مشاركته في الحكم، ولكنه أوقف معارضته إلى حينٍ، ولم يبدأ المشاركة في نظام الإنقاذ إطلاقاً، رغم أن نظام الإنقاذ بذل معه أسلوب الترغيبِ والترهيبِ، من أساليب الترغيب مثلاً، تعيين ابنه الأخ الصديق اللواء عبد الرحمن الصادق المهدي مساعداً لرئيس الجمهورية، ومنحه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى، أما الترهيب، فتعددت أشكاله، وتباينت أساليبه، من الزَّج به في غياهب السجون، وتحريض البعض ضده، بشن حملةٍ شعواءَ عليه، لكنه أبى واستعصم بالبُعد من نظام الإنقاذ، إذ لم يُشارك فيه، إلا أن سقط النظام الإنقاذي في 11 إبريل (نيسان) 2019!
وأكبر الظن عندي، أنه في سبيل تقوية المعارضة ضد الإنقاذ، ترأس تحالف “نداء السودان” المعارض، في عام 2017، والذي كان يضم أحزاباً مدنيةً، وحركاتٍ مسلحةٍ، ومنظمات مجتمعٍ مدنيٍ.
وفي رأيي الخاص، السيد الصادق المهدي – يرحمه الله – عندي ثالثُ ثلاثةٍ من أُولي العزم من المعارضين السودانيين، منذ ستينات القرن الماضي إلى يوم الناس هذا، وهم الشيخ الدكتور حسن عبد الله دفع الله الترابي – تنزلت عليه شآبيب رحمات الله الواسعات – الشريف حُسين يُوسُف الهندي – تغمده الله بواسع رحماته -، فمجاهداتهم ونضالاتهم لا ينكرها إلا مكابر، وجاهل بالتاريخ السياسي السوداني الحديث!
أخلصُ إلى أن الراحل السيد الصادق المهدي، كان رياضياً مطبوعاً، في الفروسية والتنس والغولف والكريكيت.
وإبان دراسته بأكسفورد، شارك في عدد من الألعاب الرياضية، ووصل في التنس إلى درجة تمثيل كليته في التنافس بين الكليات، ولعب كرة القدم والكريكيت والقفز العالي مراتٍ عديدةٍ.
وكنا ثُلة من الأصدقاء، منهم العم محمد أحمد جحا، والإخوة فؤاد أحمد مكي ومحمود عبد الرحيم والوزير محمد الحسن الحاج وعادل جابر أبو العز وصلاح محمد إبراهيم و الشيخ إدريس مصطفى الأمين ومعاوية أحمد الشيخ والفاتح بلال ومحمد الشيخ وحامد سُليمان عبد الله وآخرون، نلتقي به في جِلساتِ مؤانسةٍ ومناقشةٍ في نادي التنس بالخرطوم، نحرص على حضور بعض تمارينه المسائية، ومن ثم المؤانسة معه.
ولم يكن السيد الصادق المهدي – يرحمه الله – يبخل علينا بوقته، نحن “عُصْبَة الكرام الثقافية الإعلامية”، إذ كان يفرد لنا مساحةً زمنيةً واسعةً، نستمع إليه، ويسمع منا، نناقشه نقاشاً مستفيضاً، بعد أن نُمهد له، بأن جِلستنا هذه نتبعُ فيها، ما يُعرف بـ Chatham House Rules ، وهي قاعدة تشاتام هاوس أو قاعدة دار تشاتام، هو نظام بريطاني، يُستخدم في المناظرات والمناقشات السياسية التي قد تكون محلَّ جدلٍ. تُنسب إلى معهد “تشاتام هاوس” اللندني، يعود تاريخ هذه القاعدة إلى عام 1927. والقاعدة تقول: “حينما يُعقد اجتماعٌ أو جزءٌ منه في إطار قاعدة تشاتام هاوس، فإن المشاركين يكونوا أحراراً في استخدام المعلومات التي يحصلون عليها، لكن لا يجب كشف هوية أو انتماء المتحدثين أو أي شخصٍ آخر من المشاركين”. فنلحظ أن السيد الصادق المهدي لا يتحفظ في حديثه معنا، ويكون حديثه إلينا حديث الصراحة والوضوح، فلذلك حافظنا على عهدنا للمتحدثين إلينا، ومن بينهم الإمام الراحل الصادق المهدي، رغم مُغريات أحاديثهم للنشر، لا سيما أحاديث الإمام الصادق المهدي، ولكنَّا ألزمنا أنفسنا بـ “مدونة سلوكٍ صحافيٍ مهنيٍ”، هي Off Record تعني عدم النشر أخلاقياً. وقد أشاد بعُصبتنا في تصريحات صحافية، نشرتها صحيفة “الصيحة” في صفحتها الأولى آنئذٍ.
أحسبُ أن المنايا تصطفي سمح النفس، بسام العشيات الوفي الحليم، كما ذهب إلى ذلكم شعراً، الأخ الصديق الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم:
يا منايا حوّمي حول الحمى واستعرضينا واصطفي
كل سمح النفس بسام العشيات الوفي
الحليم العف كالأنسام روحا وسجايا
أريحي الوجه والكف إفتراراً وعطايا
فإذا لاقاك بالباب بشوشا وحفي
بضمير ككتاب الله طاهر
انشبي الأظفار في أكتافه واختطفي
وأمان الله منا يا منايا
كلما اشتقت لميمون المحيا ذي البشائر .. شرّفي
تجدينا مثلا في الناس سائر
نقهر الموت حياة ومصائر
ألا رحم الله تعالى، الإمام الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي، وأنزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، وتغمده بواسع رحمته، وأسكنه فسيح جنانه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وتقبله الله قبولاً طيباً حسناً، وألهم آله وذويه وأصدقاءه وزملاءه وأنصاره وعارفي فضله وجهاده، الصبر الجميل.
ولنستذكر معاً في هذا الصدد، قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين، المعروف بالمتنبئ:
وما الموتُ إلا سارقٌ دقَ شخصُهُ
يصولُ بلا كفٍ ويسعى بلا رِجْلِ
ولنستذكر معاً، قبل هذا وذاك، في هذا الخصوص، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية