تقارير

اتهامات متبادلة بين الإعلام السوداني والمصري في صالون "خليفة"

عدت إلى مصر بعد سنوات تبدلت فيها أشياء، وغربت خلالها أنظمة عربية، وبقيت مصر التي كان آخر عهدي بها قبل خمس سنوات، وفي مخيلتي مشاهد راسخة لأمن الدولة وعسس السلطة يمنعني من دخول بلد يعدّها السودانيون وطنهم.. كنت عائداً من بلاد الإفرنج النمسا وبلاروسيا، ولكن مات شوقي لأرض الكنانة ومسجد السيدة زينب والمرسي أبو العباس في أطراف مطار القاهرة حينما احتجزت لثلاث ساعات وفشلت مساعي السفارة السودانية في إطلاق سراحي وبقيت وحدي في صالحة الترانزيت (24) ساعة حتى عدت إلى بلادي السودان.
وحينما وطئت قدماي أرض مطار القاهرة القديم صباح الأربعاء الماضي.. طافت صور الأمس وداعبت ذؤابتيّ بضعة أبيات من القريض لـ”سيد قطب” الشاعر والأديب.
أهي النشوة أم وقدة جمر.. إنني أحسستها تذكو بصدري وبروحي لهفة تبعتها.. هذه القبلة من أعذب ثغر
والقاهرة كانت بعيدة حينما جثم على صدرها طويلاً حكم العسكر في ثياب المدنيين من فرعون الكبير حتى فرعون الأخير (مبارك)، وبدت الآن قريبة بصعود تيارات الديمقراطية وبلوغ “مرسي” السلطة رغم المتاعب والمصاعب والشقاء والعنت في مواجهة واقع مثقل بالقيود والمتاريس والمشاكل والصعاب.. ولكن مصر الجديدة (تتكلم) ولا تهمس همساً، يجهر شعبها بما يعتقد أنه الصواب ولا يقمع صوته زائر الليل الغريب.. انطوت صفحة “صلاح نصر” و”حبيب العدلي” وأشرقت شمس حرية وديمقراطية تفوح رائحتها من حديث الروائي والأديب “يوسف العقيد” لصحيفة (الوفد) التي أسسها الباشا “سراج الدين” وهو يقول في وجه الرئيس “محمد مرسي” (مجلس الشورى جريمة في حق الدكتور مرسي، والذي قال حينما دخل القصر إنه لن يسمح بتعيين إسلاميين في مجلس الشورى لأنه يكفي المنتخبين منه ما حصلوا عليه).. ومصر التي كانت تهمس همساً وكُتّابها (يغرقون) في الرمزية خشية بطش السلطة، الآن يجهرون بما في الصدور وصحيفة (الوفد) تقول (مصر الآن سجن للحرية) وصحيفة (الحرية والعدالة) تكتب (لا تشتروا الدولار يا مصريين) وصحيفة (روز اليوسف) تقول (فنانين هزموا طيور الظلام).. تلك هي مصر.. عناوين كبيرة وواقع جديد يمشي على أقدام حافية في شتاء بارد.. وصيف أكثر حرارة ينتظر المصريين في مقبل الأيام..
{ الصحافة حضرت ولم تجد السفارة
الأستاذ “جمال عنقرة” الصحافي الكبير من الذين لهم مع مصر عشق مقيم، وود متصل، وقدرة على قراءة الشأن المصري.. نظم “عنقرة” الأسبوع الثقافي لسفارة السودان بالقاهرة بتقديم الدعوات وتنسيق أنشطة الأسبوع.. فاختار من رؤساء التحرير “النور أحمد النور”، “عبد الرحمن الأمين”، “عادل سيد أحمد خليفة” و”محمد عبد القادر”.. ومن الكُتّاب “حسن محمد صالح”، “منى أبو العزائم”، “حياة حميدة”، “خالد ساتي” و”عصام عباس”.. وبلغنا القاهرة صباح الأربعاء ولم نبلغ سفير السودان بالقاهرة إلا مساء الجمعة قبل يوم من مغادرة الوفد عائداً، دون تغطية ثلاثة أحداث مهمة.. هي افتتاح مقر السفارة الجديد ومبنى الجالية ولقاءات وزير الخارجية “علي كرتي” بنظيره المصري، ثم رسالة المشير “البشير” إلى الرئيس “محمد مرسي” قبل يوم من بدء أعمال قمة (البشير- سلفا كير)، وما تسرب من اللقاء في الإعلام المصري عن مبادرة جديدة لتحريك جمود علاقات الخرطوم وجوبا، ولقاءات البروفيسور “إبراهيم غندور” رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالمؤتمر الوطني مع قيادات حزب الحرية والعدالة الحاكم في مصر.. تلك الأحداث فشل الوفد الصحافي والإعلامي في الوصول إليها لفشل السفارة السودانية في الوفاء بإطلاع الصحافيين على برنامج الاحتفالات عوضاً عن تجاهلها لضيوف قدمت إليهم الدعوة لزيارة مصر وأغلقت هواتفها وأبوابها في وجوههم وتركتهم هائمين على وجوههم في شوارع القاهرة لقراءة حال الشارع المصري، وكيف تفكر نخب مصر وقادتها في المستقبل.. فاخترنا زيارة ميدان التحرير حيث رمزية الثورة التي اقتلعت أقوى نظام بوليسي في المنطقة، وميدان التحرير الآن مغلق بعد أن صعد الثوار إلى السلطة فنزلت إليه فلول النظام (المباركي) الذي سقط ولكنه لا يزال يحكم مصر من تحت “محمد مرسي” والإخوان، ونجح أعوان “مبارك” من الرأسمالية و(العسكر) والعلمانيين في تأسيس حزب يقوده “أحمد شفيق” باسم الحركة الوطنية.
في سفارة السودان بالقاهرة يقف المهندس “عبد الرحمن إبراهيم” المدير العام السابق للمركز السوداني للخدمات الصحافية وحده مع الصحافيين، ويسعى لفتح أبواب مغلقة مع الإعلام المصري، ولكنه تحت رحمة السفارة.. ثم جاء اختيار محلق جديد “محمد جبارة” قادماً من الإعلام الخارجي ليصبح بالقاهرة محلقان إعلاميان “عبد الرحمن إبراهيم” و”محمد جبارة”، وفشل السفير “كمال حسن علي” في تفسير أسباب التضارب.. فهل يصبح للسفارة السودانية في القاهرة ملحق إعلامي من الظاهر وملحق من (الباطن)؟ أم يتم خفض مرتبة أحدهما لصالح الآخر؟ أم تصبح الملحقية الإعلامية برأسين أحدهما إداري وآخر فني؟ والسفارة تشكو قلة الزاد والرجال.. والجالية السودانية في مصر يقارب عددها الـ(700) ألف نسمة.. وتمثل القاهرة الآن أهم مراكز المعارضة الخارجية، خاصة فصائل دارفور المسلحة التي تمثل لها القاهرة مرتعاً خصباً وحقل تجنيد، وتحظى حتى الحركة الشعبية (قطاع الشمال) بدعم من الحكومة المصرية بعيداً عن عيون “مرسي” وحزب الحرية والعدالة الذي يحكم ولا يسيطر على السلطة على إطلاقها.
وفي ميدان التحرير هاجم المعتصمون حكومة الرئيس “البشير” وتصدى للمهاجمين “عبد الرحمن الأمين” رئيس تحرير (القرار) الذي عدّ الإساءة لرئيس بلاده أمراً غير مقبول من المصريين.
{ مواجهات في الصالون
في يوم الجمعة، زار السفير “كمال حسن علي” الوفد الصحافي بمقر إقامته في شقة بالمهندسين برفقة منسق الرحلة “جمال عنقرة” ود. “عبد الملك النعيم” مدير دائرة الصحافة في المؤتمر الوطني، و”عادل سيد أحمد” لتوجيه دعوة داخل دعوة لحضور صالون الراحل “سيد أحمد خليفة” في أول خروج للصالون الأسبوعي من السودان، ووجدت دعوة السفير ترحاباً من الوفد ليقام الصالون في منزل السفير بالمعادي، وسط مشاركة فاعلة من رؤساء تحرير الصحف السودانية والكُتّاب والقنوات السودانية، وتمثيل ضعيف للنخب والمثقفين المصريين، حيث غابت رموز مصر الثقافية والفكرية والاجتماعية من الصالون الذي تم تخصيصه للعلاقات بين البلدين وآفاق تطورها وأثر وصول الإسلاميين إلى السلطة في مصر على علاقات البلدين، ولكن الصالون فجأة انحرف نحو تناول العلاقات السودانية المصرية بصراحة شديدة، بلغت حد خروج الدخان المتراكم في الصدور منذ سنوات بعيدة.. ولم تشفع كلمات الدبلوماسية الباردة للسفير “كمال حسن علي” للمتحدثين فقد قال السفير “كمال” إن العلاقات السودانية المصرية بلغت الآن مرحلة الحديث عن الوحدة، لذلك تنظر السفارة للعلاقة نظرة المستقبل القادم، ولا تقف عند حوادث عابرة أو كلمات تخرج هنا أو هناك من أعداء للبلد الواحد، وإن بيت السودان الذي تم افتتاحه بمثابة مركز ثقافي واجتماعي لأنشطة الجالية السودانية وتفاعلاها مع المجتمع المصري، وقال إن السفارة فتحت حواراً بين النخب في البلدين، وإقامة الصالون في القاهرة تمثل دليلاً على هذا التوجه، وإن شهر مارس القادم سيشهد افتتاح طريقين، شرقي وغربي، لوصل السودان بمصر، وإن عدد اللجان المشتركة بين البلدين بلغ (24) لجنة، جميعها عقدت اجتماعاتها باستثناء لجنة واحدة.. وقال القيادي في حزب الوعي اللواء “محمد بدر”، من القوميين العرب حزب البعث، إن الأنظمة في البلدين هي من يعيق الوحدة بين الشقيقين، وإن مصر قبل الثورة كان لها باب وحيد يبدأ بالرئاسة وينتهي عندها.. والآن فُتحت الساحة المصرية.. وهو ما ذهب إليه أيضاً د. “إبراهيم نصر الدين” أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، الذي قال إن النخب في البلدين مطالبة بالإجابة عن سؤال هل نريد وحدة أم دولتين مستقلتين؟ وهل التوجه الإسلامي في القاهرة والخرطوم يمثل عاملاً إيجابياً في العلاقة بين الدولتين؟! ولم يشر الدكتور المصري بطبيعة الحال لخلاف الإسلاميين في السودان مع الإسلاميين في مصر منذ أن خرج “الترابي” بالتنظيم السوداني من عباءة المرشد المصري منذ الستينيات، ولم يرق ذاك الخروج لمصر حتى اليوم.. وهاجم د. “إبراهيم نصر الدين” الإنتاج الفكري والثقافي السوداني ووصفه بالضعف والانكفاء على الذات، الشيء الذي جعله بضاعة لا سوق لها خارج السودان، ودعا إلى إنشاء جامعات مشتركة وقناة تلفزيونية مشتركة.. وحفّز حديث أستاذ العلوم السياسية المصري الأستاذ “النور أحمد النور” لمهاجمة الإعلام والدراما المصرية، وقال إنها تشوه صورة السودانيين حينما لا يتجاوز دورهم في الحياة (البوابين) وحراس البيوت.. وقال إن ما عطّل افتتاح الطرق بين مصر والسودان أسباب أمنية وليست إدارية.. وقال د. “نبيل عبد الفتاح” من مركز الأهرام للدراسات السياسية إن التركيز على طبيعة النظامين السوداني والمصري لا يخدم قضية الشعبين.. وتناول “أحمد شهاب” رئيس تحرير مجلة (6 أكتوبر) الدور السالب للإعلام، وذكر ما حدث بعد فاصلة الجزائر ومصر، وكيف تناول الأعلام المباراة.. وذكر أن السودانيين لا يحبذون تزويج بناتهم لمصريين.
وهاجم “عبد الرحمن الأمين” الإعلام المصري وقال إنه لا يهتم كثيراً بما يجري في السودان وينظر لنا بسلبية شديدة.. وغاب عن صالون “سيد أحمد خليفة” الإعلام المصري الذي تعددت قنواته وبلغت أكثر من مائة قناة تلفزيونية، ولكن لم تغط الصالون حتى قناة النيل. كما غابت رموز مصر الإعلامية المهتمة بالسودان مثل “أسماء الحسيني” و”هاني رسلان”.. ولم يفلح مدير مكتب المؤتمر الوطني في القاهرة “وليد” حتى في دعوة مسؤولين في حزب الحرية والعدالة الحاكم في مصر، الشيء الذي يطرح سؤالاً مهماً عن دور مكتب المؤتمر الوطني في القاهرة، وهل مهمة المكتب ومديره استقبال كبار قيادات الدولة والحزب كرجال مراسم؟ أم التفاعل مع القوى السياسية في مصر والنشاط وسط الجالية السودانية التي تركها المؤتمر الوطني وسفارة السودان هناك نهباً لفصائل دارفور ومتمردي قطاع الشمال الذين يحصلون على دعم مصري بعيداً عن عيون حكومة “مرسي”؟!
{ تظاهرات وشغب
الاحتفالية الفنية التي أقامتها السفارة السودانية ضمن أسبوع الاستقلال، أخطأت تقديرات الحضور، فاختارت السفارة مسرح البالونة الصغير بحي المهندسين، وتغنى في الحفل المطربان “عبد القادر سالم” و”سمية حسن”.. والسودانيون في مصر يقتلهم الشوق للغناء السوداني وحبل الود الذي يجمعهم بوطنهم، ما دفعهم للاحتشاد بكثافة فوق طاقة المسرح الصغير، وحالت الشرطة والأمن المصري دون دخول أعداد كبيرة من الجماهير ليحدث شغب وفوضى شديدة.. وحاولت الجماهير تسلق أسوار مبنى  المسرح عنوة لتمنعهم قوات مكافحة الشغب المصرية، ويهتف بعض عناصر حركة العدل والمساواة والدارفوريين وأبناء جبال النوبة في وجه السفارة السودانية، مما اضطر الأمن المصري إلى تأمين خروج السفير عبر أحد الأبواب الخلفية خوفاً عليه من عناصر شهرت الأسلحة البيضاء في وجه أجهزة الأمن المصرية.. وتنشط المعارضة في مصر بكثافة في ظل غياب خطاب حكومي مقنع لسفارة السودان هناك، وغياب مكتب المؤتمر الوطني.
 ونواصل

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية