يوسف المنان
يتجدد الجدل مابين مخاطبة طموحات الشباب وعودة الحرس القديم؟؟
بعد انقشاع سحابة الاضطرابات التي شهدتها البلاد خلال الفترة الماضية، وعودة الاستقرار للعاصمة ومدن الولايات الكبيرة، وهي أزمة لم تشهدها البلاد من قبل منذ الثلاثين من يونيو 1989باتت مطالب التغيير تترى وسقف التوقعات بأن الرئيس بعد جولته في الولايات ولقاءاته بمعظم مكونات الدولة ووقوفه بنفسه على مواضع القوة وثغرات الضعف، فإن مسألة التغيير باتت من مطلوبات المرحلة القادمة ، فهل يشمل التعديل الرؤوس الكبيرة أم يقتصر على الصغار الذين لا خيل عندهم ولا سيوف ؟
سياسياً تبدت علامات الضعف في الحزب الذي باغتته الأزمة ووضعته في صف المراقب لفترة طويلة حتى نهض مؤخراً عندما وجد الحزب رئيسه يقاتل بنفسه في كل الجبهات ويطوف على المدن والقرى وينافح عن مشروعه بجسارة وخطاب غير مشحون بنبرات التعالي والمن وازدراء الآخر ، والمؤتمر الوطني حزب كبير وله قاعدة عريضة مرتبطة به فكرياً واجتماعياً ومصلحياً ولا ينكر إلا غير المنصف جهود الحزب وعمله الدءوب لكن طبيعة نشاط الحزب في الفترة الماضية كان نشاطاً وظيفياً وتنظيمياً وليس سياسياً في بلد تأخذ السياسة بخناق المواطن صباحاً ومساءً، ولذلك حينما اندلعت الأزمة وخرجت التظاهرات انتظر الحزب حتى خروج الرئيس “البشير” ومخاطبته للقاء الجزيرة ، ونقطة الضعف الكبيرة هي تنميط منصب رئيس الوزراء وجعله منصباً تنفيذياً مجرداً عن أبعاد المنصب السياسية مع أن المنصب جاء كثمرة لمشروع سياسي (الحوار الوطني) الذي لا يعبر عنه الآن إلا مكونات التي يزيد عددها عن مائة حزب فهل تفرض الأزمة على الحكومة إعادة توصيف مهام رئيس الوزراء ؟حتى يصبح رئيس مجلس الوزراء معبراً سياسياً عن الحكومة ؟؟وتخفيف الأعباء على “معتز موسى” بتعيين وزير مالية بدلاً من جمع الرجلين لمنصبين، وقد فكرت الحكومة من قبل في تعيين وزير من خارج منظومتها الفكرية والسياسية ولم توفق فهل تلجأ التعديلات القادمة لرصيف الانتظار وتعود لما يعرف بقدامى المحاربين الاقتصاديين أصحاب التجارب لإنقاذ الوضع وتملك الحكومة في رصيدها د. “صابر محمد الحسن”، و”علي محمود حسب الرسول”، و”بدرالدين محمود”، و”مصطفي حولي” وزير الدولة الحالي المعتقل القدرات، وإذا الأمر كذلك فإن الحزب بقيادته الحالية سيبقى حتى إنجاز الانتخابات القادمة، وغض النظر عن المعارك الداخلية التي خاضها “فيصل حسن إبراهيم” مع بعض قيادات حزبه ، إلا أن الرجل ومساعده “حامد ممتاز” كان لهما الفضل في إنجاز مهمة ترشيح “البشير” في الشورى الأخيرة دون أية اعتراضات وببراعة تنظيمية عبر “فيصل” و”ممتاز” مطبات الترشيح دون خسائر لكنهما في التعبير السياسي كانت نقطة ضعف كبيرة خصمت منهما.
وإذا كانت عمليات البناء قد مضت رغم التحديات، فإن تغيير قيادة الحزب في هذه المرحلة قرار صعب ومحفوف بالمخاطر حتى لو كان المرشح مثل “أحمد هارون” و”علي أحمد كرتي”.
كما تقول بذلك المجالس السياسية في السودان، لكن مشكلة المؤتمر الوطني مشكلة مهام واختصاصات وليست مشكلة من ينوب عن الرئيس في قيادة الحزب الذي يعتقد البعض بأن الحزب ضعيف وثمة حاجة إلى تقويته حتى يصبح حزباً باسطاً ذراعيه في الساحة، ولكن قوة الحزب تتطلب أن يكون الحزب قوياً على الآخرين وقوياً على قيادته، له شخصيته الاعتبارية وقدرته على المحاسبة والجرح والتعديل عندما يطرح أمر التعيينات، ولكن المؤتمر الوطني اختار له قادته أن يصبح طيعاً بين يدي قيادته فكيف يصبح قوياً ؟؟
تغييرات في الولايات
#أداء الولاة خلال الفترة الماضية اختلف عن ما قبل الأحداث، وفي الوقت الذي كانت تجربة “أيلا” في الجزيرة و”أحمد هارون” في شمال كردفان تمثل نموذجاً غير قابل للاستنساخ، ولكن الأحداث التي اندلعت في نهر النيل والجزيرة والشمالية وولاية الخرطوم ، بينما كانت المفاجأة الكبيرة رفض ولايات دارفور وكردفان الجنوبية والغربية التظاهر رغم أنها أكثر المناطق ضعفاً في المشاركة التنفيذية في الحكومة الاتحادية فهل ننتظر تعديلات في مناصب الولاة في الأيام القادمة ؟؟وهل الولاة الحاليون يمكنهم المنافسة في الانتخابات القادمة وتحقيق أهداف حزبهم المتمثلة في الفوز بالانتخابات العامة ؟
فهل يضع الوطني بعض منسوبيه في امتحان مثل الذي سيقدم عليه “آدم جماع” في كسلا بعد ترشيحه من قبل أحزاب الحكومة حتى قبل حلول أوان الانتخابات وإعلان الرئيس موافقته على الترشيح ليضمن “آدم جماع” من الآن ترشيحه في بلد وولاية ليست ولايته وعرفت تاريخياً بموالاة الختمية والحزب الاتحادي الديمقراطي.
وفي دارفور والمنطقتين نجحت تجارب ولاة بدأت ضعيفة وانتقد كثير من الصحافيين اختيارات نائب رئيس الحزب لبعض الوجوه وتجديد الثقة في أخرى، لكن الأحداث الأخيرة أثبتت حصافة الاختيار في بعض الولايات ، وتمثل ولاية شمال دارفور نموذجاً لحسن الاختيار ، ووضعت المعارضة مدينة مثل الفاشر، عرفت بأنها واحدة من المدن عصية المراس، وبها نشاط كبير جداً للمعارضة مثل عطبرة ومدني، ولكن حسن التدابير التي اتخذتها حكومة “الشريف عباد” أحبطت مخطط المعارضة، وكذلك زالنجي والجنينة التي نجح “أبو سروال” في إحكام قبضته عليها ولم تخرج أي مدينة في دارفور متظاهرة إلا مدينة كاس معقل الاتحاديين سابقاً وبرام في أقصى جنوب دارفور ، وهي من مناطق نفوذ حزب الأمة تاريخياً.
فهل يبقى الولاة بنجاحاتهم الأمنية فقط أم هناك معايير أخرى مثل انسجام مكونات الحكومة ؟ وفي جنوب كردفان فاجأ الجنرال “أحمد إبراهيم مفضل” الجميع حينما حشد أكبر كتلة بشرية استقبلت الرئيس في جولته الأخيرة وأحسن التنظيم والضيافة والخطاب السياسي، و”مفضل” عرف بالنزاهة والتشدد في المال العام، فهل سيبقى حتى الانتخابات أم تصدق تنبؤات مجالس السياسة ويتم إعادة تعيين “آدم الفكي” مرة أخرى في الجبال بعد نجاحه في نيالا ؟ أم يجدد المؤتمر الوطني ثيابه؟.
كل هذا وذاك رهين بحسم الوطني لمسألة سياسية هل يترك للناس حرية اختيار حكامهم أم يفرض عليهم حكاماً يختارهم الحزب، وهل تدخل أحزاب ذات ثقل جماهيري حلبة التنافس الانتخابي؟ أم ينافس المؤتمر الوطني نفسه ويمنح حلفاءه وأصدقاءه بعض المواقع ويترك لنفسه التمتع بالمطايب من اللحم.
وقد شعر المؤتمر الوطني بخطورة الانسياق وراء سياسة السيطرة المركزية والقبضة الحديدية والوصايا على الولايات بتقليص المحليات وإلغاء نصفها دون النظر لتبعات ذلك ، ودون مشورة حقيقية لأهل الحق الأصيل، كتبت التقارير وفق ما يطلبه المركز (سيد اللبن)، وكان منتظراً أن تلغى المحليات ومجالسها التشريعية ويتم التخلص من أكبر عدد من القيادات الشعبية دون مبررات موضوعية سوى الرغبة في السيطرة على الولايات، وتعيين المعتمدين من قبل متنفذين في المركز، وسلب المحليات والولايات حقوقاً أقرها الدستور ، لكن المؤتمر الوطني شعر أخيراً بخطورة الإقدام على مثل هذه الخطوة ولم يعلن رسمياً تأجيل تقليص المحليات، وترك الباب موارباً حتى اللحظة مما جعل الولاة يفشلون في تغيير بعض الوجوه في المحليات .
أبيي والعودة للخيارات السياسية
# بعد أن أعادت النخبة التي تمسك بملف العلاقة مع دولة جنوب السودان إلى ما هو طبيعي بتجاوز مرحلة القطيعة وتبادل الأذى بين الدولتين وتمثلت النخبة في وزيري الدفاع والخارجية ومدير جهاز الأمن ووزير النفط بعد ذلك التطور الكبير كان متوقعاً حدوث اختراق حقيقي في ملفي المنطقتين وملف أبيي المؤجلة منذ أن كان السودان موحداً ولكن في الأيام الأخيرة اتخذت الحكومة قراراً موفقاً جداً باختيار رئيس جديد للآلية المشتركة بين الدولتين بديلاً لرئيس الآلية السابق، وتم الاستعانة بسياسي له تجربة كبيرة وعلاقات وثيقة بالجنوبيين ونفوذ وسط المسيرية ألا وهو الأستاذ “أحمد صالح صلوحة” الذي يمثل جيل الإسلاميين القدامى أي ما قبل الإنقاذ ولـ”صلوحة” رصيد تجربة ثرية في الحكم وفي المفاوضات مع الجنوبيين، إذا ترك المركز له التقرير في مصير منطقته بالتشاور مع أهله الذين دافعوا عن السودان كبلد وعن الإنقاذ كسلطة وحملوها على أكتافهم بعدد عشرين ألف شهيد قدمتهم منطقة المسيرية، ورغم ذلك ظلت قضية أبيي ( معلقة ) مرة بسبب توتر العلاقة مع الجنوب ومرة بسبب سوء التقدير لبعض الفرص التي تتاح وتهدر (ساكت ).
و”أحمد الصالح صلوحة” تولى ملف الآلية الخاصة بأبيي في ظروف صعبة جداً من ناحية الاقتصاد والسياسة ووضعية المنطقة المتنازع عليها وضمور الإمكانيات المالية تقف عقبة في تنفيذ أي مشروعات في المنطقة وأبيي ستظل معلقة إذا لم تنفذ الحكومة خطة تنموية في المنطقة، وتعيد النظر في أولوياتها بغرب كردفان، وسياسياً تشرك مكونات أبيي في الحكومة الاتحادية، ونعني بذلك المسيرية ودينكا نوك، وإذا كان “صلوحة” قد دافع بأهله عن الإنقاذ وحشدهم عسكرياً من أجلها ، فاليوم مطالب بقيادتهم سياسياً من أجل إقرار مبدأ العيش المشترك والتعاون والتكامل، وتأجيل الحديث في الوقت الحالي عن الحسم النهائي لقضية الحدود، لأنها من القضايا التي يصعب الوصول لحل نهائي حولها في المدى القريب، وأولوية “صلوحة” الآن في التفاهم مع دينكا نوك وحكومة الجنوب واللجوء إلى سياسة النفس الطويل بديلاً للعراك الذي لا يفضي لنتائج حالياً.
إن قضية أبيي استعصت على الحل بسبب غموض الرؤيا السياسية ومحاولة بعض المتطرفين في دولة الجنوب الاستثمار في دماء الأبرياء من أجل المواقع على فتات السلطة هناك ، وسوء التقدير ذهب بالقضية إلى لاهاي والإذعان لرؤى بعض الحالمين من الجنوبيين بالاستيلاء على أرض تتراوح مابين أرض للمسيرية وأرض لكل الشمال ، ولم يصغ قادة المنطقة من أهلها للحلول الوفاقية التي طرحت من مخلصين كثر، والآن تلوح فرصة تاريخية لحل سياسي ،إذا ضاعت على البلدين سيضيع كل شئ، فالجنوب إذا ما خرج من نفق الصراع الحالي، وهذا ما سعى إليه الرئيس “البشير”، وتحسنت أوضاعه الاقتصادية، وانفتحت دولته على العالم بعد عزلة طويلة لن يكون مستعداً لمناقشة قضايا الحدود الخلافية، والوقت المثالي للتفاهم حول أبيي هو هذه الأيام ، وأخذ الملفات جملة واحدة بدلاً من سياسة الأخذ بالقطاعي وهي منهج لا يخدم الإستراتيجية الكلية للبلدين في تجاوز المعضلات التي خلفها الانفصال.
إذاً “صلوحة” في الزمان القديم كان واحداً من اثنين تصارعا على النفوذ في كردفان الغربية، وانقسم الناس مابين موالين لـ”صلوحة”، وآخرين موالين لدكتور “عيسى بشرى” فإن تلك الثنائية انتهت الآن ولم يعد هناك شيء يعتركان من أجله ، وعبرت مياه كثيرة تحت جسور الأحداث، وانتهت الخصومة بين الاثنين إلى تعاون وتنسيق في قضايا محلية مثل نزاع أولاد عمران والذيود، الذي لعب فيه الرجلان دوراً مهماً في التهدئة والوصول لتجفيف الدماء ، وإذا كان “عيسى بشرى” شخصية محورية في كردفان لا يمكن تجاوزها إلا بسوء التقدير، فإن “صلوحة” يمثل مدرسة تجمع بين الحداثة والتقليدية، وحتى يحقق النجاح في الملف الذي تم وضعه بين يديه ثمة حاجة إلى إسناد مركزي حقيقي حتى لا يرمى بالرجل في غياهب جب عميق، ويطلب منه الخروج بمنطقة تم رميها هي الأخرى في ذلك الجب، وأضحت من المناطق والقضايا المنسية.
\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\
اسامة