رأي

فنجان الصباح..

أحمد عبد الوهاب
رحيل امرأة كانت مهنتها الكرم


كانت ترتجف من حمى الملاريا.. وقد وضعوا فوقها بطانية صوف ثقيلة.. ولكن طرقاً على باب بيتها أخبرها بقدوم ضيف قادم من سفر غير قاصد.. وقد سمعوها وهي ترجو من الملاريا أن تعطيها مهلة لكي تستقبل ضيفها، وتكرم كعادتها ضيف الهجوع سمعوها تقول يا (الملاريا زحي مني جوني ضيوف).. في ذلك المنزل الصغير المستأجر في ديوم الخرطوم منذ الخمسينيات.. كانت الحاجة (فاطمة بت طه تجعل من بيتها بترحابها وكرمها وحبها للضيوف فندقاً من ذوات الخمس نجوم.. كان ذلك المنزل المبني من الجالوص والمصنوع بابه الخارجي من الزنك، بمثابة (قراند أوتيل شعبي) في زمان الستينيات الجميل.. لقد كانت الستينيات سيدة سنوات القرن العشرين – كما يقول الأستاذ “حسين خوجلي”.. كانت الحياة ساهلة والأيام ماهلة.. والزمان سمح ورخي.. كانت سنوات ذهبية للشعر والغناء والملاحم، كانت أنضر سنوات الكورة.. وصولة الأفكار والأيدلوجيا.. كانت سنوات نضج لـ”زروق” و”المحجوب” وأولاد “الفضلي”.. وميدان تنافس شرس بين “الصادق المهدي” وأعمامه، و”الترابي” وأترابه.. كانت الخرطوم تشعل ثورتها في أكتوبر.. وتقيم مؤتمر اللاءات الثلاث.. وتتأهب لزمان “النميري”.. وانكسار قوة الأنصار في “أبا”.. واندحار الحزب الشيوعي في الخرطوم..
لكن كانت الحاجة “فاطمة بت طه” المنحدرة من منطقة “قباتي” بولاية نهر النيل تنظم ومعها زوجها العامل البسيط بالسوق العربي مؤتمرها الدائم لكرم يسد الجوع.. ويفرح ضيف الهجوع.. كانت دوكتها في حالة استنفار.. وكانت عدة القهوة تعلن حالة طوارئ مستديمة.. كل ذلك التعب والسهر وأوجاع الحمى وثآليل الخريف تنزاح عند أول طرقة على الباب.. أو إذا وشوش النسيم.. أو هب دعاش الخريف فحسبته بشارة بمقدم ضيف كريم..كان زوجها رحمه الله عنواناً عريضاً في صحيفة الكرم السوداني اليومية المستقلة.. وأيقونة أهل السخاء.. والجود.. رحل هو قبل سنوات.. وبالأمس نعى الناعي أرملته العقيلة السودانية التي لها نسب لا انفصام له مع “حاتم الطائي”.. ولها مشروع توأمة مع “النعيم ود حمد”، وشراكة في الخير في قدح “ود زايد”.. اسمها “فاطمة بت طه” من أعرق منابت العز في ديار الجعليين ومن منطقة كانت ولا تزال مستودع أسرار الدولة المروية..
اللهم إن الحاجة “فاطمة” قد وفدت عليك، وأنت أكرم جار.. كبيرة وفقيرة.. أهلكت صحتها وسني شبابها وذهبها لإكرام الضيوف وصلة الرحم وإطعام المساكين.. وأنت يا رب كريم تحب الكرماء.. وأنت أجود من نزل بساحته العفاة والفقراء والمساكين..
لها الرحمة ولآلها الصبر..

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية