رأي

أمي الله يسلمك!!

الأسبوع الماضي تلقيت أعداداً مقدرة من الدعوات للاحتفال بعيد الأم في عدة أماكن ومؤسسات، والكل يبلغني بضرورة وأهمية مشاركتي لأني مُكرم، ولم أنتبه إلى أن الكل سيحتفل في يوم واحد وميقات واحد، الشيء الذي جعلني في (زحمة) من أمري باستثناء احتفال اتحاد المرأة النهاري الذي أعدته وأشرفت عليه الفضلى الأستاذة الشاعرة “روضة الحاج”، فخرنا وسفيرتنا في الشعر الفصيح على امتداد الوطن وخارج حدوده، والحق يقال فقد كان احتفالاً بهيجاً ومؤثراً طوقوني فيه بتقدير جعل الدمع يتقاطر من عيني، وخرجت من القاعة الأنيقة بإحساس الرضا والحبور، وأهدتني شركة (سوداني) راعية الحفل هاتفاً جوالاً رائعاً، وأهدوني من معرض الأزياء الذي أقيم على شرف المناسبة ملفحة مطرزة غاية في الجمال مطبوعة عليها عبارات الثناء والعرفان..
ولن أنسى ما حييت حرص العديد من الفضليات على التقاط صور تذكارية، أحمد الله حمداً كثيراً على هذه النعمة الجزيلة.. وامتناني وعرفاني لأمي الحبيبة “دار السلام عبد الله أبو زيد” والرحمة والمغفرة لأمهاتي شقيقاتها اللائي كن أمهاتي العطوفات عليّ وأنا اليتيم الوحيد الذي توفي والده وهو في الثانية من عمره.. الرحمة لهن جميعاً “عرفة”، “زمزم” و”زينب”.. ما كنت أتصور أن حروفاً وعبارات بسيطة تمنحني كل هذا الحب من معظم أمهات وآباء وبنات وأبناء بلادي، وعلى كثرة أغنياتي التي نظمتها تظل أغنية والدتي هي المتميزة، وإن لم أنظم غيرها لكفاني ذلك كما قال صديقي الشاعر والمفكر والكاتب الإعلامي “حسين خوجلي”.. وبالطبع الشكر أجزله لصديقي المطرب الفنان الكبير “كمال إبراهيم سليمان” الشهير بـ(ترباس) الذي وفقه الله ليوصل مشاعري إلى كل الأمهات، وكنت سأحزن حزناً عميقاً لو لم يغنها، لأنه رفضها في بداية الأمر حينما عرضتها عليه عصر ذلك اليوم في منزله بحي بانت غرب إستاد الموردة في سبعينيات القرن الماضي حينما بدأ سطوع نجمه في سماء الغناء.. أذكر أنني جئته فرحاً ممتطياً دراجتي (الفيسبا) التي امتطاها معي مشاهير أهل الإبداع، أساتذتي الشاعر العذري الرائع “محمد بشير عتيق”، والراحل صديقي “زيدان” والشاعر الكبير المرحوم “مصطفى سند” وآخرون رحلوا عن دنيانا ومنهم من على قيد الحياة أمد الله في أعمارهم.. دخلت على (ترباس) في صالونه الأنيق الذي زينه بالصور التذكارية وديكور الصناعات الإبداعية الفولكلورية، وجدت بصحبته فرقته بكامل عددها إذ كانوا يستعدون لسهرة كان يعدها ويقدمها الإعلامي المرحوم “متوكل كمال” وعنوان السهرة (أمسيات)، رحبوا بي جميعاً بحضور الصحفي الشاعر أستاذي “سليمان عبد الجليل” يرحمه الله الذي كان ينشر لنا أشعارنا ومقالاتنا. قلت لـ(ترباس): زي ما وعدتك جبت ليك الأغنية.. وكان وعداً قطعته على نفسي في منزل الراحل “زيدان إبراهيم” حينما كنا نلتقي بمنزله، يومها غنى لي العندليب من ألحان صديقي سعادة العميد “عمر الشاعر” أغنية (قصر الشوق) و(ليه كل العذاب) من ألحان صديقي سعادة الرائد “الفاتح كسلاوي” الذي توفاه الله منذ شهور قليلة بعد مكابدة مع المرض، وكان قد أهدى (ترباس) أغنية جميلة بعنوان (عيني ما تبكي) سكب فيها “كسلاوي” و(ترباس) عصارة موهبتهما في الألحان والأداء، قرأت لـ(ترباس) نص أغنية (أمي الله يسلمك) امتعض مبدياً استياءه للنص قائلاً: (تديني نشيد أطفال؟ يعني داير يضحك الجمهور فيني.. زول كبير وعريض يغني للناس أمي.. أمي؟) وأنصرف عنا داخل المنزل يلاعب طفلته “رنا” التي أصبحت سيدة رائعة الجمال وحرم ابننا “صلاح” الذي يدير أعمال والده الذي رباه الصديق (ترباس)، و”صلاح” هذا ابن الزوجة الثانية أختنا الفاضلة رفيقة (ترباس) في مسيرته الإبداعية رعاها وحفظها الله.. ماذا نصنع؟ قلت لأفراد الفرقة.. نعمل بروفة وبدأت أغني بصوتي الغليظ الأجش، وبدأت الفرقة تغني معي واستغرقتنا البروفة زهاء الساعة والنصف الساعة، وبدأ بعض أفراد الكورس عبارات الثناء والتأثر والبكاء.. وخلفنا مختبئاً كان (ترباس) يغني معنا حتى حفظ الأغنية وفاجأنا بظهوره وغنائه معنا، وفي المساء غناها في سهرة (أمسيات) للراحل الإعلامي “متوكل كمال”، وفي الصباح تلقيت الإشادات والتهاني بنجاح الأغنية التي هي أول لحن ألحنه، وأضفى عليه صديقي (ترباس) ألقاً بأدائه وتطريبه.. بعدها توالت أغنياتي له (إنت رايق وفايق وأنا بالي مشغول) و(أظلم من ظلم) و(جاي تفتش الماضي)، وانفعل صديقي الشاعر الصحفي وزميل الدراسة “عبد العال السيد”، وأرسل (حبان قساي نسو وعلى قليبي قسو) و(أبوي إن شاء لي تسلم) وقدمهما (ترباس) كأروع ما يكون الأداء والتطريب، وكان لم يلتق “عبد العال” إلا مؤخراً ليهديه عدداً من الأغنيات من بينها (إنت المهم والناس جميع ما تهمني).. بعدها نشأت صداقة حميمة بينهما.. وذكرياتي مع (أمي الله يسلمك) كلها ذكريات طيبة أكدت لي قيمة الشعر الغنائي والغناء، وحفزتني لنظم أغنيات عديدة للأطفال، وأكدت لي قيمة ثقافة الغناء وما يمكن أن تحدثه في النفس البشرية، وحرضتني على الكتابة بالدارجة السودانية.. شكراً لجدي “ود أبو زيد” لتسميته أمي بـ”دار السلام”..
سبحان الله فكل أم دار للسلام، لذا أصبح اسم أمي اسماً لكل أم!! وأمي شفاها الله في بداية اشتهار أغنيتها عانت كثيراً في مدينتنا الدويم حينما كانت تذهب مع أخواتها لأداء واجب اجتماعي، فقد كانت نساء المناسبات يتهامسن مشيرات إليها.. في البداية كانت ترتبك وتتحسس ثيابها مخافة أن يكون ثوبها متسخاً أو أمراً من هذا القبيل، إلا أنها أدركت أن النسوة يشرن إليها بأنها صاحبة الأغنية الشهيرة، ولم تنج أمي من أطفال حلتنا وهم يلعبون كرة (الشراب) حينما تمر بالقرب منهم، فقد كان (الماتش) يتوقف تماماً ليزفوها بأغنيتها، ولن أنسى ما حييت احتفاء صديقي سعادة العميد الركن “سليمان محمد سليمان” بالأغنية، وأتذكر ذلك النهار الذي سافرنا في معيته ليؤازر أهله بنوري بالولاية الشمالية إبان فيضانات منتصف تسعينيات القرن الماضي حين قدمنى إلى أهله بأغنية (أمي)، وكيف احتفى بي خاله العمدة والعميد الركن “سليمان” أحد قادة الإنقاذ العسكريين، تعرفونه ونعرفه بطلعته البهية ورقته وقوته وثقافته وأدبه وهلاليته، وله الفضل في ترشيحي لأكون أحد قادة الإنقاذ في مجال الثقافة، وتلك قصة يطول سردها سأحكيها لاحقاً إن شاء الله، فهي قصة ذات شجون وأشواق.. لله درك يا “سليمان”!! و(أمي الله يسلمك) قصيدة مطولة يعرفها الكثيرون خاصة محبو ابني الراحل الفقيد “محمود عبد العزيز” الذي أنشد بدايتها (ضل الضحى الرامي.. وشمس شتوية دفاية.. وريحة البن لما يفوح في قلاية..)،  والجزء الآخر الذي غناه صديقي الموسيقار “عمر الشاعر” سعادة العميد الفنان.. وبرغم أن النص من قصائد بداياتي إلا أنه مطلوب حينما أقرأ أشعاري في المنتديات، ولعل السر في ذلك يعود لبركة “دار السلام” التي ترقد طريحة فراش المرض تتغذى بأنبوب غذاء وأفراد أسرتي كافة يستظلون بظلها شجرة ظليلة نتفيأ ظلالها، ترمقنا بعين الرضا ونتسابق في رعايتها نبتغي أجر العلي القدير الذي نبتهل إليه يكلأها برعايته وتستغني عن أنبوب الغذاء لتأكل بفمها.. وأسألكم قراء هذه المساحة أن لا تنسوها من دعائكم لها أمام خالق الأنام مستجيب الدعاء أن يكسوها ثوب العافية.. قالت لي: قول لي “عمر”، خالتك “دار السلام” بتقول ليك الله يقويك ويحفظك، وقول ليهو ما ينقلك الجنوب عشان إنت وحيد وأنا محتاجة ليك!! وقتها كانت حرب الجنوب مستعرة- لا أعادها الله- ديل أماتنا حينما يخاطبن رأس الدولة، فهو ابن من أبنائها، وهذا ما جعل الأخ الرئيس يعودها بالمستشفى في مرضها قبل أشهر دون ضجة أو بروتوكول (ينصر دينك يا عمر يا ود خالتي هدية)!! طبعاً الكثيرون شاهدوا صديقي (ترباس) عبر شاشة النيل الأزرق يمسح دموعه وهو يتغنى بالأغنية مع الفنان الشاب “أحمد الصادق”، ولعله تذكر المرحومة خالتي “بارد النسمة” والدته يرحمها الله فهاجت أشجان صباه.. وصديقي (ترباس) دمعتو قريبة برغم مشاكساته في الصحف، وقد أشفقت عليه وهو يبلل خالته “دار السلام” بالدموع عندما زارها بالمستشفى، ولعل هذا مكمن الشجن في صوته الشجي المملوء بالطرب.. ولن أنسى تلك السيدة التي زارتني بالمكتب حينما كنت موظفاً بالضرائب- فقط– لتشاهد وتسلم على الولد الغنى لي أمو!! ولم تكتف بزيارتي، بل أهدتني من خيرات أهلنا بـ(جبل مرة) برتقالاً وعسلاً وسمناً و(ويكة سارا).. سعدنا بهداياها وزملائي بمكتب ضرائب أم درمان في بدايات ثمانينيات القرن الماضي، ويا لها من أيام وذكريات محفورة في وجداني ولزميلاتي وزملائي بالضرائب الأشواق والتحايا والمحبة.. والشكر والتحية لمن زارني من أهلي بالكدرو ليهديني أول قطفة موسم مزرعته من فاكهة إنفاذاً لوصية والدته التي أحبت الأغنية وأمي !! الله يسلمك.. ويديكي لي طول العمر، في الدنيا يوم ما يألمك.. أمي يا دار السلام.. يا حصني لو جار الزمان.. ختيتي في قلبي اليقين.. يا مطمناني.. بطمنك.. وخيرك عليّ بالحيل كتير.. يا مرضعاني الطيبة بالصبر الجميل.. يا منتهى الريد ومبتدا، إن شاء الله.. الله يسلمك.. أنا مهما أفصح عن مشاعري.. برضو بيخوني الكلام.. وقولة بحبك ما بتكفي، وكل كلمات الغرام.. يا سعد أيامي وهناي.. لو درتي قلبي أسلمك..
أسأل الله لكل من يقرأ هذا المقال أن يهبه الله رضا الوالدين وسعادة الدارين.. ووصيتي تقبيل قدمي أمك، وأن تبسط لها جناح الرحمة، وأن تدعو لها فهي التي حملتك وهناً على وهن وأرضعتك ورعتك صغيراً وكبيراً.. والجنة تحت أقدامها، وهي الأحق بحسن الصحبة، فصاحبها في الدنيا معروفاً وقل ربي أرحمها كما ربتني صغيراً..
وختاماً.. لكل الأمهات تعظيم سلام، والتبريكات والتهاني، ومعذرة لكل من أخلفت موعدي معهم.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية