تقرير: هبة محمود سعيد
لم يكن قادة التفاوض من المجلس العسكري وإعلان قوى الحرية والتغيير يعلمون وقتها، وهم يضعون أسس ومعالم المرحلة الانتقالية، أن التوصل للسلام سوف يكون أمراً عصياً تستعصي معه فترة الستة أشهر الموضوعة له. فبحسب قادة التفاوض أنفسهم فإن التوقعات وقتها كانت تشير إلى أن الفترة كافية للغاية؛ لجهة أن الحركات المسلحة جزء أصيل لا يتجزأ من مكونات القوى الحاكمة الجديدة، غير أنه وبمضي الوقت بدأت الصورة تتضح لتبين أن التوصل للسلام عملية معقدة، وعقبة كؤود في دفتر الانتقالية.
سلسلة من التحولات الدارماتيكية ما زال يشهدها هذا الملف، جعلت المحصلة (صفرية) حتى الآن، رغم مرور عام على سقوط الحكم. ففي تصعيد آخر جديد يضاف إلى سلسة التعقيدات بين الحكومة والجبهة الثورية بشأن السلام، أعلن المجلس الرئاسي للجبهة الثورية (أمس)، رفضه لمصفوفة السلام التي أعلنت عنها الحكومة. واعتبر ــ عبر بيان له ــ ما يحدث تكراراً لتجارب الماضي التي وصفها بالفاشلة. وذكر أنه يدرس تكوين جسم آخر للحرية والتغيير إلى حين توحيد المؤسسين لقوى الحرية والتغيير على أسس صحيحة بعد تحقيق السلام طبقاً للبيان، لتصبح المصفوفة عقبة جديدة في مفاوضات جوبا.
المربع الأول
لم يكن متبقياً على ملف السلام عقب الجولات المارثونية التي شهدها عبر جلسات التفاوض التي امتدت كثيراً في عاصمة جنوب السودان جوبا، سوى بعض الترتيبات والملفات، ومن ثم التوقيع، قبل أن تطرأ مؤخراً تغييرات تمثلت في وفاة وزير الدفاع الفريق “جمال عمر”، ومن ثم إغلاق المطارات بسبب فيروس (كورونا) المستجد، لتبدأ بعد ذلك عملية التفاوض غير المباشر بين الحكومة والحركات، لكن وبالإعلان عن مصفوفة للسلام تعود العملية التفاوضية إلى مربعها الأول. وتنص المصفوفة على أن السلام أولوية، وأن مكونات الحركات تعتبر جزءاً أصيلاً وشريكاً في الحكومة الانتقالية بمؤسساتها المختلفة التنفيذية والتشريعية وفق ما يتفق عليه.
بنود المصفوفة
الورقة التي خرج بها اجتماع ثلاثي الأسبوع الماضي بين المجلس السيادي ومجلس الوزراء والمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، التي أطلق عليها (مصفوفة مهام المرحلة الانتقالية العاجلة)، وضعت تعيين ولاة مكلفين لحين الوصول لترتيبات نهائية مع الجبهة الثورية، وتكوين المجلس التشريعي على رأس مهامها، رغم أنها وضعت على عاتق المجلس الأعلى للسلام ومجلسي السيادة والوزراء مهمة إكمال التفاوض مع الجبهة الثورية وفق منهج يعالج القضايا في إطارها القوي، فضلاً عن تطوير موقف تفاوضي لكسر الجمود مع الحركة الشعبية جناح “الحلو” وحركة “عبد الواحد محمد نور”، لكنها رهنت الاتفاق الذي يتم مع مع الحركات بأن تتم إجازته من المجلس التشريعي.. ربما ذلك ما وضع العربة أمام الحصان، ودفع الجبهة الثورية للتلويح بالعودة إلى مربع الحرب، كونها ترى أهمية وقف كل الإجراءات لحين الوصول لاتفاق سلام.
موقف غاضب
(الثورية) اعتبرت في بيانها الذي أصدرته أمس، عقب اجتماعها، تكوين المجلس التشريعي وتعيين الولاة خرقاً لإعلان جوبا الذي ينص على إرجاء تشكيلهم قبيل التوصل لاتفاق نهائي، بينما اتهمت قوى إعلان الحرية والتغيير بالسعي لإقصاء ما سمَّتهم قوى الهامش، عبر محاصصات حزبية للوصول للولايات، وسعيها لتعيين أشخاص لا يتمتعون بالكفاءة ـ طبقاً للبيان. وأعلنت الجبهة عن تلقيها رسالة شفاهية من الحكومة الانتقالية حول نتائج الاجتماع الثلاثي بين قوى الحرية والتغيير ومجلسي السيادة والوزراء، وما تمخض عنه من مصفوفة. وطالبت الحكومة الانتقالية بإرسال نتائج الاجتماع كتابة حتى يتم الرد عليها كتابة. وأكدت أنه دون سلام لن تكتمل أهداف الثورة. كما أعلنت عن رفضها للمصفوفة المتداولة في الأسافير. وذكرت أنها ستعمل على مقاومتها. وذكرت أنها دفعت ثمناً غالياً من أجل السلام وإسقاط النظام البائد.
صراع المقاعد
ظلت قوى إعلان الحرية والتغيير تضغط عقب تطاول أمد التفاوض في اتجاه ضرورة الإسراع في تعيين الولاة وتشكيل المجلس التشريعي لحين التوصل لاتفاق، لإكمال هياكل الحكم؛ الأمر الذي ظلت ترفضه على الدوام الجبهة الثورية، وكثيراً ما لوحت بحمل السلاح. وبحسب مراقبين فإن ما يحدث يعتبر مؤشراً للخلاف بين مكونات الحرية والتغيير والجبهة الثورية تجاه العملية السياسية ومفهوم المرحلة الانتقالية؛ الأمر الذي جعل من ملف السلام عرضة للاستقطاب الخفي من قبل مكونات المجلس السيادي العسكري والمدني؛ نسبة للتصريحات المتناقضة من قبل المدنيين والعسكريين في وقت سابق، لكن وعلى الرغم من كل ما يحدث يظل الشاهد في الأمر أن هناك صراعاً بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية في ما يتتعلق بالسلطة وعدد المقاعد، وهو كثيراً ما سارعت قوى التغيير لنفيه، بينما ظلت تؤكده الثورية على الدوام. وخلال بيان المجلس الرئاسي للجبهة الثورية أمس، يتجلى ذلك بوضوح حين اتهم قوى الحرية بالفوز بالغنائم وعدم الرغبة في التوصل للسلام، واعتبرت الأمر تمكيناً بديلاً يرث كل سوءات نظام الإنقاذ بما فيها الحرب. وأعلنت عن تعاملها بصورة مباشرة مع لجان المقاومة والشارع ومجلسي السيادة والوزراء وسكان الولايات، في ما يختص بإدارة شأنهم العام، دون ما وصفتها بالوقوع في فخ محاصصات الحرية والتغيير بالخرطوم.
محصلة صفرية
يبدو أن عملية السلام في السودان ستظل صفرية، رغم جميع الجهود المبذولة على مدى الأنظمة المتعاقبة، فالسلام يعتبر أحد أهم مطلوبات استقرار البلاد، فقد استنزفت الحروب التي اندلعت فيه على رأسها حرب الجنوب التي استمرت لسنوات طويلة المورد والإنسان معاً، ودفعت الثمن غالياً من نهضتها وتنميتها، فعملية التفاوض بين النظام السابق والحركات الحاملة للسلاح لم تبارح مكانها، على الرغم من الجولات المكوكية التي استمرت وقتاً طويلاً بمحصلة صفرية، ولأهمية السلام نجد أن رئيس الوزراء الدكتور “عبد الله حمدوك” قد أولاها جل اهتماماته، حين ذكر في أول مؤتمر صحفي له أن إيقاف الحرب وتحقيق السلام الشامل والعادل من أهم أولويات الدولة خلال الفترة الانتقالية، وشدد على أهمية السلام، وعلى ضرورة التفاوض الجاد، وتوفر الإرادة القوية له، عندما صرح بأن مفاوضات السلام في العهد السابق لم تكن على قدر كافٍ من الجدية بين أطراف الأزمة.
اتهامات
عدم الجدية التي اتهم بها رئيس الوزراء النظام السابق في التعاطي مع ملف السلام، هو ذات الأمر الذي تتهم به الجبهة الثورية الآن مكونات قوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية لرئيس الوزاء؛ الأمر الذي يخلف معه عدداً من الاستفهامات حول تعقيدات ملف السلام، أين هي المشاكل وما هي الحلول؟، ووفقاً لمحللين فإن أيادي خارجية وأجندات سياسية ومصالح لدول خارجية وراء عرقلة هذا الملف الشائك، لكن وعلى الرغم من كل الاتهامات تبقى علمية السلام أمراً ضرورياً وحتمياً لابد منه لضمان استقرار السودان.