كنت قد وعدت القارئ الكريم وسعادة وزير الثقافة والإعلام بمواصلة تقديم مقترحاتي الخاصة بعمل الوزير في الشأن الإعلامي والثقافي – فقط – لأني عملت بالمجالين وتقلدت عدة وظائف قيادية فيها، لكن طرأ أمر جلل وفادح ومحزن هو رحيل صديقي “صالح عبد القادر” المعروف بـ”صلاح ابن البادية” لذا اسمحوا لقلمي بالتداعي دون ترتيب لأخط به حروفاً وعبارات عن الراحل المقيم التي جاءت أخبار رحيله بمستشفى بالأردن، وتلقينا بالحزن كله خبر الرحيل.. والموت حق وحقيقة وقدر محتوم يطال كل مخلوق على هذه الأرض، إذا جاء أجله المحتوم وتمت المعدودة من أيام حياته، فالأجل لا يتأخر ولا يتقدم ثانية.. وكل من عليها فان ولا يبقى إلا الخالق جل شأنه.. يرحمك الله أيها الصالح ابن الصالحين رحمة واسعة ويجعل البركة في ذريتك ويلهمنا جميعاً الصبر والسلوان وكلنا إلى الله راجعون.
(طمنا عليك.. شوف الأيام كيفن) هذا هو البيت الأول من أغنية نظمتها ولحنتها وأهديتها للراحل.. وسجلها للإذاعة السودانية.. (فالأيام مرت وطويت صفحات كتابك أيها الرائع الجميل.. لا فيها هنا.. لا فيها منى.. لا حاجة تفرح أو تسر) وهذا هو البيت الثاني في الأغنية.. وحقيقة ماتت الأماني وغادر الهنا والسرور في دنيا فقدنا فيها الأحبة وأخذوا معهم لحظات الفرح والصدق.. سفرك طول.. والغيبة على العشاق مرة.. وسفرك هذا سيطول إلى أن نلحق بك في يوم مسطور ومعلوم منذ الأزل ومنذ صرخة الميلاد الأولى.. (كيف اتحول قلبي الحباك من يوم لاقاك أول مرة) ويشهد الله أحببناك منذ الصغر في اليوم الذي سمعناك تغرد بأغنياتك الأولى عبر إذاعة أم درمان التي كان يتحلق حولها كل أهل السودان خاصة حينما تنقل الحفلات من على خشبة المسرح القومي على الهواء مباشرة ونستمع بكل خلجات الأرواح والأنفس للراحل الإعلامي المبدع “عمر عثمان” يصف لنا المشهد وكنا كمن يرى ويسمع، وقتها لم تكن الإذاعة المرئية سيدة الموقف.. قلت لي: والدي عرف صوتي وقال لمن سمعوا من الإذاعة.. الصوت دا زي صوت “صالح”، و”صلاح ابن البادية” لم يكن اسمك في الأوراق الثبوتية واخترت الاسم الفني مخافة غضب والدك.. حافظ القرآن الشيخ الورع رايع المسيد والخلوة بقريتكم بأبو قرون.. وقلت لي إن والدك قال لك: سمعتك في الرادي.. لكن أديت الإذن..بس أمدح الحبيب.. ولمن تغني.. غني الكلام الطيب.. والشاهد أن إنتاجك الغزير ومدحك كان طيباً يدخل السرور ويطرب الوجدان ويرطب القلب.. وإدخال السرور على الموحدين فيه بركة وأجر على الأنفس فهنيئاً لك أجر إدخال السرور على الأنفس.
طيفك يوم زار.. فتح نوار.. لكنو عجول بسراع مر.. أمس مر طيفك مبتسماً وبسراع مر.. وتلك الأرواح الطاهرة تأتي لمحبيها لمنحهم السلوى وتطمئنهم أنها في حرز أمين لدى الخالق العظيم.. وتمضي كلمات الأغنية على هذا المنوال.. وأذكر رحلتي معك إلى الكاملين استجابة لدعوة حفل في ناديها.. يومها كانت مناسبة واقعة بدر الكبرى.. قلت لي: ألف مدحة.. ألحنا وأقدما في الأمسية بعد نحفظها ونحن في طريقنا لي ناس الكاملين.. وبالفعل نظمت لك الأنشودة الدينية والتي لحنتها لحناً رائعاً ومطلعها (حن وهنا.. قلب العليل رق وصفا.. لي النومسو وسيد الأنام المصطفى) وأنشدتها بالحفل ووجدت قبولاً واستحساناً من أهلنا بالكاملين.. بعدها بأيام سجلتها للإذاعة وفتحت لي طريقاً لمدح الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأنا مدين لك بهذا الفضل عسى أن أجد الثواب من ربي في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم.
لا أنسى ولن أنسى من حضروا حفل زفاف أحد أحفادك بنادي الكشافة البحرية كنت بصحبة صديقي وتلميذي المخرج “شكر الله خلف الله” في تلك الأمسية أدهش الجميع حينما أحيا حفل عرس حفيده ورقصت أسرته على أنغام غنائه.. قلت في سري (ما شاء الله).
وجال بخاطري أن هناك عيناً حاسدة.. ستصيبه بالسحر وصدق حدسي لأنه عقب ذلك الحفل أصيب بكسر أقعده مدة حتى تعافى.. صحبته في رحلة إلى اليمن في مطلع تسعينات القرن الماضي.. هناك علمت أن أهل اليمن يحبون “ابن البادية” ويحفظون عن ظهر قلب العديد من أغنياته لاسيما (سال من شعرها الذهب) والتي ألفها له الشاعر الراحل “أبو آمنة حامد” وألف لحنها الرائع الموسيقار “عبد اللطيف خضر، ود الحاوي” ذلك اللحن الذي كشف فيه الراحل عن موهبة صوته ومساحاته في الحاد والغليظ فاستحق تصنيفه في علم الأصوات البشرية بالصوت الكامل الأبعاد.. في تلك الرحلة التي لن ينساها كل من ذهب معنا من مبدعين نظمت له نص أغنية (في بالي ويا مضمخ وكلك عطور) والتي ألف لها اللحن الفريد وحرضني أن استبدل نصها القديم الذي لم يكن يروق له.
ولعل الراحل يعد الفنان الأول في السودان الذي وثق مشوار حياته الإبداعية في كتاب رائع يعد مرجعاً للأجيال القادمة.. كما جد وأجتهد وحقق كثيراً من أحلامه، صعد على خشبة المسرح وحاز على بطولة مسرحية تاجوج والتي أجاد تمثيل دور المخلص فشهد له الجمهور ونقاد المسرح بطول باع موهبته في التمثيل.. كذلك ولج مجال السينما الروائية وسجل سبقه السينمائي حينما مثل بطولة فلمين روائيين من إخراج رائد السينما السودانية الراحل “جاد الله جبارة” والمخرج الراحل “أنور هاشم” في فلم (تاجوج) و(رحلة عيون).. كان شاعراً نظم عشرات القصائد في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، وصدح بها مؤلفاً لألحانها العديدة المتنوعة بالطريقة التقليدية بآلة الطار وبالأوركسترا.. ولعل مكتبة التلفاز والإذاعة دليل على اهتمامه بالتوثيق لأعماله وهذه كانت انتباهة مبكرة منه بضرورة توثيق المبدع لإبداعه.. قبل عام فقط افتتح مؤسسة الثقافة بحي كافوري والتي ضمت مسرحاً وصالات للفنون وهذا أيضاً كان حلماً من أحلامه.. بالطبع الكل يذكر الحدث الإبداعي الأخير له حينما غنى (حب الأديم) للراحل الشاعر “مبارك المغربي” في حفل قاعة الصداقة عند التوقيع على الوثيقة الدستورية عقب ثورة الشباب الأخيرة، وأدهش الحضور وكل من استمع إليه عبر الإذاعات المرئية والمسموعة التي نقلت الحفل ووثق بذلك لآخر حفل أبان فيه سحر موهبته الأخاذة الرائعة.
رحل “ابن البادية” وترك للأجيال حديقة ضمت عشرات العشرات من روائع الشدو الجميل.. ولا ننسى روائع الراحل الشاعر “محمد يوسف موسى” (أعيش في ضلمة وأنت صباحي، ويا صوتها لما سرى) ورائعة الصديق د.”عز الدين هلالي” (مهما جنيت علي يا زمان ودارت قسوة الأيام) وروائع الشاعر أستاذنا “صادق الياس” أمد الله في أيامه.. (ويا شوقي لي نخل الفريق) رائعة أستاذنا “هاشم صديق” متعه الله بالصحة والسعادة.. ورائعة صديق الشاعر المجيد “مختار دفع الله” ساقية جحا والأسماء تترى وتتعدد.
انطوت صفحة من صفحات فنان عظيم التف حوله إعجاباً ملايين الناس من أهل بلادي والعزاء لهم جميعاً وقطعاً رفعوا أكفهم للمولى مترحمين عليه وقرأوا ما تيسر من القرآن رحمة له.. نم قرير العين يا “صالح” لأنك لم تهدر عمرك هباءً فقد قدمت ما أسعد الملايين من أهل بلادي وروحك وعطاؤك باقٍ من بقية الحياة.. ولأهلك جميعاً ولمعجبيك العزاء والصبر والسلوان لأسرتك المكلومة.