الخرطوم – المجهر
في مشهد مهيب شيع الآلاف أمس جثمان المغفور له بإذن الله الفنان الشامل “صلاح بن البادية” بمسقط رأسه بشرق النيل قرية أبوقرون، وسط بكاء الرجال والنساء ودموع الحزن والأسى والدعوات الصالحات.
وقد أثار نبأ وفاته كثيراً من الحزن والأسى لدى عامة السودانيين، فمثلما عشقه الشباب الذين خاطب وجدانهم بالكثير من الأغنيات الخالدة، فهو أيضا الفنان المفضل للكبار الذين عاصروا انطلاقته الفنية في منتصف خمسينيات القرن الماضي.
وشهد وزير الثقافة والإعلام الأستاذ “فيصل محمد صالح” مراسم التشييع أمس وأدى واجب العزاء مع أسرة الفنان الشامل “صلاح بن البادية” وقدم تعازيه لجميع أفراد الشعب السوداني بمختلف مشاربهم من طرق صوفية وفنانين ودراميين وقيادات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وأكد الوزير أن الراحل كان الفنان الذي شمل جميع الفنون من غناء وتمثيل ودوبيت ومديح المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الأستاذ فيصل محمد صالح وزير الثقافة والإعلام أن رحيل الفنان الأستاذ “صلاح بن البادية” خسارة كبرى للسودان وللحركة الإبداعية والثقافية والصوفية بعد أن أثرى كل تلك الساحات بمواهبه المتعددة وإبداعه اللامحدود، وقال الوزير لدى حديثه للفترة المفتوحة التي خصصتها قناة النيل الأزرق لرحيل الفنان الكبير أمس أن الأستاذ “ابن البادية” أثبت أنه ليس هناك تعارض بين الدين والفن وقدم نموذجا رائعاً وراقياً للفنان المتدين الملتزم برسالته التي هذبت النفوس وأشجتها بجميل المدائح والأغنيات .
وقال “فيصل محمد صالح” في لقاء مع قناة النيل الأزرق: إن الراحل كان ملتزماً تجاه قضايا وطنه وساهم في دعم مشروعاته من خلال قيادته للقوافل الفنية التي ساهمت في محاربة العطش وبناء المشافي والمدارس في مناطق السودان المختلفة قبل سنوات طويلة، وأشار الوزير إلى براعة “ابن البادية” في التأليف الموسيقي وخياله الواسع الذي قدم لنا أغنيات كبيرة ومتكاملة من حيث المقدمات الموسيقية وتنوع الألحان والإيقاعات، وقال إن السودان فقد خلال الفترة الأخيرة العديد من رموزه الإبداعية وتبقت لنا قمم فنية قليلة يجب أن نهتم بها ونوثق لها تقديراً ووفاءً لما قدموا.
وشارك في التشييع أمس ممثلون لفئات الشعب السوداني وجاءت الوفود من الخرطوم والولايات معزية في فقيد الوطن الذي تغنى له معرفاً بثقافته وتراثه وسياحته وحب الأديم واصفاً الوطن بالجمال والروعة من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه.
وقد اشتهر الراحل بدعوته للوحدة ورتق النسيج الاجتماعي فضلاً عن مدحه للمصطفى (ص) الذي عطر به السودان ووقف الحشد أمام ضريحه لساعات يدعون الله له الرحمة والمغفرة وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة.
وأعلن رئيس اتحاد الفنانين السودانيين الدكتور “عبد القادر سالم” الحداد الرسمي وأغلق نادي الفنانين بأم درمان أبوابه حزناً على الرحيل، وقام كل أعضاء الاتحاد أمس بالمشاركة في التشييع في أبو قرون، وقال “عبد القادر سالم” إن الراحل كان من المداومين على المشاركة في كل فعاليات الاتحاد.
