ابناء جنوب السودان المفرج عنهم .. حكايات من محطة المغادرة الي جوبا
قصص وحكايات لـ(862) من الرجال والنساء الذين تعود أصولهم إلى جنوب السودان، ممن حكم عليهم القضاء بأن يقضوا فترات مختلفة في سجن كوبر وسجن نساء أم درمان لارتكابهم جرائم مختلفة تراوحت فتراتها ما بين العامين إلى عشرين عاماً.. ولكن المدهش أن من بين المغادرين إلى جوبا عند السادسة من صباح الأمس أربعة أطفال رفضت صرخاتهم إلا أن تنبه الحاضرين داخل صالة المغادرة بمطار الخرطوم إلى وجودهم، وهم قضوا فترات متراوحة دون أي ذنب سوى أنهم أبناء لأمهات دخلن السجون في أطوار الحمل المختلفة.
{ إلفة وحنان
الطفل “دينق رينق جانق” الذي يقترب عمره من الرابعة ولم ينظر إلى شمس الحرية ويتفاعل مع الناس خارج قضبان السجن إلا في صباح الأمس حينما أيقظته أمه “سوزان أكول” للمرة الأولى ليغادر بلا رجعة المكان (السجن) الذي دخله مع أمه وهو في بطنها بثمانية أشهر، ليولد ويعيش في ذلك المكان الذي ألفه وألف ما فيه من نظام حياة مختلف بكل المقاييس عما هو مقبل عليه.. وتقول سوزان التي حُكم عليها بالسجن لمدة (10) سنوات في قضية (حشيش) إنها أيقظت “دينق” باكراً ليغادر المكان ولكنه تمرد ورفض الصعود إلى العربة، ربما لأنه لم يألف ركوبها، ما جعله- حسب والدته- يخرج من السجن مبلل الخدين دمعاً. وقطعاً هي لم تكن دموع الفرح، وإنما احتجاجاً على تغيير نظام حياته الذي اعتاد فيه الاستيقاظ عند وقت محدد، وقطعاً “دينق” والأطفال الآخرون الموجودون معه في السجون لم يرتكبوا جرماً ليعاقبوا بغير قصد بالعيش بين جدران صماء وزنازين لا تمنحهم مساحات كما التي يمكن أن يعيشون فيها خارجها، وقطعاً هم عاشوا وخرجوا مسلوبي الحق في الحرية ونالوا عقاب جرم أمهاتهم الذي لا ذنب لهم فيه، ومع ذلك تقول أم “دينق” إنها لم تكن تحمل كبير همّ له باعتبار أنه معها، وإنما كانت تحمل همّ إخوانه الذين تركتهم خارج السجن بلا راعٍ ولا عائل يعولهم.
ورواية أخرى فصلها مختلف وتفاصيلها متشابهة، عاشها ويعيشها “جمعة فلنتينو” الذي حكم عليه بالسجن (10) سنوات، وأعفي له شهر من نهايتها، وهو الذي منى نفسه بأن يكمل شهره المتبقي ليخرج ويرى ابنه ذا السنوات الست، الذي حملت به أمه بعد ساعات متعة منحته لها إدارة السجن في لقاء مع زوجته التي دخلت السجن بجريمة أخرى وهي حامل بذلك الطفل منذ (6) سنوات وشهور قلائل حسبما يقول “جمعة”.
ويناشد الرئيسين “البشير” و”سلفا كير” بحق الأبوة أن يتجها لتحسين علاقات البلدين بما يسمح له بالعودة إلى الخرطوم ورعاية طفله، وانتظار خروج زوجته ذات الأصول الشمالية، التي تنحدر من ولاية شمال كردفان، رغبة منه في العيش بأمان مع زوجته وطفله.
{ شكر رئاسي
تلك الحكايات التي سمعتها وأنا أتجول بين (51) سجيناً غادروا الخرطوم فجر الأمس إلى جوبا عبر مطار الخرطوم، جعلتني أوقن بأن لكل واحد من بين الـ(862) شخصاً الذين شملهم قرار العفو الذي أصدره الرئيس “البشير” قصة مختلفة الفصول والأبواب، ومنهم من خرج وهو لا يعلم بشيء اسمه الاستفتاء، ولكنه يدري بأن الجنوب استقل حسب توصيفاتهم وكلماتهم البسيطة ورغباتهم التي يعبرون عنها شكراً وحمداً لمن أعاد لهم الأمل في الحياة بحرية كاملة.. كل واحد منهم يشكر الرئيس بطريقته الخاصة، وحتى “دينق كويك” الذي تنحدر أصوله من منطقة (قبريال) والذي لا يجيد اللغة العربية تحدثاً، فكل ما عرفه منها كلمات محدودة من بينها شكر الرئيس ومعرفته بأنه كان محكوماً بـ(130).. يحفظ الرقم ولا يقول إنه مادة في القانون الجنائي تتعلق بالقتل العمد، وقضى منها عامين بين قضبان السجن.
سفير دولة جنوب السودان “ميان دوت وول” الذي وقف إلى جانب مدير الإدارة العامة للسجون اللواء “أبو عبيدة سليمان” وكبار الضباط يتبادلون أطراف الحديث، لم يبخل السفير “ميان” عند حديثه بالشكر والثناء على السلطات السودانية ممثلة في شخص الرئيس “البشير” للعفو عن أبناء الجنوب، ويقول “وول” إن (218) من المفرج عنهم التزمت الحكومة السودانية بترحيلهم على نفقتها في أربعة أفواج، وقال إن (12) امرأة و(38) رجلاً وأربعة أطفال، من بينهم اثنان ولدا في السجن، غادروا جميعاً إلى جوبا أمس. وعند سؤال السفير عن الخطوات المماثلة من رئيس حكومة الجنوب وإمكانية الإفراج عن معتقلين سودانيين هناك قال: (في الجنوب الناس شغالين في الترتيب ولا استطيع أن أقول أي شيء في ذلك).
{ رغبات متعددة
“سوزان أكول” والدة دينق عند سؤالها عن الاستفتاء وخروجها لتجد أن السودان غير الذي تركته قبل دخولها السجن، قالت: (أنا قاعدة ساي وما بعرف حاجة اسمو استفتاء.. وتميت سنتين بالكبيرة وشهرين، والليلة ربنا فرج علينا ماشين على الجنوب وإن شاء الله يفرج على باقي الأخوات القاعدات في السجن). أما “دانيال اليجو” الذي عمل جندياً سابقاً في الجيش فقد حُوكم بـ(20) عاماً بقضية حشيش قضى نصف مدتها، ويقول إنه حضر الاستفتاء داخل السجن وصوّت للوحدة، ولكنه- حسب حديثه- خرج ووجد السودان (اتنين)، ويذهب إلى أن تلك أقدار من الله ويتمنى أن يعود السودان واحداً مرة أخرى، لكن “سيزر سبت إيليا” الذي قضى نصف مدته في قضية المخدرات التي حُوكم بـ(10) سنوات فيها، يخالف “دانيال” في أنه صوّت للانفصال من داخل السجن، ولكنه الآن يرجو من الحكومتين (يشوفو المواطنين التعبانين شديد).
أما قائد المساجين “ليون ديفيد” المحكوم في كادوقلي لمخالفات محددة– لم يسمها- بـ(20) عاماً، فيقول إنه قضى منها ثلاث سنوات وستة أشهر، واللافت أن “ليون” يتحدث الإنجليزية بطلاقة، ويقول إنه كان المندوب لتعليم الجنوبيين داخل السجن على كيفية التصويت بصورة صحيحة في الاستفتاء، ومضى إلى أنه من شجعهم على التصويت لصالح (استقلال جنوب السودان).
واختلاف التعابير في رغبات وميول الناس هي التي دفعت “أنجلينا عبد الله” التي تنحدر من منطقة أبيي لتشكر سلطات السجن التي كانت تنظم حفلات في المناسبات المختلفة، وقالت: (والله ما قصروا معانا وما لقينا كلام شين ولا ضيق منهم، وربنا يدينا الصحة والسلامة، ونعيش إخوان وبيناتنا المعاملة والكلمة الطيبة، وربنا يدينا العافية والسلامة).