رأي

استعمال صور المرضى للترويج التجاري يخالف أخلاقيات مهنة الطب والصحافة

تقدم الطب في الخمسين عاماً السابقة تقدماً مذهلاً، وما سجله من تقدم في نصف قرن أكثر مما تقدم في عشرين قرناً. وأصبح المستحيل ممكناً، فقد تغيرت وسائل العلاج التقليدية وظهرت وسائل فنية حديثة أكثر فاعلية في التشخيص والعلاج والوقاية من الأمراض. وبزيادة وعي المواطنين وارتفاع سقف الطموحات تعقَّدت العلاقة بين الطبيب والمريض، فالمرضى كثيرو الشكوى عن سوء معاملة الأطباء لهم ولا تخلو صحيفة من الحديث عن الأخطاء الطبية، وهذا ليس خاصاً بأطباء السودان ولكن الظاهرة عالمية. إذ ازدادت المشاكل القانونية المتعلقة بمهنة الطب زيادة كبيرة في الغرب لدرجة تكاد تكون منها مادة يومية في أروقة المحاكم حتى أن هنالك مجموعة من المحامين في أمريكا يطلق عليهم محامون خلف الإسعاف.. يشرفون على ما يجري في أمل أن يلتقطوا خطأ طبياً.
للمرضى حق على الدولة وعلى الأطباء رغم أن روح التسامح والامتثال للقضاء والقدر يزين هذه العلاقة في السودان، إلا أن الباب مفتوح لتطوير العلاقة بين المرضى والأطباء، ولا ننكر أننا كأطباء نحتاج إلى تدريب أكثر في تفهم حالة المرضى والارتقاء بمستوى العلاقة في مخاطبة المريض.
وكما تحكم القوانين الأخلاقية والمدنية هذه العلاقة بين الأطباء والمرضى فهي أيضاً تحكم علاقة الآخرين بمهنة الطب والأطباء والمرضى، ونتناول أولاً المسؤولية الأخلاقية للطبيب. نحن تعلمنا على أساتذة تمثلوا الأخلاق العالية في أنفسهم قبل أن يعلموها للطلاب ونثروها درراً أصبحت قوانين في دليل المجلس الطبي كبروفيسور “داؤود مصطفى” وبروفيسور “عبد العال عبد الله” – ذلك حتى قبل أن يتحدث عنها الغرب بهذه الصورة العلنية.
فعلى الطبيب أن يراعي جانب التعامل مع المرضى باللطف وحسن الخلق والبسمة ويبشرهم بالشفاء وتجنب الغلظة في القول والعبوس والتكشير في وجه المريض. فالمريض الذي يمثل أمام الطبيب ربما كان الأربعين كرقم ممن قابلوا الطبيب ذلك اليوم ولكنه الأول والأهم من منطلق نفسه. والمشكلة أن الأطباء يعملون الساعات الطوال ولفترات متصلة مما يسبب لهم توتراً وإرهاقاً ينعكس على معاملة المرضى وعدم الصبر عليهم. وعدم التركيز الناتج عن الضغط العصبي يؤدي إلى حدوث أخطاء طبية يمكن تفاديها.
وللطبيب آداب كثيرة ينبغي أن يتصف بها ومنها الصدق. الصدق في كل الأمور وقد يكذب الطبيب لتحقيق مصالح خاصة به وهذا أشنع الأفعال كإجراء فحوصات طبية خاصة (ولا داعي في الأصل لإجرائها) ونلاحظ في بلدان كثيرة أن على الطبيب أن يحقق دخلاً مادياً للمستشفى وأن يسجل عدداً من الفحوصات وهذا مشين ومخالف لثقة المريض في الأطباء، وقد يقدم الطبيب على الكذب لمصلحة تعود على المواطن ككتابة شهادة بالتغيب عن العمل بدعوى المرض “شهادة طبية” وللأسف فإن استخراج شهادات مرضية كمخرج للتغيب عن العمل أصبح أمراً مقبولاً لدى المواطنين وكثير من الأطباء. ويحتال البعض حتى على القضاء بحجة المرض. والكذب كذب ولا مبرر له بقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم : “عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً”
من المسائل المعقدة كيف يخاطب الطبيب المريض معلناً عن مرض عضال أو آخر ميئوس من شفائه كالسرطان مثلاً. فالغربيون (الخواجات) يتعاملون بخشونة في الإفصاح عن المرض. ومعظمهم ينقل التشخيص إلى المرضى وكأنه آلة مبرمجة بلسان لا يبالي وعواطفه كالثلج، فالإنسان يضعف عند المرض ويكون أضعف ما يكون عندما يجلس إلى الطبيب ليحدثه عن أسباب مرضه، فعلى الطبيب التلطف في إخبار المريض بنوع مرضه بأن يختار التعبير المناسب الذي يؤدي الغرض ولا يزعج المريض. ولما كان الطبيب أداة للشفاء ولا يملك أن يمنح الشفاء ” وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ” فعليه أن يطمئن المريض ويفتح له طاقات الأمل ويرجيه بالشفاء. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا دخلتم على المريض فنفسوا له في الأجل فإنه لا يرد شيئاً وهو يطيب نفس المريض” وعليه أن يداري ويواري وأن يتدرج في المعلومة، وفي هذا تهيئة للمريض لمواجهة الأمر. والطبيب مطالب بالحكمة وتقدير كيف يتفاعل المريض مع الخبر. وذلك من خلال معرفته به إذ يمكن أن تنهار قوى المريض. ويختلف تفاعل المرضى فمنهم من يتقبل ما قدره الله وقضاه، وآخرون ينكرون حدوث الأمر “Denial phase وبعضهم من يضرب الطبيب ويتهجم عليه. والاستعانة بأهل المرضى من العقلاء ووجودهم حول المريض يعين الأطباء على نقل الأخبار غير السارة عن حالة المريض.
إذن المريض: تنص القوانين الطبية والأخلاقية لحقوق الإنسان على إذن المريض أو ولي أمر المريض – إذاً بعد التبصر Informed consent قبل الشروع في أي عمل طبي أو جراحي أو بحثي – وتذهب هيئة الصحة العالمية للقول بأن الإذن ضروري حتى لو كانت أسئلة بلا أو نعم – والمقصود بالإذن المتبصر Informed consent أن يكون المريض على معرفة تامة بما يراد القيام به من إجراء طبي بعد تقديم كل المعلومات الوافية واحتمالات النجاح والفشل والمضاعفات والمخاطر.
ومما ورد فيه مؤلفات عديدة “إفشاء سر المريض” أكدت القوانين المدنية والشرعية على حفظ سر المريض والتستر عليه إلا إذا كان في ذلك مصلحة للمجتمع إذا علم الطبيب أن سائق سيارة ركاب أو شاحنة مصاب بمرض يفقده الوعي كمرض الصرع مما يعرض العامة للخطر فينبغي على الطبيب الإبلاغ عنه.
كما أباحت القوانين السارية للطبيب تصوير بعد أجزاء جسم المريض لغرض طبي أو تعليمي بعد استئذان منه شريطة ألا يكون في هذا التصوير ما يدل على شخصية المريض أو كشف هويته. أما إذا اقتضت الفائدة الطبية تصوير الوجه لأغراض تعليمية ومصلحة راجحة للمجتمع فيجوز ذلك بعد أخذ موافقة المريض كتابة أو شفاهة مع شهود من ذويه ولابد من إظهار المريض في أحسن حالاته وألا تستعمل هذه الصورة للترويج التجاري، وفي حالات يظهر فيها المريض غير مكسو أو في حالة هزال أو غيبوبة فالإذن أصيل بالمريض ولا يفي عنه أهله.
وتناول أخبار الطب والمستشفيات بصورة ملتهبة وبأدلة ضعيفة يفقد المواطن الثقة في الأطباء والمؤسسات ولعل القراء قد تابعوا مسلسلات كثيرة جاءت بها الصحف وشغلت الرأي العام شهوراً لتتمخض بأن ما أثير لا أساس له من الصحة (حوادث بحري ومسلسل نقص الأوكسجين) فالطب والتطبيب أمانة تحكمها قوانين مدنية وشرعية مكتوبة وغير مكتوبة وأخلاقيات متعارف عليها ،وعلى الصحافة مسؤولية واحتكام إلى ضمير وشرف المهنة وبينهما تقاطعات ومتى اختل ميزان الاحترام ضاعت حقوق المرضى.

وزير الصحة بولاية الخرطوم
استشاري الطب الباطني

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية