أوشكت على انتهار تلك السائلة الصغيرة وهي (تتعابط) في محاولة لاستدرار مبلغ من حقيبتي والتي كانت وقتها أقرب إلى فؤاد أم موسى، اللهم إلا من وريقات ضعيفة لا تقوى على إرضاء ذاك الكم الهائل المرابط عند إشارات المرور وغيرها. ظل أولئك الصغار يلحون في التسول بطريقة مزعجة، فيما انصرف آخرون لمسح زجاج السيارة آخر ابتكارات سبل التسول، كدت انفجر في وجههم فرط الإزعاج ،لكني جاهدت وامتلكت نفسي، وأنا استدرك الظروف التي وضعتهم في هكذا مطبات. للحقيقة فإن الإلحاح المتلاحق لهؤلاء الصغار قد يتصادف مع حالة مزاجية سيئة لـ(العشمانين) فيهم ما يضاعف من رفع وتيرة ذلك. وبالرغم من مثل هذه الملاحقات تضايقني أحياناً لكن وفي الوقت نفسه يهزمني تراجع بعضهم وانكسارهم في حال اعتذرت بل يمعنون في هزيمتك وهم يلتمسون لك العذر (معليش يا خالة ما في مشكلة)، هنا تحديداً تشعر باستصغار واحتقار نفسك، فأتراجع وأنفحه ما تيسر.. كيف لا والوضع برمته يدعو للشفقة وفي الوقت الذي يجلس فيه أبناؤنا خلف السبورة على مقاعد الدراسة، ينعمون باللقمة الكريمة، يستظلون تحت حائط مبرد، وتعبث أيديهم بالالكترونيات ويتدفئون بجمع أسرى. في الوقت نفسه يهيم أولئك على وجوههم يلهثون خلف السيارات يستجدون أصحابها ويلفحهم هجير الشمس، وترتعد فرائصهم جراء البرد، تتضور بطونهم جوعاً. دفع بهم أهليهم بإرادة منهم أو بغيرها للشارع كيما ينفقوا على أنفسهم وذويهم دون مراعاة أو مبالاة بما سيؤول إليه حالهم أو ما يتعرضون له من مخاطر جمة لا تخفى على أحد.
الملاحظ أن ساحة التسول تعج بصغار السن واليافعين في تراجع تام للصبيان والكهول من الجنسين حتى السيدات منهم يستخدمون أطفالاً رضعاً وصغار سن إمعاناً في استدرار العطف، وقديماً قيل إنه يتم استئجارهم عديل كدا، ربما لأن نغمات الكبار المشروخة لم تعد تنطلي على أحد ولم تعد ذات نفع عليهم بعد أن حفظها الكثيرون لاسيما من يتخذون من أماكن معينة مرتعاً للتسول أيضا ربما لأن الصغار حظهم في التعاطف أكبر، ترك لهم الكبار دفة القيادة.
بخلاف الظروف المعيشية الضاغطة التي دفعت الكثيرين للشارع تسولاً بأي من الصور حتى وإن كان عن طريق بيع أشياء هامشية حفظاً لماء وجههم، إلا أن ثمة أمر آخر أدى لتنامي انتشار الصغار في الشوارع تسولاً وتشرداً وعمالةً هو التسرب من المدارس التي أصبحت في حد ذاتها ظاهرة قائمة بذاتها تستدعي الوقوف عندها لاسيما في الولايات.. فالنسب في زيادة مطردة تحتاج التدخل فعلياً وليس نظرياً حتى لا يتراجع مستقبل هذا الكم سلوكياً، ومن المؤكد أن الأسباب التي قادت لذلك كثيرة تتشاركها المؤسسات التعليمية الحكومية والأسر.
لا ننكر مساعي بعض الجهات المعنية وغيرها، فضلاً عن بعض المنظمات العاملة في المجال لكنها ضعيفة ولم ترق للحل الجذري كونها لم تلامس الواقع بصورة واضحة حتى الآن.
واقع الطفولة في السودان يحتاج لمزيد أو لتفرغ كامل لمعالجته وإلا فما الداعي لهيلمانة الوزارات لاسيما تلك التنموية والاجتماعية وعلى ذكرهما ترى أين الوزيرة الجديدة والتي لم نسمع لها حتى الآن قراراً أو صوتاً أو فعلاً ملموساً على غرار ما كانت تقوم به الوزيرة النشطة مشاعر الدولب؟