يوم المرتب..!!
قبل أن يعود “حسين” من صلاة الصبح ينعطف نحو دكان “البرقاوي” لشراء طعمية بثلاثة جنيهات وثمانية أرغفة خبز حشوة أطفال الصغار.. “سلوى” تدرس بالصف الثامن، و”عماد” بالصف الرابع و”نسرين” في أولى أساس، و”معز” بالروضة.. تتعمد الحاجة أم الأولاد يومياً تأخير إعداد كوب الشاي حتى ينصرف الأولاد والبنات، وتعطر الراكوبة الصغيرة.. وتضع كوب الشاي أمام “حسين” وبضعاً من اللقيمات التي تجيد صنعها.. تطالب “سلوى” أحياناً بجنيه إضافي لليوم المفتوح في المدرسة أو شراء قلم رصاص أو (براية).. يتشبت طفل الروضة “معز” بثياب والده طلباً لجنيه شراء (حلاوة قطن).. يبحت “حسين” في جيوب البنطال ويعثر على جنيه أو نصف جنيه.. وحينما لا يجد يلجأ لشنطته السوداء التي يسميها (المبروكة) فيعثر غالباً على جنيه أو أكثر. يخرج “حسين” إلى الشارع، وشعورٌ بالزهو والفخر يملأ جوانحه.. لنجاحه في تدبير مصاريف البيت ومطلوبات الأطفال التي لا تنتهي.. ينتظر بصات الوالي بعيداً عن الكتل الجماهيرية التي تتوق أعناقها لمقعد في مؤخرة البص أو وقوفاً على الأرجل من الكلاكلة حتى الخرطوم.
“حسين” في رحلته اليومية من البيت إلى الوزارة يقرأ الصحافة اليومية (بالقطاعي).. ينظر للعناوين الحمراء فاقعة اللون.. مقتل عشرات السودانيين في ولاية (…) حادث حركة بطريق (…) يؤدي لمقتل (…) وجرح آخرين.. شاب يطلق الرصاص على خطيبته.. فنان مشهور في قبضة النظام العام، معتمد يحتفل بالقبض على بائعة مريسة تصنع (10) آلاف زجاجة خمر.. السياسي الكبير: لا تفاوض ولا حوار ولا هدنة، وزير آخر يعلن الحرب على التمرد.. وقيادي في المعارضة يهدد الحكومة بالسقوط قريباً.
أدمن “حسين” قراءة العناوين الحمراء في الصحف يومياً، أقلع عن تشجيع الرياضة منذ سنوات بعيدة.. قاوم “حسين” كل إغراءات أصدقائه بالاستقالة من الحكومة والتوجه لمناطق الذهب.. لم يصدق قصص الثراء التي يتحدثون عنها.. تمسك بالصبر ووعود الوالي بتحسين ظروف المعيشة.. تفاجأ “حسين” بخصم مبلغ (10) جنيهات من راتبه كدعم للسلام و(10) جنيهات خصماً من راتبه لوداع الوزير السابق و(10) جنيهات أخرى لاستقبال الوزير الجديد.. تذكر “حسين” أن راتب الشهر الذي قبضه مخصوماً (30) جنيهاً يمكنه سد الفجوة بادخار ما كان يصرفه على أبنائه حيث تبدأ إجازة الفترة الأولى بعد ثلاثة أيام.
عاد إلى بيته يحمل كيلوجرام من الموز (أبو نقطة) وسلطة بخمسة جنيهات ونصف كيلوجرام من لحم العجالي وابتسامة تملأ الجوانح كل نهاية شهر.. ولكنه حال دخول المنزل وجد فلذة كبده “نسرين” تكومت في السرير وجسدها النحيل يرتعش من شدة البرد وحمى التهاب اللوزتين، و”معز” الصغير يبكي وقد سال ماء أنفه على الصدر.. اتجه “حسين” بملابس (الشغل) إلى المستشفى فكتب الطبيب شراب (زوماكس) لـ “سلوى” و(أموكلان) لـ “معز”.. وكلا الدوائين خارج التأمين.. وحينما طالبه الصيدلي بمبلغ مائة وعشرين جنيهاً أخذته نوبة خوف من مصير راتبه.. عاد لمنزله ووجد “زينب” (ست البيت) في انتظار سداد إيجار المنزل أربعمائة جنيه، وقبل أن يفيق من صدمة العلاج انقطع التيار الكهربائي، وحينما ذهب لشراء الكهرباء اكتشف تضامن أجهزة الحكومة (الماء والكهرباء).. دفع ما تبقى من راتبه، وعاد للمنزل يتسارع بعيداً عن دكان “البرقاوي” حتى لا يطالبه بسداد حق الطعمية والعيش!