تقارير

"حسبو": أربع رسائل في بريد "عبد الواحد نور"

رحلة في أعماق جبل مرة
يوسف عبد المنا ن
حينما دكت القوات المسلحة معاقل التمرد في جبل مرة الصيف الماضي من خلال عمليات نوعية شديدة التعقيد بسبب وجود المدنيين الكثيف في المناطق التي تحتلها قوات حركة تحرير السودان، هي مناطق كثافة سكانية عالية باعتبارها مناطق إنتاج زراعي، كان أمام الحكومة تحدياً كبيراً بعد انتهاء العمل العسكري كيف تعود الحياة المدنية لطبيعتها، حيث أغلق التمرد عدد أربعين مدرسة أساس وسبع مدارس ثانوية وثلاث  مستشفيات صغيرة وأكثر من عشرين شفخانة ووحدة علاجية صغيرة، وبسبب التمرد توقفت الحياة تماماً في مناطق جلدو وركرو وسرونق التي اتخذها “عبد الواحد” رئاسة لقواته ومركزاً سياسياً وعسكرياً.
بعد وصول القوات المسلحة لتلك المناطق من خلال عمليات نظيفة حيث لم تسجل حتى المنظمات الدولية المتحيزة كثيراً لجهة التمردات حالة انتهاك واحدة لحقوق المدنيين الذين في جبل مرة بل حتى الادعاء باستخدام الحكومة أسلحة محرمة دولية، جاءت بعد شهور طويلة من تحرير مناطق جبل مرة الغنية بالموالح وذلك بسبب مناخ البحر المتوسط الذي يسود في قمة الجبل شتاءً ومناخ السافنا الغنية صيفاً. بعد التحرير شكلت الحكومة وجوداً في الميدان وصوبت الحكومة  في “زالنجي” حضوراً في أرض المنطقة التي توقفت فيها الخدمات لنحو عشر سنوات، وكانت زيارة النائب “حسبو محمد عبد الرحمن” نائب رئيس الجمهورية إلى المنطقة الأثر البالغ في التطورات التي جاءت من بعد ذلك. خلال ثلاثة أيام رافقت (المجهر) نائب رئيس الجمهورية إلى أعماق جبل مرة فإلي المشهد الأول من رحلة الأيام الثلاثة.
حصاد الإسناد
تم تشكيل لجنة الإسناد العليا بعد تحرير المنطقة مباشرة من أجل إعادة السكان إلى مناطقهم بعد أن أذاقهم التمرد مر العذاب وسامهم في سوق النخاسة من خلال ما يرد في التقارير لاحقاً من جزء قليل من المسكوت عنه من انتهاكات التمرد لحقوق المواطنين، ولم يجد ذلك الملف حتى التفاتة من جهات الاختصاص. وتضمنت مهام واختصاصات لجنة الإسناد بناء المدارس وتأهيل المستشفيات وتقديم الخدمات الصحية للمواطنين، وجاء تشكيل لجنة الإسناد التي يشرف عليها نائب الرئيس وتضم وزيرة الرعاية الاجتماعية “مشاعر الدولب” ووزيرة الدولة بالصحة د. “سمية أكد” ومفوض العون الإنساني د. “محمد آدم” ووزير الدولة بالدفاع ووزير الدولة بالمالية والداخلية ووزراء الرعاية الاجتماعية والصحة والتعليم بالولاية، إضافة إلى والي وسط دارفور ومدير مكتب نائب الرئيس د. “الفاتح الحسن” الذي يتولى تنسيق الجهود المركزية والولائية من أجل تنفيذ حزمة الخطط التي تم إقرارها بعد المسوحات التي تم إجراؤها في منطقة جبل مرة التي تتقاسمها ثلاث ولايات تختلف درجات الانفعال من ولاية إلى أخرى، حيث يقع الجزء الأكبر من الجبل في ولاية وسط دارفور ويضم محليات وسط شمال جبل مرة، وأغلب المناطق المأهولة بالسكان في تلك الولاية وتشمل نرتتي وجلدو وقلول وسرونق وركرو، بينما تقع مناطق تابت وفنقا وطويلة في شمال دارفور، ومناطق الملم ودربات ولكن التمرد في جبل مرة انطلق من ركرو التي تمثل مسقط رأس “عبد الواحد نور” والقادة في الميدان العسكري طرادة وقدورة، ولذلك كان أمام لجنة الإسناد مهمة عسيرة جداً والبناء والتعمير أكثر مشقة من التحرير والعمليات العسكرية. وقد وجدت لجنة الإسناد التخريب والدمار قد لحق بكل شيء ولم يبقِ على أي شيء ولذلك كانت أنشطة لجنة الإسناد قد حققت نجاحاً كبيراً خلافاً للجان الحكومية التي تصرف على نفسها أكثر من صرفها على المشروعات التي يتم وضعها على عاتقها. وفي زيارة نائب الرئيس إلى منطقة قولو كان اجتماع لجنة الإسناد العليا حدثاً لم تشهده المنطقة في تاريخها.
وتناولت اللجنة موقف تنفيذ الالتزامات وقد جاء حصاد ديوان الزكاة في المقدمة ود. “محمد عبد الرازق” يتقدم كل المؤسسات بالمساهمة في إجلاس تلاميذ المدارس وملابس التلاميذ والتلميذات، حيث عادت أجراس المدارس للرنين، ومن القرارات التي أصدرها نائب الرئيس باستيعاب الطلاب في المدارس بغض النظر عن أعمارهم وجاءت وزارة الصحة في المرتبة الثانية في أداء الوزارات بإعادة تأهيل مستشفى قولو وابتعاث أطباء من أولي العزم الذين يسندون الوزيرة “سمية أكد” التي لو قدر لنصف وزراء الحكومة العمل بطاقتها وإخلاصها لنهضت بلادنا من كبوتها. وحينما خلد أعضاء وفد نائب الرئيس إلى أسرتهم تسللت “سمية أكد” في هجعة الليل مع “أسامة عبد الماجد” الذي يؤدي في بعض الرحلات مهاماً تتجاوز القلم والصورة ورسم المشهد، ذهبت “أكد” للمستشفى سيراً على أقدامها وهي ورفيقها أسامة ببطارية طورش لتبديد ظلام الليل لتعقد اجتماعاً بالمرضى والكوادر الطبية المساعدة وتذلل الصعاب وتدفع من جيبها الصغير، وقد أشاد اجتماع لجنة الإسناد بأداء د. “سمية أكد” ولكن وزير التربية وسط دارفور رسم صورة قاتمة للوضع التعليمي في الولاية، لكنه اعترف بأن لجنة الإسناد هي من وهب الحياة للتعليم في محليات وسط دارفور.

(جلدو) ورسائل “حسبو” لـ”عبد الواحد”
حينما هبطت الطائرة المروحية التي كان يقودها ضباط نسور الجو السوداني في محلية وسط جبل مرة التي عاصمتها نرتتي لكن النائب “حسبو” اختار زيارة منطقة جلدو لأسباب عاطفية وإنسانية، حيث درس المرحلة الابتدائية في مدرسة جلدو قادماً إليها من أقصى جنوب دارفور حيث ينتمي إلى عرب الرزيقات في تخوم عاصمتهم الضعين. ولما كان “حسبو” قد أصبح من أعلام السودان وقادته وصناع مستقبله ومن الفاعلين في حاضره، فالرموز لا أسرار في حياتها ولا خصوصية في تاريخها وهو يروي بنفسه قصة هجرته من أقصى جنوب دارفور ليعيش وسط أهله من قبيلة الفور، فأصبح “حسبو” رزيقياً عرقاً وفوراوياً ثقافة ولساناً وعشقاً وهوىً، في تلك المدرسة التي يقول نائب الرئيس في اعتراف جهير عندما كنا طلاباً هنا قبل أربعين عاماً كانت المدرسة أفضل من حالها الراهنة.
ووضع “حسبو محمد عبد الرحمن” عدة رسائل في بريد “عبد الواحد محمد نور” من حيث انطلق التمرد، وفي اللقاء الجماهيري بجلدو كان حضور الجماهير كثيفاً من كل القرى الصغيرة والكبيرة وجاء عرب البادية بخيلهم ونياقهم في مشهد هزم دعاة التفريق بين الجرون والقرون أي الرعاة والمزارعين. وكان في وفد “حسبو” قادة التمرد الذين وقعوا على الاتفاقية الأخيرة، ولما صعد “حسبو” للمنصة جاءت النسوة بالعطور الباريسية والماء ونثرن تلك العطور تعبيراً عن احتفائهن بابن جلدو الذي تحدث بلسانين في خطبة واحدة تحدث بلغة عامية عادية وبلغة الفور التي وجدت ارتياحاً وأخذ الميدان يغلي وتتعالى الهتافات بلغة الفور تعبيراً عن رضاء الناس عن الحاكم الذي جاء من الخرطوم لكنه منهم وإليهم، و”حسبو” هو القيادي الوحيد من أبناء دارفور لم ينقسم الدارفوريون إلى معه وضده لذلك بعث بالرسالة الأولى لعبد الواحد، بأن السلطة الآن في المناطق التي كان يجوبها ويتخذها أرضاً محررة لا يمكن الوصول إليها.
