فاتني فيه العزاء، وأنا موجود لأني أتحرك في حدود.. وفاتني قبلها أن أصله في داره في نمرة (3) بالخرطوم لأسفار عقب دعوة ابنه لي بأن أجلس إليه في عزلته وأبدد وحشته بعد أن أنقطع عن الناس والمجتمع عدا خمس رحلات يومية بين البيت والجامع.. ذلكم الذي أعني هو أحد فرسان الكلمة، ورواد الصحافة في بلادنا.. “عبد العزيز حسن دسوقي” وكان صحيفته اليومية في الستينيات (الزمان) نسيجاً وحدها غير (الرأي العام)، و(السودان الجديد)، و(الأيام) و(الصحافة)، و(الميدان) و(الميثاق).. فقد أطلق عليها الشارع السوداني (صحيفة الدكاترة) لأن من بين كتابها الراتبين د.”محي الدين صابر”، ود.”عقيل أحمد عقيل”.. وكان (حديث الزمان) على الصفحة الثامنة (الأخيرة) على عمودين هو آخر ما يصل المطبعة في الطابق الأرضي عادة بعد التاسعة مساء، فقد كان الأستاذ “عبد العزيز” يمضي أمسيته الباكرة في (القراند) وفندق (السودان) بصورة منتظمة، ويعود من هناك ليكتب (حديث الزمان)، ولذلك كان معظم قراء الصحيفة يبدأون مطالعتها معكوسة.
كان موقع (الزمان) في شارع السيد “عبد الرحمن” غير بعيد من ميدان (القندول)، وتعتبر وسط الخرطوم، وعندما انضممت إلى أسرة تحريرها ــــــ على جنب ـــــ إذ كنت محرراً بمكتب النشر التابع لوزارة التربية والتعليم في منتصف الستينيات، وجدت فيها نجوماً لامعة وأسماء معروفة بداية بالراحل “محمود أبو العزائم” ومروراً بـ”مصطفى عابدين الخانجي” و”صديق محيسي” و”محمد حسن مهدي” و”عثمان الجوخ” وانتهاء بـ”بشير الطيب” و”كمال شانتير” و”مأمون رياضة” و”سليمان عبد الجليل” علاوة على المدير الإداري “سيد حجار”.. أما العابرون يومياً فعلى رأسهم “عثمان علي إبراهيم” و”منير صالح عبد القادر” و”محي الدين فارس” و”علي المك” و”علي شمو” و”حسب الرسول عرابي” و”إسحق الخليفة شريف” و”سعد أحمد حسين” و”الطيب شبشة” وارتال من المثقفين والسياسيين والرياضيين.. وكان لرئيس التحرير وصاحب امتياز الجريدة، أي الناشر “عبد العزيز حسن” أصفياؤه وزواره الخاصون به، وما كنا نأبه بهم لأن دار الصحيفة كما يوم المهرجان، وأستاذنا “أبو العزائم” قطب الرحى في كل ذلك الحراك اليومي، وهو الذي يدير الصحيفة لأن الأستاذ “عبد العزيز” لا يتدخل إلا مرة في الأسبوع حين يضع الاجتماع الأسبوعي الذي يستعرض شأن الصحيفة التحريري والإداري والمالي، وكنت شغوفاً لمعرفة كم تطبع (الزمان) يومياً وكم توزع، لأن ذاك يعطيني مؤشر الطمأنينة بأني في الموقع الصحيح.. وأكاد أجزم بعد كل تلك السنين أن خط التحرير في (الزمان) كان محايداً بلا انتماء سياسي أو تعاطف أيديولوجي، لكن ما كان نعير عليه صاحبها هو الدقة، المصداقية، والاستقلالية السياسية.
ما كان يميز (الزمان) عن سواها من الصحف اليومية خفة الظل التحريرية، والإثارة الخبرية المعتدلة، وتباين الاتجاهات السياسية في تحليلاتها ومقالاتها.. وكان إقبال الشباب عليها واضحاً من خلال (التوليفة) “الشانيترية” من جهة، ووجودية “بشير الطيب” من جهة أخرى.. واكتشفت ذات مرة أن الأستاذ “عبد العزيز حسن” (يفلفل) الصفحات بعد صدور الصحيفة إذ استدعاني في مكتبه يوماً يسألني عن مقصدي في ما نشرته في باب (الوجه الآخر من المسألة)، ولفت نظري أن ما أثار انتباهه أن الملخص حمال وجهين.. وذات يوم سألت “أبو العزائم” من الفرق بينه وبين “عبد العزيز حسن” فضحك وقال لي: أنا شعبي وهو أرستقراطي!
ومظهر “عبد العزيز حسن” الجاد وارتداؤه الدائم للبدلة كاملة يعطيك الانطباع بأنه (رسمي) بينما دواخله دواخل طفل غرير.. فعندما اكتشف أني (أساهر) في الجريدة وأستخدم تلفونه كثيراً، مد لي حبال الصبر حتى وصلته الفاتورة برقم هائل وسددها بينما احتفظ بنسخة منها قدمها لي يوم عقد قراني باعتبارها مساهمته في الفرح.. وفهمت وضحكت!
لقد تعلمت من (الزمان) الكثير من فنون الصحافة والكتابة، وكل من عرفته أو التقيته في رحابها شكل إضافة لي.. أما ناشرها “عبد العزيز حسن” فقد طبع في ذهني صورة رئيس التحرير (المحترم)..!! وسده الله الباردة.