رأي

إمام محمد إمام يكتب : شيخ المصوِّرين السودانيين يُلبي نداء المصوِّر الأعظم

بحصافة

شيخ المصوِّرين السودانيين يُلبي نداء المصوِّر الأعظم

إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com

غيبٓ الموتُ يوم الثلاثاء الماضي (1 سبتمبر (أيلول) 2020)، شيخ المصورين السودانيين الأخ الرسيل عبد الرحيم عوض قيلي في مستشفى يستبشرون بالخرطوم، بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض، وورى جثمانه الثرى في مقابر أحمد شرفي بأُم درمان، بعد رحلة معاناةٍ، علت جسمه، وهدت بُنيانه، ولكنه صبر على المرض، معتبراً إياه بلاء، لا مناص من الصبر والاصطبار عليه. وأحسبه في صبره واصطباره ذاكم، كان يتأسى بسيدنا أيوب عليه السلام، الذي خلد صبره القرآن الكريم، في قول الله تعالى: “وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”. فقد أورد الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي الأندلسي القرطبي المفسِّر، في تفسيره الموسوم ب”الجامع لأحكام القرآن”، قول العلماء في قول سيدنا أيوب “أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ”، إذ قالوا هو لم يكن قوله مسني الضر جزعاً، لأن الله تعالى قال: إنا وجدناه صابراً، بل كان ذلك دعاء منه، والجزع في الشكوى إلى الخلق لا إلى الله تعالى. وقد ذهب الإمام أَبُو عَبْدِ الله شَمْسُ الدَّينَ مُحَمَّدُ بْنْ أَبِي بَكرِ بْنْ أَيُّوبَ بْنِ سَعْدِ بْنِ حرَيزْ الزُّرْعِيَّ، المعروف بابن القيم الجوزية، إلى أن أدنى مدارج الصبر على الابتلاء الجزع، لأنه شكوى إلى الخلق لا إلى الله، ويُنافي الرضا بما أنزله الله تعالى عليه من ابتلاء. ولكن في حال أيوب كان دعاء منه لا يُنافي الرضا، والصبر على ابتلاءات الله على عبده. ومعاذ الله أن يشكو أيوب إلى الخلق، ما مسه الضُّرُّ. وقال الثعلبي سمعتُ أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: حضرتُ مجلساً غاصاً بالفقهاء والأدباء في دار السلطان، فسألتُ عن هذه الآية بعد إجماعهم على أن قول أيوب كان شكاية، قد قال الله تعالى: إنا وجدناه صابراً، فقلتُ، ليس هذا شكاية، وإنما كان دعاء، بيانه فاستجبنا له، والإجابة تتعقب الدعاء لا الاشتكاء. فاستحسنوه وارتضوه. وسُئل الجُنيد عن هذه الآية فقال: عرفه فاقة السؤال، ليمُنَّ عليه بكرم النوال.
من هنا، أذهبُ إلى أن صبر الأخ الراحل قيلي واصطباره على الألم والضُّرِّ الذي مسه، مقاربةً وليس مقارنةً بصبر أيوب، واصطباره على الضُر الذي مسه. فكان إعلانه بأنه مسه الضُر، من باب الدعاء ولا الاشتكاء. لم يعلم الكثيرون، خاصةً معاشر الصحافيين والإعلاميين بمرضه إلا أخيراً، ولمَّا أُثير نبأ مرضه في بعض قروبات وسائط التواصل الاجتماعي، استوقفتني مناشدة من الأخ الرسيل الهندي عز الدين في قروبه الواتسابي (Super VIP)، يوجه مداخلة في هذا الموضوع إليَّ مباشرةً، يحُثني على الاتصال بالأخ البروفسور مأمون محمد علي حُميدة رئيس مجلس أمناء جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا ورئيس مجلس أمناء مستشفى يستبشرون، بشأن علاج الأخ عبد الرحيم قيلي، لِما يعلمه وأعلمه عنه، من حب فعل الخير عند البروفسور مأمون حُميدة، ولسابق أيادٍ بيضاءَ مدها إلى بعض الرسلاء والرسيلات في هذا الخصوص. فسارعتُ إلى الاتصال بالأخ البروفسور مأمون حُميدة، وأفدته بمرض الأخ المصور الصحافي عبد الرحيم قيلي، وأعلم أنه يعرفه حق المعرفة، إذ كان قيلي هميماً مخلصاً، في تغطية فعاليات جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، منذ أن كانت أكاديمية العلوم الطبية والتكنولوجيا، بالصور الفوتغرافية،إذ أنه عاصر الجامعة منذ تأسيسها إلى أن أقعده المرض اللعين.
فوجهني على الفور، بالاتصال بأسرته وترتيب حضوره إلى مستشفى يستبشرون بالخرطوم، وإفادتهم بأن مستشفى يستبشرون يتكفل بعلاجه مجاناً، سائلين الله تعالى له عاجل الشفاء، وبلوغ الصحة والعافية. وبالفعل رتبتُ الأمر مع إدارة المستشفى، وكنتُ مع الأخ الدكتور حافظ محمد علي حُميدة نائب رئيس الجامعة والأخ الرسيل مصطفى محمود أبو العزائم الذي لفت انتباه الجميع بمرض الأخ عبد الرحيم قيلي في مناشدة واتسابية، بثها في العديد من القروبات، وأرسلها إليَّ في الخاص مشكوراً.
عرفتُ الأخ الراحل عبد الرحيم قيلي – يرحمه الله – منذ أن كنتُ متدرباً في صحيفة “الصحافة” في مطلع ثمانينات القرن الماضي، وأنا ما زلتُ في سنيّ الأُوَل بجامعة الخرطوم، وكان هو مصوراً محترفاً في صحيفة “الأيام” وقتذاك، وتوثقت صلتي به في مطلع الألفية الجديدة، عندما كنتُ آتي من بريطانيا، حيثُ كنتُ أعمل في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، إلى السودان، للمشاركة في بعض فعاليات ومناسبات جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، وهو كان المصور الصحافي الأبرز لتلكم الفعاليات والمناسبات. فلمستُ فيه علو الهمة، والحرص على إتقان عمله، وكأنه كان يُنزل في أدائه لعمله، ما رواه الإمام البيهقي – يرحمه الله – عن أم المؤمنين عَائِشَةَ بنت الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وعن أبيها، أنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ”. وكان الراحل عبد الرحيم قيلي، فيه دماثة الخُلق، وطيب المعشر، وحُسْن المعاملة، وشدة الهمة، وقوة العزيمة. وكان ليناً هيناً، صبوراً حليماً، طيباً عفيفاً، لم يُعرف عنه الملاسنة، ولا المخاشنة، ولا المخاصمة، كان فريداً في طبعه، متفرداً في تطبعه.
وفِي رأيي الخاص، يُعد الأخ الراحل عبد الرحيم قيلي أحد أبرز الرواد في مجال التصوير الصحافي في السودان. وعمل في العديد من الصحف السودانية، حيثُ تتلمذ على يديه عدد من المصورين الصحافيين. وكان مرتباً في عمله، إذ يُنظم صوره في ألبومات، يُضمنها كلام الصور، ويُحدد في تعريفٍ دقيقٍ، الفعاليات والمناسبات وتواريخها، فكان يحتفظ بإرشيفٍ موسعٍ عن صوره. وقد تأكد ليَّ ذلكم شخصياً، عندما وجدنا أنفسنا في جامعة العلوم الطبية والتكنولوجيا، قبل بضعة أسابيع، ونحن نعُد العُدة للاحتفال باليوبيل الفضي للجامعة في الرابع من مايو (إيار) 2021، في مسيس الحاجة إلى بعض الصور الفوتغرافية لفعالياتٍ ماضياتٍ، ففكرنا في التماسها من إرشيف الراحل قيلي، ووقتها لم نكن نعلم أنه مريضٌ، ولم نكن نعلم أن المرض قد تمكن منه، تمكيناً شديداً، فجزى الله زوجه وابنته هناء، في مدنا ببعض الصور الفوتغرافية لتلكم الفعاليات والمناسبات.
أخلص إلى أن الفقيد، كان بلا أدنى ريبٍ، من الذين برعوا في مجال التصوير الفوتغرافي الصحافي في السودان. ويُعد من الرواد في مجال التصوير الصحافي. وكان يحلم بمعرضٍ دائمٍ لمجموعات الصور الفوتغرافية التي التقطها لكثيرٍ من المناسبات، والتي تؤرخ لأحداثٍ غابراتٍ، قلما توجد في مكانٍ آخر، لا سيما بعد أن علمتُ أن أرشيف الصور الفوتغرافية الضخم الذي كان محفوظاً في بواكير عهدنا بالصحافة في وزارة الثقافة والإعلام آنذاك، قد تبدد وضاع إرشيفٌ من الصور الفوتغرافية الذي ضم في حناياه، تاريخٌ تليدٌ. ونتباكى اليوم على الزمن الجميل!
فأرجو مخلصاً، من وزارة الثقافة والإعلام، ألا يقتصر جُهدها في احتساب الفقيد في كلماتٍ مختصراتٍ، بل العمل على جمع تراث الصور الفوتغرافية التي التقطها، بكاميرا لم تكن تفارقه صباح مساء، في معرضٍ لصور قيلي الفوتغرافية، ليتذكره الذاكرون، وتذكره السنون. فالإبداع في بلادي، لا ينبغي أن يندثر ويموت، بموت المبدعين.
ومن المهم الإشارة إلى، بنجامين فرانكلين، وهو واحدٌ من أهم مؤسسي الولايات المتحدة الأميركية، وكان مؤلفاً وعالماً ومخترعاً، ورجل دولة ودبلوماسي، كما كان أحد الشخصيات الأساسية في التنوير وتاريخ الفيزياء، والذي قال: “لا شيء مؤكد سوى الموت”، لكن قرآننا الكريم، سبق إلى تأكيد ذلكم المفهوم، في قوله تعالى: “وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ”، واليقين هو الموت، والموت بطل يسعى بلا رِجْلٍ، ويصول بلا كفٍ، والفقيد – يرحمه الله – من الكفاءات البارزة في مجال التصوير الفوتغرافي الصحافي في السودان.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الشاعر العربي الفخيم، أبي الطيب أحمد بن الحُسَيْن، المعروف بالمتنبئ:
وما الموتُ إلا سارقٌ دَقّ شخصُهُ
يصولُ بلا كفٍّ ويسعى بلا رِجلِ
ولا ينبغي أن نتغافل عن قول الله تعالى في هذا الخصوص:
“وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية