إمام محمد إمام يكتب : السودانُ يُودِعُ الإمامَ عِنْدَ عزيزٍ مقتدرٍ (1-4)
بحصافة
السودانُ يُودِعُ الإمامَ عِنْدَ عزيزٍ مقتدرٍ (1-4)
إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com
غيب الموتُ الذي هو حقٌ علينا جميعاً، لقوله تعالى في محكم آيه، وبديع قرآنه: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”، السيد الصادق الصديق عبد الرحمن محمد أحمد المهدي رئيس حزب الأمة القومي وإمام كيان الأنصار، يوم الخميس 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، إثر إصابته بمرض الكورونا (كوفيد 19)، عن عُمرٍ قارب ال85 عاماً، أي قبل شهرٍ، مما اعتاد عليه أهلوه وأصدقاؤه، ومناصروه – سياسةً وإمامةً -، وعارفو فضله، من الاحتفاء بيوم مولده، في الخامس والعشرين من ديسمبر (كانون الأول) من كل عامٍ. وإثر اعتلال صحته بذاكم المرض، نُقل في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، بُغية تلقي المزيد من العناية والعلاج هناك، ولكن كان أمرُ الله نافذٌ فيه، تصديقاً لقول الله تعالى “بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ وَإِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ”. فكان مكان مدفنه (الملازمين)، بالقرب من مكان مولده (العباسية). ولكن لا ينبغي لي أن أتغافل في هذه العُجالة المرثية، مشهد تشييعه يوم الجمعة 27 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، فقد كان مشهداً تشيعيياً مهيباً، تجلى فيه هيبة الموت، وعظمة الإمام، رغم التحذير الصحي من الازدحام، والتشديد في التزام الاحترازات الصحية، والتي من أهمها إرتداء الكِمامة – بكسر الكاف – (نسمع بعضهم يقول: كَمَّامَة – بالتشديد، وهذا النطق غير صحيح، والصواب: كِمَامَة – بكسر الكاف وفتح الميم مع التخفيف – كما في المعاجم اللغويَّة”، والتباعد الاجتماعي أو الجسماني، لكن شهدنا بأُم أعيننا، ما قاله إمام أهل السُّنة أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني: “قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز حين تمر”. قال الإمام الحافظ ابن كثير – يرحمه الله -: وقال الدارقطني: سمعتُ أبا سهل بن زياد، سمعتُ عبد الله بن أحمد يقول: سمعتُ أبي يقول: قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنائز حين تمرّ. وقد صدّق الله قول أحمد في هذا، فإنه كان إمام السُّنة في زمانه. وعيون مخالفيه أحمد بن أبي داؤد وهو قاضي قضاة الدنيا، لم يحتفل أحد بموته، ولم يُلتفت إليه، ولمَّا مات ما شيعه إلا قليلٌ من أعوان السلطان! وفي تاريخ دمشق أن الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر بعث عشرين رجلاً فحزروا (فعدوا) كم صلى على أحمد بن حنبل، فحزروا فبلغ ألف ألف وثمانين ألفاً، سوى من كان في السفن في الماء.
وقال ابن كثير أيضاً: ولا شك أن جنازةَ أحمد بن حنبل، كانت هائلةً عظيمةً، بسبب كثرة أهل بلده واجتماعهم لذلك وتعظيمهم له. والشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية – يرحمه الله – تُوفي ببلدة دمشق وأهلها لا يعشرون أهل بغداد حِينَئِذٍ كثرة، ولكنهم اجتمعوا لجنازته اجتماعاً، لو جمعهم سلطانٌ قاهرٌ، وديوانٌ حاصرٌ، لمَّا بلغوا هذه الكثرة التي اجتمعوها في جنازته، وانتهوا إليها، هذا مع أن الرجل مات بالقلعة محبوساً من جهة السلطان، وكثيرٌ من الفقهاء والفقراء يذكرون عنه للناس أشياءَ كثيرةٍ، مما يُنفر منها طباع أهل الأديان، فضلاً عن أهل الإسلام وهذه كانت جنازتُه.