وقال الأمين العام لاتحاد المهن الموسيقية الفنان “سيف الجامعة” في تصريحات لصحيفة (المجهر) إن “صلاح بن البادية” يعتبر شيخ الغناء السوداني، وأستاذنا وقدوتنا، وبرحيله تطوى صفحة هامة من تاريخ الفن في السودان تجربة غنائية باذخة وأيقونة الإحساس الصادق والإتقان والانضباط والمهنية العالية وحسن السلوك وطيب المعشر والسيرة والإنسانية واحترام الآخر ومحاولات جادة مستمرة لاقتحام الحجب عربياً وأفريقياً وكان من المؤمنين بأزلية العلاقات بين شعبي وادي النيل وقدم في ذلك الكثير من المبادرات كالأعمال المشتركة كفيلم (رحلة عيون) وكان يؤمن بأن المسرح أبو الفنون كان رشيق اللحن أنيق المفردة والعبارة المنتقاة بعناية كان مادح الرسول صوفي معنى واضح الوله وفير الصدق كثير الشوق ترك آثراً عظيماً للأجيال، رحمه الله رحمة واسعة نعزي أسرته الصغيرة وقبيلة الفنانين وأسرته الكبيرة السودان.
وقال الفنان “عاصم البنا” إن الراحل ملك الفن والتمثيل والأغنية وعلم من أعلام السودان وصاحب وجه صبوح وروحانيات عالية ورجل دين وقمة جمع بين الفن والمديح وحُب الوطن.
وأشار الفنان الشاب “أمجد السراج” إلى أنه يعتبر نفسه حواراً لشيخه الفنان “صلاح بن البادية”، وأنه منذ طفولته ظل يقلد صوته بالمدرسة رغم صعوبة ذلك إلى أن صار يشبهه إلى حد بعيد ونال شرف تقديم الأغنيات في حضرته.
وكان “صلاح بن البادية” قد فارق الدنيا الفانية عن عُمر ناهز (82) عاماً، الإثنين، في العاصمة الأردنية عمان، بعد مسيرة من العطاء الفني امتدت ستة عقود.
وظهر “ابن البادية”، صاحب الأغنية الشهيرة “الجرح الأبيض”، آخر مرة في 17 أغسطس الماضي، خلال احتفال السودان بالتوقيع على اتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير الخاص بنقل السُلطة لحكومة مدنية بعد سقوط نظام المعزول “عمر البشير”، وفي ذلك الحفل تغنى بواحدة من روائعه الوطنية.
غادر بعدها إلى الأردن مستشفياً، إثر متاعب صحية ألمت به خلال الفترة الأخيرة، قبل أن يسلم الروح لبارئها اليوم، بعيداً عن بلاده التي منحها عدداً كبيراً من الأغاني.
ولد “ابن البادية”، واسمه الكامل “صالح الجيلي أبو قرون”، في منطقة شرق النيل، من أسرة دينية، فوالده أحد مشايخ التصوف في السودان، لذا غير اسمه بعد دخوله عالم الغناء، من “صالح محمد الجيلي” لـ”صلاح بن البادية”، وهو ذاته الأمر الذي دفعه لتأخير ظهوره الفني حتى عام 1959 بسبب توجهات الأسرة الدينية.
وشكل بعد ظهوره ثنائية فريدة مع عدد من الشعراء الشاعر “محمد يوسف موسى”، الذي كتب له مجموعة من الأغنيات أشهرها (أعيش في ظلمة وأنت صبايح)، كما غنى للشاعر “أبو آمنة حامد” فيضاً من الأغاني الرائعة، أبرزها “سال من شعرها الذهب”.
ورفد “ابن البادية” مكتبة الأغنية السودانية بعشرات من الأغاني الخالدة، منها: “حُسنك أمر”، “فات الأوان”، “الجرح الأبيض”، “وشوشني العبير”، و”عايز أكون”.
بلغت جملة الأعمال التي سجلها في الإذاعة السودانية والتلفزيون نحو (117) عملاً فنياً.
على مستوى المسرح، صعد “ابن البادية” خشبته أربع مرات بطلاً لمسرحيات هي “ريرة”، و”لعنة المحلق”، “تور الجر والدعاش”، كما ألف مسلسلاً وعدداً من الكتب.
ومنحته رئاسة الجمهورية السودانية الوسام الذهبي في عام 2004.