جفّت الدموع
{ أبغض الكتابة أن يجعل الكاتب نفسه محوراً لكتاباته اليومية بيد أن الضرورة أحياناً تُبيح المكروه مثلما أباحت في الشرع أكل اللحم الحرام.. قصدت في مصر طبيب العيون بمركز الصياد بالمهندسين لإجراء عملية بالشبكية إلا أنّ الطبيب اكتشف نضوب الدموع في العيون.. سألني الدكتور الصياد أين ذهبت دموعك حتى أصاب عينيك الجفاف؟ فقلت له ذهبت مع الريح وجفت الدموع مع إحسان عبد القدوس.. الطبيب المصري بعد الكشف الدقيق والصور المقطعية والليزر سألني عن مهنتي فقلت له صحافي.. ضحك وقال بلطف المصريين: أنا اكتشفت مهنتك بمجرد خضوعك للكشف لأن مرض جفاف الدموع يصيب الصحافيين و(الحدادين).
ووجدت نفسي ضمن فريق من الزملاء الأعزاء جفت دموعهم قبل دموعي، منهم الصديق وجدي الكردي والنور أحمد النور والأستاذ محمد عبد القادر وآخرين نمسك عن ذكر أسمائهم لأنّ غالبهم من (العزابة) والمنتظرين وحتى لا تنفر منهم الخطيبات كفرار العنزة الصحيحة من القطيع الأجرب.
{ آلاف السودانيين يتخذون من القاهرة مشفى لهم وتحصد الحكومة المصرية من عائدات الطب مليارات الدولارات سنوياً.. وقد تأثر السوق المصري بسنوات القطيعة في العلاقات بين الخرطوم والقاهرة، إذ اتّخذ السودانيون الأردن بديلاً لمصر فاكتشفوا هناك ما لم يجدونه في مشافي مصر، حتى عادت العلاقات لقديمها وعادت رحلات البحث عن الشفاء في قاهرة المعز التي لا يشعر فيها السوداني بالغربة أو الوحشة، ورغم تبديل الأنظمة وتغيير الحكام ظلت مصر حبيبة لنفوس السودانيين.. ومع جفاف الدموع زودني الطبيب المعالج بقطرات صناعية من الدموع لم اكتشف بعد هل حنينة مثل دموع حسن الدابي أم عصية مثل دموع الحلاج وهتلر وجعفر نميري، الذي لم يذرف دمعاً على قبر حتى رحل عنّا قبل سنوات.. وإذا كان عدد من الصحافيين فقدوا دموعهم وأصاب عيونهم الجفاف والتصحر فلماذا جفت هذه الدموع؟ وهل بكى هؤلاء على وطنهم الذي انقسم لوطنين؟ خاصة وأن جميع من جفت دموعهم من (المنبطحين) على قول الطيب مصطفى! أم جفت الدموع في المحبة والصداقة وفقدان الأم والأب والأخت والابن والخال والجد والعم؟
وحينما يتلقى السودانيون العلاج في مصر لأسباب عاطفية وتاريخية وللوشائج الاجتماعية، فإن الخرطوم هي الوجهة الأولى لمتلقي العلاج القادم من دولة جنوب السودان، لولا السياسة التي أفسدت على السودانيين في الوطنين الشمالي والجنوبي العيش في أمن وأمان وتبادل منافع، وقد تُهدر الخصومات السياسية فرصاً أخرى للسودان الشمالي كمورد كبير لاحتياجات السودان الجنوبي من الغذاء والدواء والمشروبات غير الروحية.. لكن السياسة والخصومات التي لم تراع مصالح الشعبين و(نافخي) الكير من دعاة الحروب والمستثمرين في الموت والمتاجرين بجثث القتلى نجحوا في دق طبول الحرب بين الدولتين، فأهدروا فرص استثمار الاقتصاد في خدمة السياسة، كما هو حال الهند وباكستان الآن والصين والولايات المتحدة الأمريكية، ولم يتبق إلا أنبوب النفط الذي أخذ الجنوبيون على عاتقهم البحث عن بدائل أخرى له لتصدير بترولهم، ولكن تبقى الدموع بين الأشقاء في الوطن الثلاثي العواصم القاهرة الخرطوم جوبا محفزًا لوحدة ثلاثية إذا استعصت الوحدة الثنائية.