الاعمدةرأي

إمام محمد إمام يكتب : الموت يُغيب عبد السلام صالح.. زارع الطُرفة وحاضر البداهة

بحصافة – يوم الخميس 2020/10/15

بحصافة

الموت يُغيب عبد السلام صالح.. زارع الطُرفة وحاضر البداهة

إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com
رُزئت الخرطوم والقاهرة ودبي ولندن في وفاة الأخ الصديق عبد السلام صالح فرح الذي كان يزرع الطُرفة ويحصد الفرحة، ويُشيع البهجة، ويتصدر الجلسة، في مؤانساتنا بالخرطوم والقاهرة ودبي ولندن، فأينما حللنا، وعقدنا جلسات المؤانسة، انداحت أحاديثه الطيبة المفرحة، لاسيما في بمليكو وبترسي وإديجوار رود وأكسفورد ستريت وهارو رود، ومهندسي القاهرة، وبرج خليفة دبي، والخرطوم 2 والمطار وحلفاية بحري، ومهندسي أم درمان، حيثُ كان يستصحب في ثنايا أحاديثه، المعلومة الموثقة، وفي حنايا طُرفته، الضحكة المُجلجلة. فقد غيبه عنا كثير التسفار، ولكن المرتجى أوبته مهما طال الغياب، إلا أن الناعي نعى إلينا – معشر صحبه وخِلانه – هذه المرة، غياب الأخ عبد السلام صالح فرح، صباح يوم الثلاثاء 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2020، منبهاً إيانا أنه غيابٌ بلا عودة! فعلمنا أنه قد أدركه القضاء المبرم، ألا وهو الموت الذي لا مفر منه، تصديقاً لقول الله تعالى: “قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلاً”. وإن الموتَ لا ريب مُدركنا، حتى وإن كنا في بروجٍ مشيدة، تأكيداً لقول الله تعالى: “أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ”.
فلم يكن مستغرباً أن يستل الشاعر العربي كعب بن زهير بن أبي سلمى، هذه المعاني من الهدي القرآني، وهو حينذاك مهدور دمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه بهذا القلب المؤمن المطمئن، جاء خِلسةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على الرغم من تحذيرات البعض له، معتذراً ومؤمناً أن أقدار الله لا فِكاكَ لنا منها، وأن الموت يُدركُ المرءُ حتى ولو بلغ من العمر عتياً، في هذه الحياة الدنيا، فأنشد بين يديَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته اللامية الشهيرة “بانت سعادُ فقلبي اليوم متبولُ” التي شفعت له، وعفا عنه الرسول الكريم:
وقَال كلُّ خَلِيلٍ كُنْتُ آمُلُهُ
لَا أُلْفِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلْتُ خَلُّوا سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُمُ فُكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ يَوْمًاً عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَنِي والْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ
وقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مُعْتَذِراً والعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِِ مَقْبولُ
درس الراحل عبد السلام صالح فرح مراحله الإبتدائية في مدراس الكمبوني والإنجيلية، فاستهوته العسكرية، صبياً يافعاً، فلم يتردد في خوض غمار هذا الاستهواء، وذلكم بأن يمم شطر الوادي شمالاً، حيثُ التحق بالكلية الحربية في مصر، وتخرج فيها عام 1971، وهو من الذين يكنون وداً صريحاً لمصر، ومن جماعة “مصر يا أخت بلادي”، فلا غروَّ أن تجده في كثير من الأحايين، يردد ما جادت به قريحة الشاعر السوداني الراحل تاج السر الحسن في وصف العلاقة الحميمية بين السودان ومصر، والتي صدح بها الفنان المبدع عبد الكريم عبد العزيز محمد الكابلي:
مصر يا أخت بلادي يا شقيقة
يا رياضاً عذبةَ النبعِ وريقة
يا حقيقة..
مصر يا أم جمال وأم صابر
وأم صابر هذه، اختلف الكثيرون على حقيقتها، وتباينت التفسيرات حولها، لكن الثابت ليَّ، أنها إمرأة بسيطة،كانت تخبئ الذخيرة في ملابسها وتوصلها إلى الثوار المصريين الذين يقاومون الاحتلال البريطاني، فخلدها الأخ الراحل تاج السر الحسن بشعره، وهو السوداني، مما دفع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر حُسين (15 يناير 1918 – 28 سبتمبر 1970)، إلى الصعود إلى خشبة المسرح القومي السوداني بأم درمان، عند زيارته إلى السودان، في ستينات القرن الماضي، ليُقبِل الفنان عبد الكريم الكابلي، حينما كان يتغنى بها. وقد تشرب الراحل عبد السلام صالح فرح بحب مصر، عسكرياً ومدنياً. فعسكرياً لم يكتفِ بالتخرج في الكلية الحربية المصرية، بل شارك في العمليات العسكرية في جبهة سيناء الصامدة، وفي بورسعيد الباسلة، مقاتلاً شرساً، ضمن رفقاء السلاح من المصريين والسودانيين، للدفاع عن حدود المواجهة في حرب السادس من أكتوبر 1973، وقد أبلى بلاءً حسناً في تلكم الحرب، كاد أن ينال فيها الشهادة، ولكن بلطف الله وأقداره، تخطى القضاء المبرم، إلى القضاء المؤجل، “لكل أجلٍ كتاب”!
فلا تعجب – يا هداك الله – لو علمت أن حب العسكرية، نما فيه يا فعاً صغيراً، إذ أن والده الراحل صالح فرح، لم يكن عسكرياً فحسب، بل كان معلماً مدرباً لفنون العسكرية في الكلية الحربية، حيثُ درب دفعاتٍ ودفعاتٍ على الانضباط العسكري والرماية، وفنون العسكرية الأخرى، وما زال تلاميذه، وهم كُثر يذكرونه بخيرٍ، ليس مثل ذكر مشايخ الأزهر لبعضهم البعض، وفي ذلكم شرحٌ يطول، نعزف عنه هنا، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً! أما مدنياً، فكان فقيدنا حريصاً أيمَّ حرصٍ في عدم مفارقة العسكرية حتى ولو ارتدى اضطراراً زيّاً مدنياً، في مهامٍ عسكريةٍ. وكان – يرحمه الله – يحكي لنا بشئٍ من الزهو والفخار عن لقائه الأول بالرئيس السوداني الراحل جعفر محمد نميري، بعد أحداث انقلاب الشيوعيين في يوليو (تموز) 1971، وهو حديث عهدٍ بالعسكرية، ما زال غضاً بضاً فيها، ومع ذلكم، فقد أبلى بلاءً حسناً في تحرياته مع الإنقلابيين من العسكريين، كضابطٍ حديث الانتماء إلى الاستخبارات العسكرية، حيثُ كتب تقريراً مفصلاً عن مسارات تحرياته، فلفت انتباه النميري، فطلب مقابلته، إعجاباً بتحرياته، فباغته النميري بسؤالٍ عن علاقته بمدربه في الكلية الحربية صالح فرح، فأجاب بأنه والده، فما كان من النميري إلا أن قربه إليه، بضمه إلى كتيبة الحرس الجمهوري، وهي الكتيبة التي ظل ضابطاً فيها، إلى أن تسنم قيادتها. وعمل فترة في جهاز المخابرات والأمن الوطني، وكان يُحسب على جماعة الفريق أول صلاح محمد محمد صالح المعروف ب”قوش” مدير عام الجهاز في فترته الأولى!
كان الراحل عبد السلام صالح فرح، مغرماً بعروس البحر الأحمر، بورتسودان، فخلد غرامه بمصاهرة إحدى العائلات الشهيرة في بورتسودان، ألا وهي عائلة بعشر، الأخت الفاضلة سونا عبد الله بعشر، وآل بعشر من الحضارمة الذين استوطنوا بورتسودان منذ أمدٍ بعيدٍ، وتوارثوا هذه المواطنة، بحقها واستحقاقها، ومنهم أهلي بالمصاهرة آل بازرعة. ورُزِق الأخ عبد السلام صالح فرح – يرحمه الله – ثلاثة من البنين الزين ومحمد وصالح.
وكان الراحل عبد السلام صالح فرح يُعطر المجالس بالتفكه والمعلومة، ويُدخل السرور والحبور في نفوس جلساء مؤانساته، التي لا تخلو من الظُرف والطُرف. وكان ذو ذاكرةٍ حافظةٍ، لكثير من الأحداث السياسية، والوقائع التاريخية. وكان يتردد، مواطناً وزائراً وسائحاً ومقيماً بين أربع مدنٍ، هن: الخرطوم والقاهرة ودبي ولندن. وكان – يرحمه الله – ينزع الضحكة من شفاه حيارى المهاجر، ويرسم البسمة في وجوه كاتمي الدموع!
عرفت الأخ عبد السلام صالح فرح منذ ثمانينات القرن الماضي، وتوثقت صداقتنا في لندن منذ مطلع التسعينات. ومن جميل المصادفات، أننا نسكن ما بين ضفتيّ نهر التيمز بلندن، فهو في شماله وأنا في جنوبه، الرابط بيننا فكسهل بريدج، لذلك كثيراً ما نتزاور، وكثيراً ما نلتقي عند التاج علام ومقهى كوستا في إيدجوار رود – شارع العُربان في قلب لندن!
وكنتُ عندما أُولم لبعض الأصدقاء من السودان، وكان الأخ الصديق الراحل الطيب صالح، حضوراً بيننا، يسألني عن عبد السلام صالح فرح، فكان يسره وجوده. وكانت له علائق متميزة من الود والمواددة، بكل من الأخ الراحل الشاعر صلاح أحمد إبراهيم، والأخ الراحل الدكتور منصور خالد والأخ الصديق المحبوب عبد السلام، وغيرهم كُثر.
ألا رحم الله تعالى الأخ الصديق عبد السلام صالح فرح، وأنزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنانه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وتقبله قبولاً طيباً حسناً، وألهم آله وذويه وأصدقاءه وزملاءه ومعارفه، الصبر الجميل.
ولنستذكر معاً في هذا الصدد، قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين، المعروف بالمتنبئ:
وما الموت إلا سارقٌ دقَ شخصُهُ يصولُ بلا كفٍ ويسعى بلا رِجْلِ
ولنستذكر معاً، قبل هذا وذاك، في هذا الخصوص، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا ۗ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية