خربشات
(1)
الطرق الإسفلتية والبصات السفرية (أمات قرون) وهي تطوي الأرض وتجعل من البعيد قريباً.. والهواتف الذكية والواتساب.. ومحادثات الصورة وتقنيات العصر.. جففت منابع الحنين والأشواق للديار والناس الذين يحبهم القلب أين ذهبت تلك الزيارات العصرية حينما تخرج الحرائر إلى الجيران يمشين الهوينى؟ هل قضت تكنولوجيا العصر على الأشواق والحنين؟ وهل كان “محمد كرم الله” سيغني رائعة الطمبور (يا يمه) لو كان بيده هاتف جلكسي.. وبيد أمه هاتف هواووي وتبادل معها الصور.. لحظة ذهابها لـ(الغنيمات) وهل تحلب اللبن.. وتجلس في المغرب وتصنع شاي ما بعد صلاة المغرب؟ الإسفلت قرب المسافات واختفت اللواري التي عاد بها البعض لأمهاتهم وتركوا الشاعر يعاني الوحدة:
رصوا الهديمات عدلوا..
ركبوا اللواري وقبلوا..
ويتغنى سائقو اللواري في إثارة مشاعر الناس بتعديلات في مخارج صوت عادم السيارة (الكوز).. وإذا كان “محمد كرم الله” قد تحسر على فراق أمه وعودة الرفاق باللواري للشمالية وتركه وحيداً، فإن “عبد الرحمن عبد الله” أو بلوم الغرب قد تغنى لسائق اللوري “كباشي”.
كباشي سيد الذوق
وديني ود دردوق نحضر
خضار السوق..
ولأن “حمد الريح” من قلب توتي قد تغنى بأولاد الجزيرة التي أصبحت اليوم جزءاً من حي المقرن بفضل ونعمة الجسر.. عجبوني الليلة جو
ترسوا البحر صددو
عجبوني أولاد البراري ما شالونا باللواري.
ولكن “عبد القادر سالم” كان فخوراً باللوري وممتناً له حينما تغنى برائعة “محمد حامد آدم”
اللوري حلى بي دلاني في الودي..
إلا “الحلنقي” حينما عبر عن حميمية التواصل بين الناس في الحارات والأحياء والبحث عن البيوت من خلال أغنية (البسأل ما بتوه) التي رددها ثلاثي الطرب الذي لن يجود الزمن بمثله بنات طلسم (البلابل).
مرة شفناك يا الحنين طالي في حارتنا صُدفة
جابنا ليك الريد وجينا الحصل جابتنا إلفة
ولا لا لا الجابنا ليك لو بتطر دربنا عرفه
إن سرحت شوية فينا وما رجيتنا عشان نجيك..
يا لها من روعة غناء خالد في مكتبة إذاعة هنا أم درمان.. ولكن الزمن تبدل.. وماتت الأشواق في الطرقات.. وأصحاب التواصل الفوري المشاعر الفياضة بعد أن انتهى عهد الحرمان.. والطلة التي تنساب لها الكلمات سراعاً.. والحنين الذي يتسلل بين مسام أغنيات الطنبور صار أثراً بعد عين!
(2)
بعد عشر سنوات من التقاضي في دروب المحاكم أصدر القاضي “أسامة منصور” قاضي محكمة كادقلي العامة حكماً لصالح مواطن سوداني (عادي) ضد حكومة السودان، وقرر القاضي الشجاع أن تدفع حكومة السودان للمواطن “الرشيد بكري إسماعيل” مبلغ خمسمائة وواحد وعشرين ألف جنيه، عبارة عن خسائره التي تكبدها بإطعام أعضاء حكومة السودان عام 2009م، حينما عقد مؤتمراً في منطقة كاودة بجنوب كردفان، خاطبه النائب الأول لحكومة السودان “سلفا كير ميارديت” والنائب “علي عثمان محمد طه” والشريكان في حكم ولاية جنوب كردفان “أحمد هارون” و”عبد الواحد محمد نور”.. والأمين العام لمجلس الحكماء المهندس “آدم الفكي محمد الطيب” في ذلك المؤتمر قبل عشرة أعوام عقدت حكومة جنوب كردفان اتفاقاً مع المواطن “الرشيد بكري إسماعيل” لتولي ضيافة المؤتمرين.. تقديم وجبات غذائية لمدة ثلاثة أيام.. استطاع المواطن “الرشيد” توفير الوجبات الثلاث لضيوف المؤتمر.. بالاستدانة من التجار في الأبيض والترحيل والعمال وبعد انفضاض المؤتمر طالب حكومة الولاية بحقوقه وهي مبلغ سبعمائة ألف جنيه.. وصدقت الحكومة على المبلغ ولكنها تلكأت في الدفع وبعد عامين من الانتظار حصل “الرشيد” على مبلغ (200) ألف جنيه.. على أن يسدد مبلغ الـ(500) ألف جنيه لاحقاً.. انفصل الجنوب و”الرشيد” ينتظر ماله.. نشبت الحرب في 6/6/2011م، و”الرشيد” يطرق أبواب الوالي “أحمد هارون” دون جدوى، تم إعفاء “هارون” وجاء “آدم الفكي”.. وتمرد “الحلو”.. وأصبح مجلس الحكماء أثراً بعد عين وأقل عن مقاضاة حكومة السودان.. جلسة بعد أخرى.. والرجل ينتظر.. لم ييأس ويترك ماله.. بعد أن باع بيوتاً عزيزة عليه بالأبيض.. وتخرج ابنه “محمد طبيباً”.. والقضاء ينظر في قضية مواطن ضد حكومة السودان.. وأخيراً يوم الثلاثاء الماضي الثاني والعشرين من يناير 2019م، أصدر القاضي “أسامة منصور” قراره بإلزام حكومة السودان دفع مبلغ (500) ألف جنيه هي أصل الدين دون تعويض لفارق السعر بين أمس أي قبل عشر سنوات واليوم.. وارتسمت في وجه “الرشيد” ابتسامة الرضا بعد حصوله على أصل أمواله.. وهو على يقين بأن دفع الحكومة لمبلغ (500) ألف جنيه في الوقت الراهن صعباً إن لم يكن مستحيلاً.. ولكن يتشبث بالأمل.. على الأقل لا يزال “الرشيد” على قيد الحياة، أما زميله الآخر الراحل الشهيد “عابدين أو زلزال” فقد مات في السجن.. بعد أن شيد مدارس حكومية ولم تسدد الحكومة ما عليها من إلتزامات.. فوضعه التجار في سجن الساير ليموت حسرة وفي عنق حكومة السودان ديناً.. وهي لا تكف عن الحديث ليل نهار والتزامها بقيم العدالة وأركان الشريعة!! ولكنها تفعل كل ما نهت عن الشريعة بل كل الشرائع الوضعية والسماوية ألا وهو الظلم!!
(3)
في هذه الحياة هناك أشخاص رجال ونساء يتجاوزون حدود الزمان والمكان ويتخطون حواجز الواقع المادي والضعف البشري يسلكون طريقاً يعرج بهم نحو السمو الروحي والأخلاقي لا يخافون الطرق المجهولة ولا الدروب الوعرة، لا يعرفون التردد في اليسر لبلوغ الغايات النبيلة.. لا يجعلون من لقمة العيش كل همهم في الدنيا يسلكون دروب المعرفة الشاقة.. ويضيئون بمصابيح العلم ظلمات الليل، من هؤلاء رجل من شمال السودان جاء لمدينة الدلنج في خمسينيات القرن الماضي.. حينما كان أقرانه يعملون في التجارة والزراعة ويحصدون المال أثر “محمد عبد الله صفراوي” فتح مكتبة الجبال الثقافية وسط سوق المدينة بالقرب من دكان أولاد الصول ودكان “يوسف شامي” وقبالة شجرة الرجل الشفيف والأنصاري “محمد إبراهيم حماد”.. زرع “صفراوي” في جبال النوبة المعرفة وقيم التدين.. وبنى المساجد.. وعمرها.. كان من الإسلاميين القلائل وسط الجلابة القادمين من الوسط والشمال.. نسج “صفراوي” علاقات مع الناس وبنى عمارات من الثقة مع أهل جبال النوبة واكتنز رصيداً من الأصدقاء والتلاميذ.. ينشر الكتاب.. والمعرفة ويمنح الصحف اليومية لمعهد التربية مجاناً.. وظلت مكتبة الجبال منارة سامقة حتى رحل “صفراوي” عن هذه الدنيا.. وكم بخلت جامعة الدلنج وأمسكت يدها عن تكريم رجل التكريم.. وأن تجعل الجامعة إحدى قاعتها باسمه الكبير، ولكن “صفراوي” نحت على القلوب مكاناً له.. ولو كانت وزارة الثقافة في بلادنا تهتم برموز الثقافة لسألت من هو “صفراوي”؟!