شهادتي لله

الهندي عزالدين يكتب : الإمام “الصادق المهدي”.. مذكرات على دفتر الغياب

1

رحل الإمام “الصادق الصديق عبدالرحمن المهدي” عن دنيانا الفانية يوم (الخميس) مثلما أطلق صرخة الحياة في يوم (الخميس) قبل خمسة و ثمانين عاماً ، فانطوت برحيله مرحلة مهمة في تاريخ السياسة و المجتمع في السودان .
فالسيد “الصادق” هو رئيس وزراء السودان المُنتخب ولم يكمل الثلاثين من عمره في العام 1966م ، بعد ثورة أكتوبر ، و هو رئيس وزراء السودان المُنتخب مرةً ثانية ، بعد عشرين عاماً و عقب انتفاضة رجب/ أبريل ، في العام 1986م .
هو زعيم أكبر حزب سوداني ، حسب آخر انتخابات ديمقراطية ، و إمام إحدى الطائفتين الكبريين في بلادنا (الأنصار – الختمية) .
تميز عن جيله من زعماء السياسة في السودان بل و جميع الأجيال المتعاقبة حتى وفاته ، بعفة اللسان و سماحة القلم و التنائي عن الشتائم و الإساءات ، مهما تعرض للقذف ، والطعن و الوخز ، و الهمز و اللمز .
كان حكيماً ، رفيعاً و مترفعاً عن الصغائر ، ودوداً .. صفوحاً عن الناس .. شفوقاً عليهم .
وكان شامخاً بعزته ، حفياً بتفرده الفكري ، عزيز النفس ، كريم الطوايا ، أغرَّ النوايا ، و كان صادقاً و وطنياً ، ولاءه للسودان أولاً .. و ثانياً و أخيراً ، حارب المحاور و الولاءات الدولية و الإقليمية ، لم يكن رجل أمريكا و لا يُحبه الأمريكان ، و لم يكن رجل الإنجليز رغم دراسته في جامعتهم “أكسفورد” ، و رغم علاقة حزب الأمة التقليدية مع بريطانيا في مواجهة حلف (الاتحاديين) مع مصر.
بعد سقوط النظام السابق ، تفرقت أحزاب وقوى الثورة و حُكام الانتقال بين المحاور ، فلم يكن “الصادق المهدي” مع مصر و السعودية و الإمارات ضد تركيا و قطر ، و لا مع قطر و تركيا ضد الإمارات و السعودية ومصر !
كان سودانوياً فارهاً .. أنصارياً قحاً بفكر متجدد يرتدي (العلى الله) و يمتطي الخيول .. و يدافع عن حقوق المرأة ، فيقدم “سارة نقدالله” للأمانة العامة ، و يقبل منافسة “مريم المنصورة” على مقاعد نائب الرئيس ،
كان زعيماً تتملكه نزعة وطنية خالصة ، بدأ حياته السياسية بهذه التفرد ، و انتهى إلى ربه مستمسكاً بوطنيته و استقلاليته ، فشق فراقه على الملايين من أبناء الوطن ، وسارت في جنازته جموع ما احتشدت في السودان من قبل لفرح أو عزاء .. و لا اجتمعت لحفلاتٍ أو مواكب ، بادله الشعب الوفاء بالوفاء و الحُب بالحب ، و استرخص المشيعون أنفسهم في مواجهة جائحة الموت اللئيم (كورونا) ، فغبّروا أقدامهم في ساحة الخليفة “عبدالله” بأم درمان ، و تراصوا في جلالٍ و حُزنٍ مهيب ، ليقرأوا الفاتحة و يرفعوا الأكف بالدعاء على روح الحبيب الإمام .

2

جمعتني بالراحل الكبير مجامع كثيرة ، قابلته لأغراض الصحافة ، و لغيرها من هموم العمل العام ، شاركني الفرح بعقد قِراني بمسجد النيلين قبل عشرة أعوام ، و هاتفني بحب أثناء المرض و أنا في “برلين” البعيدة و هو في القاهرة ، مُطارد من السلطة ببلاغات بليدة و اجراءات سقيمة ، و جهالة سياسية ، بها و من شاكلتها سقط النظام.
شهدتُ كثيراً من أعياد ميلاده التي كان ينظمها مكتبه الخاص بقيادة مدير مكتبه ” إبراهيم علي” و سكرتيره الخاص الشاب النحلة.. الأمين الوفي .. القديس في محراب الإمام .. العزيز “محمد زكي” ، فتجلى عندي الإمام ” الصادق” في تفاصيل تلك المناسبات إماماً للتواضع و التسامح و المحبة .
زرته في داره بالملازمين مراتٍ و مرات ، و زرته في سكنه بالقاهرة بمدينة نصر ، و حاورته للنشر و لغير النشر كثيراً ، آخرها كانت مبادرتي أثناء اندلاع ثورة ديسمبر و قبل اعتصام القيادة ، في مطلع فبراير 2019 ، سعياً لخروج بلادنا .. آمنة و مستقرة سياسياً و اقتصادياً و أمنياً ، من مأزق و كارثة ماثلة أمام الجميع اليوم ، توقعناها و حدثت على نحو أسوأ !!
كنا نريد للسودان أن ينتقل إلى ديمقراطية تعددية راشدة ، باجراءات طرفها الأول الرئيس السابق “عمر البشير” ، و طرفها الآخر المؤتمر الوطني و القوى السياسية المعارضة .
لم يكن (هبوطاً ناعماً) كما يسميه الشيوعيون المراكسة .. المتحفيون .. المتكلسون الذين حاربوا بمشروعهم الحجري حكومتهم الراهنة ، فأفشلوها و أسقطوها عملياً ، و لم يعد من مبرر واحد لبقائها .
كانت فكرتنا أن (يسلِّم) “البشير” و حزبه الحكم لقيادة انتقالية (قومية) ، تعقبها انتخابات حرة نزيهة ، يصبح المؤتمر الوطني فيها حزباً يأكل من خشاش الأرض لا من سنام الدولة ، و يلتزم “البشير” بعدم الترشح في انتخابات العام 2020 (الذي مضى كبيساً خبيثاً دون انتخابات ودون مؤتمر وطني !!) .

3

تقبل الإمام – تقبله الله في جنات الخلود – الفكرة برحابة و فطنة و سعة صدر سياسي ، و قال يجب أن نبحث في كافة الخيارات بجانب خيار (تسقط بس) ، جلسنا معه لأكثر من ساعتين ، و طلب أياماً لتطوير المقترح في مذكرة أو تذكرة ، ثم عرضنا الفكرة على نائب رئيس الحزب الحاكم وقتها مولانا ” أحمد هارون” فك الله أسره ، و رحب بها أيضاً ، و طلب منا السير فيها قُدماً .
و رفع أحد الأخوة من وفدنا (الرباعي) المبادرة إلى وزير رئاسة الجمهورية وقتها الدكتور “فضل عبدالله فضل” لينقلها للسيد رئيس الجمهورية ، و لا أدري إن كان قد فعل أم لا .
المهم أن الرئيس السابق باغتنا و باغت الشعب كله ، ببيان لا يشفي غليلاً و قرارات كارثية صدرت في مساء 22 فبراير 2019 ، كانت سبباً في اشتعال الثورة و سقوط النظام .
أقال الرئيس في قراراته ، نائبه الأول رجل الجيش الشجاع الفريق أول “بكري حسن صالح” و استبدله برجل يسهُل استدراجه و خداعه رغم تاريخه الطويل في المخابرات العسكرية ، هو الفريق أول “عوض إبن عوف” ، فكانت بداية النهاية لدخول القيادة العامة ، و إني لأجزم أن الفريق “بكري” لو كان في مقعده السيادي و رتبته العسكرية ، لما استطاعت (اللجنة الأمنية) و لا قوات (الدعم السريع) استلام السلطة في البلاد بتلك السهولة و ذاك اليسر العجيب الذي أفضى إلى ما نحن فيه اليوم من هوان الدولة و بؤس الحكم و غياب القيادة !!

4

بينما كانت المبادرة تقترح حل حكومة السيد “معتز موسى” ، و تقديم شخصيات (قومية) بقدرات عالية و كفاءات وطنية لحكومة انتقالية ، لا (كفوات) كالتي تحكم و لا تحكم بلادنا اليوم ، فاجأنا “البشير” بتسمية والي الجزيرة وزير الطرق الأسبق ” محمد طاهر ايلا” رئيساً للوزراء -دون مشاورة المؤتمر الوطني .. الحزب الذي يُفترض أنه حاكم – فلم يع “ايلا” دوره كرئيس حكومة تواجه ثورةً شعبية و أوضاعاً سياسية و أمنية استثنائية ، و بدلاً من أن يطرح مبادرة سياسية يساعد بها في عبور البلاد إلى بر الأمان ، راح يتفرغ لمكايدة خصومه بالحزب و ولاية البحر الأحمر فأقال غريمه “جلال شلية” من منصب مدير هيئة الموانئ البحرية ، و أطاح بآخرين من مقاعد المديرين و وكلاء الوزارات !!
بدأ “ايلا” مشوار لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو قبل أن يسقط النظام !!

5

لم تفلح مبادرتنا و لا مبادرات أخرى حاول تسويقها عقلاء لتجنيب بلادنا المأزق الذي تعيشونه اليوم – يا جماهير شعبنا الفضل – في معاشكم و حياتكم و مستقبل أبنائكم و بناتكم المُعلق إلى المجهول !!
و سبب تعثر تلك المبادرات أن (الانقلابيين) السُذج من لدن “قوش” و “ابن عوف” ، و من خلفهما دول في الإقليم ، كانوا يتوهمون جميعاً أنه باستلام اللجنة الأمنية السلطة في البلاد ، سينفض الاعتصام من حول القيادة العامة للجيش ، و سيعود الثوار (الاتحاديون) و (الأنصار) و (الشيوعيون) و(البعثيون) إلى بيوتهم و يطلبوا من غالبية الشباب (غير المنتمي حزبياً) الانصراف بسلام ، ليرضوا بحكم المجلس العسكري بقيادة الفريقين “ابن عوف” و “قوش” !!
فكرة لا يمكن أن يُصدِّقها طفل .. ناهيك عن جنرالات في المخابرات العامة و العسكرية !!

6

سقط النظام و ظل الإمام “الصادق المهدي” مختلفاً في فكره و طرحه عن غوغاء (قحت) و ناشطيها ، فكان لابد أن يكيلوا له السُباب والشتائم في وسائل (التنابذ الاجتماعي) .. فعفّ عنهم و عفى .. صفح و سالم .. فيا له من إمام !!
رحل عظيم السياسة في السودان ، اتفقنا معه أو اختلفنا ، فترك فراغاً عريضاً جداً في الساحة السياسية عامةً و في ساحة كيان الأنصار و حزب الأمة القومي خاصةً .
صحيح أن لحزب الأمة مؤسسات عاملة و فاعلة ، من هيئة مركزية إلى رئاسة و نوابها و مكتب سياسي ، حيث يُحمد للراحل الكبير أن جعل لهذه المؤسسات وجود و حيوية و قرار .
لكن الصحيح أيضاً أن قاعدة حزب الأمة (الخرسانية) تقوم على أعمدة طائفة أنصار الإمام “المهدي” ، و بالتالي فإن تقديم رئيس للحزب من خارج بيت “المهدي” تبقى من ناحية نظرية فكرة حداثوية مُمكنة ، و لكنها من ناحية عملية و واقعية ستعصف بقاعدة الحزب التقليدية التي يتداخل فيها الولاء الروحي و العقدي مع السياسي ، فتتفرق أيدي سبأ ، و يتقزم الحزب فيغدو بحجم الأحزاب الصغيرة التي انشقت باسم حزب الأمة و انضمت لحكومات (الإنقاذ) ، مسميات بلا رصيد حقيقي !!
يجب أن يتحلى كبار حزب الأمة و كيان الأنصار بحكمة وافرة ، و تجرد و عقلانية واجبة في مثل هذه الظروف العصيبة المُحدِقة بالبلد و الحزب ، فيقدموا كبير أبناء الإمام الراحل السيد “عبدالرحمن الصادق” لإمامة الأنصار ، فوحدة هذا الكيان و تنظيمه و تطويره أمر بالغ الأهمية في هذه المرحلة، ثم يستمر الحزب برئيس (مكلف) هو النائب الأول الحالي اللواء “م” “فضل الله برمة ناصر” ، و هو رجل جليل و حكيم .. متوازن و محترم ، و يمكنه أن يمضي بالحزب إلى محطة المؤتمر العام القادم ، لينتخب من يراه مناسباً لقيادة الحزب .

7

اكتسب اللواء “عبدالرحمن الصادق المهدي” خبرات عظيمة خلال السنوات الأخيرة الماضية ، فصقلته المؤسسات الرسمية و النظامية في الدولة ، و زادته تجربة و معرفة سياسية و عسكرية و أمنية ، و صار الأكثر تأهيلاً للقيادة بين جميع المقترحين من (آل المهدي).
قبل سنوات ، كان لي رأي سالب في “عبدالرحمن الصادق” ، و كنت أرى فيه شاباً رياضياً يحب العسكرية و يعشق الفروسية ، و لكن بمحاورتي له في جلسات و لقاءات اجتماعية ، ومراقبتي لنشاطه و مبادراته ، اكتشفت رجلاً آخر غير الذي كان .. أو الذي كنتُ أظن .
اسمعوا خطابه في تأبين الإمام بعد مواراته الثرى ، سترون في وقفته و كلماته القوية المعبرة ، ميلاد زعيم جديد بكاريزما و حضور سياسي و اجتماعي جدير بالثقة .

رحم الله الحبيب الإمام “الصادق المهدي” و أسكنه الجنات مع النبيين والصديقين والصالحين .

(إنا لله و إنا إليه راجعون) .

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية