الخرطوم فائز عبد الله
بينما كانت قيادات النظام السابق يرسمون خارطة طريق لفض اعتصام الثوار أمام القيادة العامة، كان القدر يرسم فجر الخلاص للشعب من أعتى الديكتاتوريات الأفريقية… ففي اجتماع سبق سقوط النظام بيوم واحد جمع بين بعض قيادات المعارضة وبعض قيادات النظام، أعلن رئيس المؤتمر الوطني آنئذ “أحمد هارون” صراحة نيتهم في فض الاعتصام، وعندما خاطبه رئيس جزب الأمة القومي “الصادق المهدي” بأنه سيؤم المصلين يوم (الجمعة) المقبل في ساحة الاعتصام، قال له هارون ساخراً إنه لن يجد من يصلي خلفه ذلك اليوم.. لكن يوم (الجمعة) جاء مختلفاً إذ سقط النظام، وأدى مئات الآلاف صلاة (الجمعة) في محراب الثورة على أديم ساحة الاعتصام التاريخية.
بعد السقوط
كان يوم (الجمعة) هو اليوم الثاني لسقوط نظام “البشير”، فكان أن دعا المجلس العسكري الجديد لمؤتمر صحفي عاجل عقده في قاعة المؤتمرات في الطابق الرابع من مبنى وزارة الدفاع، وعمد المؤتمر على التعريف بأعضاء المجلس العسكري، والحديث عن خطط المجلس للخروج بالسودان من الأزمة والانقسام الذي يسيطر عليه حينها، ووضع المجلس العسكري في ذلك المؤتمر العديد من الأجوبة التي تفض بعض الغموض الذي كان مسيطراً على المشهد حينها.. ورغم أن عدم الرضا كان بادياً على الكثير من قيادات الجيش الذين جاءوا الى القاعة، إلا أن الجميع كان موقناً بأن الخطوة الأهم المتمثلة في إزاحة النظام قد اكتملت بالفعل.
تجهيزات
خارج وزارة الدفاع، وأمام القيادة العامة، نشط مئات الشباب في بسط آلاف المشمعات التي كانت تأتي بها شاحنات “دفارات” ولم يسأل أحد من أين جاءت أو من دفع ثمنها، فقط ما إن يصل “دفار” إلا وينبرى مئات الشباب لتفريغ حملته من “المشمعات” وفرشها على الأسفلت لتهيئة المكان لصلاة (الجمعة) وبالفعل فقد تم بسط المشمعات على طريقي الأسفلت في مسافة تزيد عن 3 كيلومترات.
ثلاث منابر
العدد المهول للثوار الذين جاءوا من كل أنحاء العاصمة الخرطوم للتبتل إلى الله في محراب انتصار الثورة، حتم أن تكون هناك ثلاثة منابر لصلاة (الجمعة) ارتقى كل منها إمام، بدأوا الخطبة في وقت واحد، وكانت جميعها تتحدث عن الظلم والفساد الذي استشرى في العهد السابق.
الشيخ مطر
وكان أبرز أئمة (الجمعة) في ساحة القيادة الشيخ” يونس مطر”، كفيف البصر، قوى البصيرة، وهو يُعد، من أبرز علماء الدين في ولاية بوسط دارفور، ويدير خلوة لتحفيظ القرآن، لكنه كان قد تعرض للاعتقال من قبل نظام الرئيس المعزول” عمر البشير “لأكثر من مرة، لما عرف عنه من مواقف صارمة تنتقد نظام” البشير” وتعارضه. وأشار في خطبته، التي جاء من دارفور ليقدمها في الخرطوم إلى “ترسيخ الحرية والسلام والعدالة ووحدة البلاد”. وشدّد على ضرورة سلمية الثورة وعدم اللجوء إلى العنف. وطالب المجلس العسكري الانتقالي، بالتحلي بالمسؤولية والحكمة والصبر، وتسليم السلطة إلى حكومة مدنية وشدد على اهمية عدم تدخل الدول الخارجية في شؤون البلاد، مؤكداً أن السودانيين يستطيعون إيجاد حلول لمشاكلهم بأنفسهم.
رفض الاعتقال
وبدوره وجه خطيب جمعة القيادة الشيخ “آدم إبراهيم” رسائل متعدد للمجلس العسكري. وأكد مطالبتهم بتسليم السلطة لحكومة مدنية، مبيناً أن السودانيون خرجوا من أجل الحرية، محذراً من مغبة اعتقال أي مواطن دون سند قانوني. وقال إن ذلك خط أحمر، ومرفوض أياً كانت الجهة التي تقوم به، لافتاً إلى أن الشعب السوداني خرج ضد الظلم والفساد، وظل يحمل آلامه وآماله، إلى أن تحققت رغبته بسقوط النظام، فينبغى أن تحقق له الشعارات التي ظل يرفعها المتمثلة في الحرية والسلام والعدالة.
مطالب باستمرار الاعتصام
وفي المنبر الثالث خاطب المصلين الشيخ “مهران ماهر عثمان”، ودعا خلال خطبته للاستمرار في الاعتصام أمام القيادة العامة ومواصلة الاحتجاجات السلمية، كما طالب باسترداد أموال الشعب المنهوبة بواسطة عناصر النظام البائد وحزب المؤتمر الوطني المحلول.. وترحم على أرواح الشهداء الذين مهروا الثورة بدمائهم.
صلاة الغائب
حتى ذلك اليوم كانت وزارة الصحة قد أصدرت إحصائية رسمية تقول إن عدد القتلى في الحراك الثوري بلغ (53) شهيداً، بينما كانت لجنة أطباء السودان، وهى أحد الأجسام التي كانت تقود الحراك تؤكد أن عدد الشهداء بلغ (123) شهيداً… بين هؤلاء وأولئك كانت صلاة (الجمعة) في ساحة الاعتصام مسرحاً أيضاً لصلاة الغائب على أرواح شهداء الثورة، وقد كان مشهداً فريداً أن يصطف مئات الآلاف لأداء صلاة الجنازة غيابياً على من فقدوا أرواحهم فداءً لخلاص الوطن.
قيادات وسط المصلين
كثير من قيادات أحزاب المعارضة وقوى الحرية والتغيير شاركوا في صلاة (الجمعة) أمام القيادة العامة، فقد رصدت الكاميرات الرئيس السابق لحزب المؤتمر السوداني “إبراهيم الشيخ” يتوسط المصلين، بينما جاء رئيس حزب الأمة “مبارك الفاضل المهدي”، وشوهد رئيس حزب البعث “محمد وداعة”، وعدد كبير من القيادات الذين كانوا يقودون الحراك الثوري.
كرامة
عقب الصلاة وزع عدد كبير من النساء “بليلة” قلن إنها كرامة على رحيل النظام الذي جثم على الوطن ثلاثة عقود، بينما طاف عدد كبير من الشباب على المصلين، يوزعون لهم المياه خاصة وأن الجميع أدى الصلاة تحت أشعة شمس أبريل الحارة.