الرسالة الثانية
قادة الفور الذين صنعوا ربيع التمرد من القائد “الشيخ أبو جمال” والقائد العسكري “الأمين تورو” والقائد “عامر الدين” والقائد و”ردي” هم اليوم في معية وفد “حسبو”، يجوبون معه محليات وسط دارفور يحدثون الناس عن المستقبل القادم واتفاقية كورون التي عادت بهم لأحضان الوطن.
الرسالة الثالثة
إن مشروع قطار السلام ماضٍ والحكومة تمد يدها لعبد الواحد بصفة خاصة للدخول في مفاوضات وتسوية، تنهي الحرب وتجعل منه شريكاً في السلطة بعد أن كان شريكاً في الحرب.
والرسالة الرابعة
أمضى النائب “حسبو” ليلة كاملة في منطقة قولو الباردة جداً ومشى على قدميه لأكثر من ساعتين متجولاً في منطقة سرونق التي كان “عبد الواحد” يقسم مغلظاً، بأن الجيش الصيني لن يصل إليها بسبب وعورتها وصعوبة تضاريسها وقسوة طبيعتها لكن الجيش السوداني دخلها في النهار، وحينما استشهد ابن عم النائب “حسبو” العقيد الفارس “إبراهيم الشريف” برصاص قناصة في سرونق كان ذلك دافعاً إضافياً لأبطال القوات المسلحة لدخول سرونق، و”عبد الواحد” ما كان يعلم بأن الجيش السوداني أقوى عوداً وشكيمة من جيش الصين الذي يتخذه مثالاً، ولكن نائب الرئيس لم يهيم طويلاً في الشأن السياسي دون مخاطبة احتياجات إنسان منطقة جلدو من المياه والتعليم والصحة، ويضع مبلغ خمسة مليارات جنيه في يد وزارة التربية والتعليم لصيانة المدارس وتوفير الكتاب المدرسي وإعادة الأمل لمواطنين فقدوا كل شيء ولم يبقَ لهم شيء.
وقالت وزيرة الرعاية والضمان الاجتماعي “مشاعر الدولب” في حديثها لمواطني منطقة جلدو، إن الحكومة ستشيد الطرق وتبني المدارس وتطعم الجائع، لكن التمرد يخرب وينهب ويحرق ويغتصب. ومن جهته قال الفريق أول ركن “علي سالم” وزير الدولة بالدفاع إن القوات المسلحة تمد يدها للذين حملوا السلاح ليعودوا لأحضان الوطن ولهم الوزارات والولايات وكل شيء، ولكن إذا رفض التمرد وتجبر وتكبر فإن أيدي القوات المسلحة والشرطة الباطشة ستأتي بالسلام عنوة. وقال “علي سالم” الذي يخاطب المواطنين بلغة بسيطة ولسان مبين إن التمرد لن يحقق فائدة لهذا الشعب، وحرياً بقادته مراجعة مواقفهم حتى يدركوا ركب الحوار الوطني.
أما الشرتاي “جعفر عبد الحكم” فقد اختار مخاطبة المواطنين بنصف عربي ونصف رطانة حتى تبلغ رسالته مقاصدها لعامة الناس وخاصتهم، لكن حجم التدافع الجماهيري الكبير لأهالي وسط جبل مرة يؤكد حقيقة واحدة، أن التمرد فقد الوقود والحاضن الاجتماعي والقوة التي تقاتل في الميدان.
“ركرو” كهف من الماضي
رغم ثراء منطقة جبل مرة وإنتاجها من الفواكه والبقوليات إلا أن التمرد قضى على المنشآت القليلة التي شيدت سواء في عهد الانجليز أو العهود الوطنية المتعاقبة، وواقع جبل مرة هو شهادة إدانة لكل الذين يناصرون التمرد اليوم أكثر منها إدانة لعهد الإنقاذ الذي لم يتركوا له أن يبني ويعمر، فقد اندلعت الحرب في جبل مرة عام 2003 وحينها كانت الإنقاذ في عمر الاثني عشر عاماً فقط وأغلب تلك السنوات أهدرت في حرب الجنوب ولم تشهد كل أجزاء الوطن تنميه تذكر، وإن كان الآمر كذلك فإن منطقة مثل “ركرو” قد خرجت من دائرة التنمية مجرد هجوم التمرد عليها واتخاذها معقلاً له وقاعدة عسكرية. ومن أخطاء التمرد الكبيرة بحق المواطنين إغلاق المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية وجعلها ثكنات عسكرية لقادته والتنكيل بالمعلمين واتخاذ المعلمات سبايا في واحدة من الجرائم الكبيرة التي ارتكبت بحق إنسان دارفور.
 هبطت طائرة نائب رئيس الجمهورية “حسبو محمد عبد الرحمن” ظهر (الثلاثاء) في منطقة “ركرو” التي ترتفع لأكثر من ثلاثة آلاف قدم فوق سطح البحر، وقد هرعت جموع المواطنين منذ الصباح يهتفون ويتغنون في كرنفال أفراح ممتد ورقصات الفور التي أضفت على المكان ألقاً وبهاءً، لكن البؤس جلي والتخلف بادي وحرمان المنطقة من التنمية طوال الحقب الوطنية لا يحتاج لدليل، وكل شيء يبدو عارياً،  المعتمد بلا مكتب لكنه يتخذ من خرابة قديمة مقراً لحاكم يمثل “البشير” في الخرطوم ويمثل الشرتاي “جعفر عبد الحكم” ويمثل حكومة السودان، أما مدير المدرسة فإنه يملك حماراً أبيض اللون  يتنقل به بين مدرسته وبيته، أما الطلاب فهم مزيج من الصبيان والأطفال الصغار، أما الوحدة الصحية أو المستشفى فإنها فتحت أبوابها لعلاج المرضى بعد قيام لجنة الإسناد التي بذلت  د. “سمية أكد” جهوداً كبيرة لبث الحياة فيها. بعد الاستقبال حيث امتطى نائب الرئيس سيارة من مخلفات القرن الماضي هي سيارة السيد معتمد محلية شمال جبل مرة الذي قدم في كلمته مطالب أهالي “ركرو” التي لم تتجاوز مطلوبات الحياة العادية بل بطموح أقل من الآخرين، ومنطقة “ركرو” لم يغشاها مشروع الإسناد إلا من خلال شركة (زين) للاتصالات التي نجحت في وصل تلك المنطقة بالسودان، بينما فشلت شركات الاتصالات حتى الآن في وصل مناطق مثل سرونق وقلول وجلدو رغم تعهد وزير الدولة بالاتصالات “الصادق فضل الله” والذي تعهد بجعل المواطنين يتكلمون لوحدهم أو كما قال، ولكن نائب الرئيس قد قطع عهداً بتنمية جبل مرة وحل مشكلات المنطقة وخاصة في مجال التعليم والتدريب وحل مشكلة مياه الشرب. وضع “حسبو” مبلغ خمسة مليارات جنيه لدعم التعليم لوحده وحث النائب واستنهض همم الأهالي بدفع مبالغ مالية من أجل ترقية التعليم وتطويره، على أن تدفع رئاسة الجمهورية ثلاثة أضعاف ما يدفعه الأهالي وتنتج المنطقة محصولات زراعية هامة، إلا أن ترحيل البرتقال والمانجو والثوم الذي تستورده الخرطوم من الصين بمليارات الجنيهات لن يصل مناطق الاستهلاك بسبب وعورة الطرق، لذلك كان المطلب المشترك لأهالي جبل مرة قيام الطريق الرابط مناطق الإنتاج بالأسواق في الخرطوم حيث ما يفصل الخرطوم عن برتقال جبل مرة فقط مائة وأربعون كيلو متراً هي طول الطريق من تابت وما أدراك ما تابت في شمال دارفور، حيث يلتقي بطريق الإنقاذ الغربي ويمتد الطريق الاقتصادي إلى “ركرو” و”قولو” و”جلدو” و”نرتتي” وصولاً إلى “زالنجي” عاصمة وسط جبل مرة. وقد أعلن “سراج حامد” وزير الدولة بالطرق والجسور عن تضمين تنفيذ الطريق خلال العام الذي يبدأ بعد يومين من الآن. غداً تفاصيل أخرى عن الزيارة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية