ضخ نفط الجنوب عبر السودان.. تفاؤل وآمال بـ(تعافي) اقتصاد البلدين
لم تكن زيارة وفد دولة الجنوب لاستكمال تنفيذ مصفوفة اتفاقية التعاون المشترك في مجال النفط هي ما حفز الوسائط الإعلامية والرسمية على الاحتفاء بتصدير نفط دولة جنوب السودان عبر الأراضي السودانية فحسب، ولكن لأن الاتفاق في حد ذاته يمكن أن يزيل كثيراً من الاحتقانات المكتومة بين الجانبين، بالإضافة إلى قدرته على إعادة بعض المياه التي أسنت لجريانها الطبيعي جراء التشاكس وانعدام الثقة بين الطرفين، وهو أمر ربما يقود إلى مناقشة القضايا العالقة بين الجانبين بقلوب مفتوحة وعقول تدرك أهمية أن السلام والأمن بين الطرفين هو فقط ما سيقود الدولتين إلى التنمية والتقدم.
الأمين العام لوزارة النفط السودانية “عوض عبد الفتاح”، أكد أمس الأول أن الأيام القليلة الماضية شهدت إصدار الأوامر من قبل وزارة النفط للشركات العاملة بالبلاد في مجال النفط، للعمل على إجراء ما يلزم من تحضيرات وأنشطة لاستقبال نفط الجنوب، ومروره عبر الأنابيب بالأراضي السودانية حتى موانئ التصدير،
مبيناً أن الطرفين يسعيان إلى مزيد من التعاون بين وزارتي بلديهما النفطيتين، وكذلك في سائر المجالات الأخرى.
وذات الأمر أكده وكيل وزارة النفط والمعادن بجنوب السودان رئيس الوفد “مشار أشيك”، الذي قال عقب وصوله الخرطوم إن وزارته (ملتزمة بما تم الاتفاق عليه في أديس أبابا بشأن مصفوفة التعاون المشترك، وهي أمرت الشركات العاملة في مجال النفط بالجنوب بإعادة تشغيل الآبار وبدء الإنتاج للنفط وضخه في الأنابيب).
تلك إذاً هي ما يمكن تسميته بالنوايا الحسنة المصحوبة بعمل حسن للمضي في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه اقتصادياً، وتحديد منتصف الشهر القادم موعداً لوصول أول دفعة من نفط الجنوب إلى البلاد.. تلك ومزايا أخرى مضى إلى تعدادها د. “حسن ماشا” عميد كلية الاقتصاد بجامعة القرآن الكريم في حديثه لـ(المجهر) بقوله إن تصدير النفط في حد ذاته سيؤثر في نواحٍ اقتصادية كثيرة تتعلق بالايرادات النفطية، وانخفاض الأسعار، وتغطية جزء من تكلفة إيجار خط أنابيب البترول، وفتح تجارة النفط بين الدولتين، وتنشيط التجارة الحدودية، والمساهمة في تخفيف حدة التوتر بين البلدين، ويساعد مستقبلاً على الإعمار وزيادة البنيات التحتية في البلدين.. ومضى د. “ماشا” إلى القول إن استمرار الحرب خلق نوعاً من عدم الاستقرار السياسي، فيما سيساهم الاتفاق على ارتفاع قيمة الجنيه السوداني، متوقعاً انخفاض سعر صرف الدولار مقابل أربعة جنيهات، لافتاً إلى أن أي انخفاض في قيمة الدولار بعد الأربعة جنيهات سيكون ناجماً عن تأثير السياسات الاقتصادية التي ستقوم بها الدولة بعد ذلك وكبح جماح الفساد، وتوجيه الموارد نحو الولايات، ودعم القطاعات الإنتاجية، والاهتمام بإنتاج السلع والفاكهة، مشيراً إلى أن الدولة السودانية كانت تعاني من اقتصاد الحرب الذي أهدر مواردها الاقتصادية، وفي حال خرجت من هذه الحالة، فيمكن أن تتجه سياسات الدولة نحو إنتاج منتج على مستوى الولايات، خاصة الموارد المالية.
ويرى الخبراء استحالة تصدير نفط جنوب السودان إلى ميناء (ممبسا) أو (لامو) الكينيتين، لوجود صعوبات عديدة، منها التكوين الجغرافي ومسافة تبلغ (1900) كلم طولي، تمر في تضاريس وعرة عبر الجبال، وعدم توفر البنية التحتية وأنابيب النقل، والتكلفة المرتفعة التي يقدرها البعض بعشرات مليارات الدولارات لإنشاء هذا الخط، إضافةً لتعارض هذا الخط مع قوانين الطبيعة التي فرضت أن يكون انحدار الأرض تجاه الشمال (ما يدلل على ذلك جريان النيل شمالاً)، وبالتالي فإن أية مخالفة لهذه القوانين قد تكلِّف كثيراً وتحتاج إلى تقنية عالية من مضخات ورافعات وغيرها مما يزيد من تكلفة الإنتاج، ولهذا يرى د. “ماشا” أن تصدير دولة الجنوب لنفطها عبر السودان من شأنه أن يساعدها كذلك على تلبية احتياجاته من بعض السلع الغذائية التي كانت تحصل عليها من يوغندا بأسعار مضاعفة مثل الذرة والزيوت والحبوب، وذات الأمر ينعكس إيجاباً على السودان الذي قد يجد أسواقاً لتلك المنتجات.
إن جنوب السودان بعد انفصاله وتحوله إلى دولة مستقلة، أصبح يمتلك (75%) من إجمالي الإنتاج النفطي السوداني الذي كان قد بلغ حوالي (470) ألف برميل يومياً. وقد ظلت قضايا النفط وكيفية احتساب رسوم العبور من بين القضايا العالقة بين الشمال والجنوب، حيث لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأنها بسبب الفجوة الواسعة بين مواقف الطرفين، حتى تم الاتفاق مؤخراً على رسوم عبور بين الطرفين.
كثير من المتابعين أبدوا تخوفهم من أن الإيرادات النفطية التي قد تصل إلى خزينة الدولة قد لا يتم إنفاقها في المشاريع التنموية، وأن يذهب العائد إلى الإنفاق الاستهلاكي، وهو الأمر الذي نبه إليه د. “ماشا” بقوله إن مشكلة الإيرادات البترولية مشكلة قديمة متجددة حينما أطلق الاقتصاديون (العلة الهولندية) على تجربة البترول الهولندي الذي ذهب أغلبه إلى الاستهلاك البذخي بعد استخراجه مباشرة، حتى تم علاج تلك المشكلة بعد ذلك بأن يصرف في التنمية المتوازنة فقط.. ولفت د. “ماشا” إلى أن السودان الآن يعاني من المرض الهولندي، مشدداً على أهمية تجنيب الموارد البترولية حتى تذهب إلى التنمية وإقامة السدود والمشاريع وتقوية الثروة الحيوانية التي تنعكس على تنمية الصحة والتعليم والبيئة.. ورغم العلل السودانية في معالجة الإيرادات البترولية، إلا أن د. “ماشا” أبدى تفاؤله بحدوث تغيير في المؤسسات وابتداع الخطط الجديدة التي تنقل اقتصاد الدولة من الاستهلاك إلى التنمية.