(المجهر) على بوابة حلايب.. وتخوم جنوب طوكر.. الواقع بحذافيره
(دكاترة لو جو هنا نحنا بنشيل حاجاتنا وبنرحل)، بهذه العبارة اختصر “محمد محمود” كل أهوال الشرق، والرجل يسكن بأسرته داخل مبنى تتربع فوق بوابته لافتة كتب عليها (مركز مآروب الصحي) وهو أحد مشروعات صندوق إعادة بناء وتنمية الشرق بمدينة حلايب السودانية، التي تبعد عن حاضرة البحر الأحمر بورتسودان حوالي (300) كلم، وتفصلها عن المثلث المتنازع حوله مع الجارة مصر ربع ساعة بحسابات الزمن.
هنا الشرق، حيث تشرق أكثر من شمس، شمس الله تعالى وشمس الأمراض الحارقة ولهيب البقاء هنا نفسه.. (الناس ديل المقعدهم هنا شنو؟)، سؤال طرحه عدد من الصحفيين فوق العربة التابعة لصندوق إعادة بناء وتنمية الشرق الذي نفذ ما يقارب الـ(600) مشروع في شرق السودان على الأرض، تلك العربة التي حملت وفدنا الصحفي في رحلة الأيام السبعة ومعاناة السنين التي لا تنتهى.. هناك استفهام الصحفيين ظل حاضراً بيننا!!
الناس هناك ما زالوا يعيشون رغم كل الآلام والأوجاع.. إنهم يعيشون ليهبوا الحياة معناها الجديد، يتوسدون الآلام التي يستيقظون عليها.. ونحن هناك لم تقفز إلى ذهني سوى عبارة “جمال عبد الناصر” (إن ألف نظرية في الجوع أعجز من أن تعبر عن الإحساس به حقيقة)، ومثلها أن مليار نظرية في التهميش أضعف من أن تعبر عما رأته العين، وهنا فقط يمكن أن أصرخ ملء فمي (التهميش كما تراه العين)، ويمكنك أن تضيف لها لاحقاً (كما تسمعه الأذن)..
الخرطوم ذات أحد، وسماء بلهيب شمسها الحارق وبعض قطرات الماء (المعدنية) تخفف من حدتها، الابتسامات تكسو وجوه المغادرين.. الآن سنغادر هذا الضجيج نحو عالم هادئ دون صخب وضوضاء، نغادر إلى بعض القرى المبعثرة ولسان حالنا يردد (ودع قوم سيب الخرطوم)..
على تخوم أربع دول كانت الرحلة التي ابتدرناها من القضارف، ومن ثم حططنا رحالنا في كسلا، وأخيراً ختمناها بالبحر الأحمر.. في هذه الثلاثية لم يكن ثمة ما يحضر سوى مقولة “طارق بن زياد” بعد تحريفها (المرض خلفك والفقر أمامك)، أو الاثنان يمضيان معاً حين تغيب الماء أصل الحياة، حيث يخيم البؤس على قاطني الريف ولم يبق شيء سوى الانقراض.. الشرق حكايات رحلة نسردها ونحن نعلم أن من نكتب لهم لن يقرأوها ولن تصلهم صحائف الخرطوم ولا قراراتها التي ترفع عن كاهلهم عناء السنين!!
{ القضارف (خرائط) الكلازار
المرض هو الحكاية الأولى أو الحكاية الدائمة هنا في الشرق.. هنا على بعد (35) كلم من الحدود السودانية الإريترية تقع منطقة (أم خراييت) التي صوت بعض أهلها قبل أيام قلائل في الانتخابات التي أعادت “الضو” والياً على الولاية، وعلى ذكر (الضو) فإنه يمكنك القول ودون أن يرتد إليك طرفك إن الكهرباء هنا ترف لا يحتاجه الناس.. دعك الآن من الترف وتعال لتستمع إلى حكاية (الطبيب وليد يحيى علي) الذي يحمل سماعته جالساً كـ”الغفاري” وحيداً، “وليد” الذي يقف أمامنا يحكي بأن المستشفى يخدم حوالي (24) قرية بصغارها وكبارها ونسائها وشيوخها والقادمين إليها من خلف الحدود من حين لآخر، والمستشفى الذي يحرسه “وليد” ورفيقه فني المعمل ليس فيه عربة إسعاف، والمرضى يأتون على ظهر عربة (لاندروفر)، والحالات الطارئة يتم نقلها إلى مستشفى دوكة.. وقبل أن يكمل “وليد” حكايته يدخل على خط الحديث عضو مجلس تشريعي ولاية القضارف “أبو القاسم” وهو يتحدث عن مرض (الكلازار) وتفشيه، الذي قال إنه قتل ثلاثة مواطنين وتحول إلى وباء، وإنه لا توجد آليات لمواجهته والوقاية منه من قبل السلطات التي يشارك في مؤسساتها، وقال “وليد” إن السبب في تفشي المرض هو وجود الذبابة الرملية وأشجار اللالوب.
{ ريفي كسلا.. تهميش متعمد
الصف الرابع تحت رحمة (الحمار).. هي أول صورة تقابلك وأنت تطأ بأقدامك مدرسة (الفاروق) الأساسية بنين بمحلية ود الحليو.. في ود الحليو تحس (المرارة) حين يحدثك “أوشيك” الصغير في الصف الرابع، ذات الفصل الواقف تحت رحمة (الحمار).. سألته عن نتيجة مضروب الرقم خمسة في نفسه فأجابني بأنه يساوي (25)، وحين سألته عن نتيجة قسمة (25) على (5) رد بأنه لا يعلم، فقفزت إلى ذهني معادلة اقتسام (الثروة) وتوجيهها لخدمة المواطنين، ومحاولة صندوق إعادة بناء وتنمية الشرق إعادة رسم الأرقام وتوجيهها، فهو قد قام بإنشاء كلية للهندسة في كسلا علها تعيد ترتيب الأرقام، وتعد من أضخم المشاريع التي قدمت من الصندوق وبها تخصصات في مجال هندسة الكهرباء، والهندسة المدنية، والهندسة الميكانيكية، وتستوعب طلاب شرق السودان وغيرهم.. وقبل أن نغادر كسلا مدّنا المسؤلون بأرقام جديدة تتعلق بحال الناس، فمعتمد ود الحليو “عجيل علي عوض” قال إن صندوق إعادة بناء وتنمية الشرق دفع (100) مليون دولار للمساهمة في بناء سدي أعالي عطبرة وستيت، وقال إن قيام السدين سيساهم في إدخال الكهرباء التي تخدم المشاريع الزراعية وستنير بيوت الناس ومقاهيهم وشوارعهم المعبدة بالألم والوجع.
لسان آخر يخاطبك به “إدريس حمزة قاسم” من قرية (مغاريف) التابعة لمحلية ود الحليو والمتاخمة للحدود الأثيوبية، يلتقيك هو والمركز الصحي المغلق الذي لا يعدو كونه بناية فقط، لا معمل ولا طبيب، وهو مغلق منذ فترة عجزوا وفتروا فيها من المطالبة بحقوقهم، ويواصل “إدريس”: (نحنا نساسك في المسؤولين بمطالبنا ولا نساسك عملية الحصول على مياه الشرب التي نجلبها من البحر مباشرة)، وأضاف إن سعر برميل المياه يتجاوز (5) جنيهات على عدمها، وبالعدم الشرب من مياه البحر.
في (الطلحة) مافي دخان بلا نار، النيران هناك يشعلها (المركز) المتكامل لرعاية الطفولة وهو مركز كغيره من المراكز المتعطلة، وجدناه مغلقاً، والاحتمالات مفتوحة على كل وجع نطق به الشاب “بركات أحمد نفاع”، الذي وصف نفسه بأنه أمين الاتصال التنظيمي بالحركة الإسلامية، وقال إن الحكومة وصندوق إعادة بناء وتنمية الشرق يعانيان من إشكالية في تحديد الأولويات، فرعاية الطفولة التي أقيم من أجلها مركز رعايتها الأولى أن تبدأ الحكومة والصندوق في توفير مياه شرب نقية لهم، وكغيره من الجالسين هناك فوق جمر إرهاقهم يقول “بركات” إن هناك قصوراً كبيراً من الحكومة في تعاملها مع أهل المنطقة التي تقع في محلية ريفي غرب كسلا، ولا تبعد كثيراً عن كسلا المدينة التي استحوذت على الكثير من مشاريع صندوق إعادة بناء وتنمية الشرق، وهي (المعمرة) أصلاً ومنذ زمن، وقال إن هناك إهمالاً شبه متعمد، وإن هناك مسؤولين يذهبون من أجل التسول في الخارج باسم هؤلاء الناس قائلاً إن هناك أناساً ذهبوا لـ”القذافي” الرئيس الليبي الراحل وحصلوا على أموال لا ندري أين ذهبت. ويضيف إن ما تعانيه المنطقة يعد تهميشاً متعمداً يبدو واضحاً في خط الكهرباء الذي يمر فوق أهل القرية دون أن ينالهم خراجه.
{ (تلكوك).. قهوة منك
إنهم يجلسون فوق أحزانهم، يبتسمون، يضحكون من الواقع سواء، لا يضحكون على القادمين، فإن العبارة الأولى التي تستمع إليها وأنت تضع أقدامك في المنطقة التي تسمى في جدلية صراع السلطة الحاكمة والمعارضة المسلحة بـ(المحررة) حيث حصل عليها في وقت سابق مقاتلو التجمع الوطني (ومحررة) الآن أيضاً في فلسفة الحكومة حين خرجوا منها.. وبين (التحرر) و(التحرر) ثمة تساؤلات تطرح نفسها (حرروها من منو ولشنو؟).. هذه المنطقة هي التي ينحدر منها مساعد رئيس الجمهورية “موسى محمد أحمد”، وأول ملاحظة هي الفرق بين وجودنا داخل السيارة بمكيفها اللاهب بسخونته، وبين نار الله الموقدة التي يتوسدها هؤلاء البسطاء في ظلال (المسكيت) وهم يحتسون القهوة.. ترى كيف هو حال تكييف (مكاتب القصر)؟!
أروع ما فيهم بساطتهم، ومعدنهم أغلى من الذهب.. الناس هناك يهبون الحياة معنى آخر، دعك عن النظر إلى الملابس البالية والمتسخة لأمر له علاقة ببعد الأسواق التي تبيع آخر ما أنتجته مصانع الصين، ولها علاقة أخرى بأن الماء هنا أولى به (الجوف).. النفوس هنا أكثر بياضاً واتساعاً من كل شيء، لم تلوثها رحلة البحث عن ماء نظيف تنال رحلة الحصول عليه ثلاث ساعات على الأقل يومياً يقطعها الأستاذ “موسى محمد كرار” وهو يحمل (الباقات الثلاث) على كتفه المهدل من هوان الناس على حكوماتهم، لم يمنعه ذلك من أن يتبرع لنا باثنتين منها من أجل الوضوء حين نزلنا عليه.. وتكرر ذات الأمر حين أصروا على أن يحصل كل الوفد على القهوة قبل أن يغادر.. وقد نسي أحدنا هاتفه المحمول في (خلوة الأستاذ كرار) ولم نتذكره إلى عندما رأينا ذلك الطفل الذي قطع علينا الطريق وهو يحمل التلفون، مع عبارة شيخهم في الخلوة علمهم أن لا يأخذوا شيئاً ليس لهم.. حكمة، ما أحوج حكومتنا للتعاطي معها في حال هؤلاء الغبش..
{ مشروعات.. لكن الأولويات..!!
(598) مشروعاً هي عدد مشاريع صندوق إعادة بناء وتنمية الشرق المنفذة على الأرض.. قاطعين أكثر من (5) آلاف كلم مربع زرنا الكثير منها في حوالي (20) محلية في ولايات الشرق الثلاث، لكن يبدو أن هناك مشكلة أولويات لتوزيع هذه المشروعات، بجانب عدم تشغيل عدد من هذه المشروعات، لا سيما الصحية منها، المتمثلة في المراكز الصحية، فما زال الفقر هو العنصر الأكثر حضوراً ومعه ذات التساؤل.. لماذا يعيش هؤلاء الناس هنا؟ وتساؤل آخر.. لماذا توقفت الحرب وتوفر بعدها الأمن الذي لا يكفي وحده، مع وجود كل مبرراتها؟! الإجابة ببساطة.. أن الأدروب يخوض معركة الآن هي معركته مع الطبيعة، معركته في ضرورة الحفاظ على نفسه، معركة الحصول على (موية) ربما يقطع (42) كلم للحصول عليها، وعلى صحة والبحث عن طبيب لا يصل هناك.. معركته مع الفضول الذي يقابل به كل زائر باعتبار أن عربته التي تنهب بإطاراتها الرمال المتحركة تحملها في جوف محركاتها (الموية)!!