مما لا ريبَّ فيه، أن جنائز أهل العِلم والسياسة، لـتُوحي بقدرهم في نفوس الناس. وعندما شاهدتُ جنازة الإمام الصادق المهدي – يرحمه الله -، عندها تذكرتُ مقولة الإمام أحمد بن حَنْبَل في الجنائز: “قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز حين تمر”، فاستشهادي بها هنا، من باب المقاربة والمذاكرة، فتشييع جنازة الإمام الصادق المهدي، وتزاحم الناس عليها، رغم التحذيرات الصحية من جائحة الكورونا، كانت مما أشار إليه الإمام أحمد بن حَنْبَل! فلا ريبَّ، أنه بيننا في السودان اليوم، الذين عناهم الإمام أحمد بن حَنْبَل من أهل البدع، الناكرين لقيادة الإمام الصادق المهدي، لحزب الأمة القومي، والمقليلين من حنكته في إمامة كيان الأنصار، والجاحدين لفضله وسبقه في السياسة السودانية، وتسنمه لرئاسة الوزارة مرتين (1966 – 1967 و1986 – 1989). فقد أخرصهم موكب تشييعه المهيب، وتقاطر عشرات الآلاف إلى اتباع جنازته، من داخل الخرطوم وخارجها، في غير رغبةٍ في دنيا، ولا رهبةٍ من سلطان. فهذه الجموع الحزنى من السودانيين تجمعوا ليودِّعون مفكراً مُجدداً، وإماماً ملهماً، وسياسياً بارعاً، ويُودِعون الإمام الصادق المهدي عِنْدَ عزيزٍ مقتدرٍ، وهم يرددون قول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ”.
وقول الشاعر العربي كعب بن زُهير بن أبي سلمى:
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
كان مولد الإمام الراحل الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي، في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1935 في حي العباسية، بأم درمان، وهو الحي الذي جمع فيه المستعمر البريطاني البقية الباقية من أسرة الإمام محمد أحمد المهدي، لتيسير أمر مراقبتهم، خشية أوبتهم إلى السلطة والسلطان، لموقعهم التاريخي المشهود، وخوفاً من أن تهوي إليهم أفئدة من السودانيين! وفاتهم أن أم درمان مسكونةٌ بحب المهدي وآله، منذ آمادٍ طوالٍ. جاءته خلافة والده تُجرجر أذيالها، وهو في العهد صبياً!
وكأن الشاعرُ أبو إسحق إسماعيلُ بنُ القاسمِ بنُ سويد بن كيسانَ العينيّ، المعروف بأبي العتاهية عناه حين قال:
أَتَتــهُ الخِلافَــــــةُ مُنقادَةً إلَيـــهِ تُجَــــرِّرُ أَذيــالَها
وَلَــم تَـــكُ تَصلُحُ إِلّا لَـهُ وَلَـــم يَــكُ يَصلُـحُ إِلّا لَها
وَلَو رامَها أَحَـــــدٌ غَيرُهُ لَزُلزِلَــتِ الأَرضُ زِلزالَها
إذ تُوفي والده السيد الصديق عبد الرحمن محمد أحمد المهدي، مبكراً ( 1911-1961)، حيثُ أُنتخب رئيساً لحزب الأمة بعد ثلاثة أعوام، إثر وفاة والده، وهو في سن 25 عاماً. فتولى الراحل السيد الصادق المهدي قيادة حزب الأمة، بعد خُلفٍ وخلافٍ مع عمه الراحل الإمام الهادي عبد الرحمن محمد أحمد المهدي، ومن ثم إمامة كيان الأنصار، ودان له الأمرُ برمته في مطلع سبعينات القرن الماضي، بعد استشهاد عمه الإمام الهادي المهدي في الحدود السودانية الإثيوبية في عام 1970، وتسنم رئاسة الجبهة الوطنية المتحدة التي تشكلت من حزب الأمة برئاسته، والحزب الاتحادي الديمقراطي بقيادة الشريف حُسَيْن يُوسُف الهندي، والحركة الإسلامية بزعامة الشيخ الدكتور حسن عبدالله دفع الله الترابي.
“مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا”.