تقارير

(الشعبي).. إبحار وسط عواصف المذكرات

"المحبوب": الشعبي بحاجة لقيادة ملهمة في زمن الخطوب

مستقبل غامض
إذا انسحبت القيادة الحالية من الحكومة أضحت بلا برنامج
“صديق محمد عثمان”: الحزب يعيش عمراً افتراضياً منذ شارك في الحوار
“عبد الحميد أحمد”: نهايات الشعبي ترتبط وثيقاً بمآلات تيار الإسلام السياسي كله

الخرطوم: مزدلفة محمد عثمان

ما إن تنهي مجموعة في المؤتمر الشعبي، صياغة مذكرة مشحونة بالأسى والمطالب لقيادة التنظيم أملا في التجاوب، إلا وينشط آخرون في تحضير مكتوب جديد بذات اللغة المليئة بالذكريات والرغبة في حصاد موقف يوازي تاريخ حركة ترى في نفسها القائد والموجه وصاحبة تأثير عميق في الحياة السودانية، بغض النظر عن رؤى البعض حيال تصنيف هذا التأثير سلباً أو إيجاباً لكن بأي حال لا يمكن تجاوزه.
من الصعب أن يخفى على أحد ما يجري داخل هذا التنظيم الذي أسسه الراحل “حسن عبد الله الترابي” في يونيو العام 2000 بعد انقسام الحركة الإسلامية الشهير، ثم عبر به سنوات صعبة اختبر خلالها مع العشرات من مناصريه أيام سجن طويلة تزيد على (1500) يوم هي حصاد حبس لست مرات تحت اتهامات مختلفة نتاج خلافه مع تلامذته في الحُكم.
ومع ذلك وفي مطلع العام 2014 قرر “الترابي” – عليه الرحمة – وضع حد لتلك الخصومة بمفاجأة الجميع وهو يدخل إلى قاعة الصداقة، مستجيباً لدعوة الرئيس “عمر البشير”، الداعية لحوار وطني شامل، فكان جلوسه يومذاك بجانب خصماء المؤتمر الوطني “الصادق المهدي” و”غازي صلاح الدين” إيذاناً ببدء مرحلة جديدة من حياة المؤتمر الشعبي.
وعلى شماعة (الحوار الوطني) علق المؤتمر الشعبي كل آماله في تحسين الأوضاع بالبلاد، خاصة قضايا الحريات التي تجرع بسببها لأعوام أقسى أنواع التنكيل، ثم إنه كان يأمل أيضا في وضع حد لسطوة الحزب الواحد والإصرار على مخرجات مقبولة في القضايا المفصلية من سلام واقتصاد وعلاقات خارجية تمثل الهادي للعبور إلى وفاق سوداني شامل أولا ثم صلات جيدة مع العالم البعيد منه والقريب.
ومع يأس القوى الرئيسية في حزب الأمة والإصلاح الآن من النتيجة المأمولة للفكرة، وانسحابهما الغاضب، ظل المؤتمر الشعبي الأكثر تمسكاً بل الأوفر حماساً للمشروع فنافحت قيادته عن الحوار، بنحو أذهل حتى دعاته في المؤتمر الوطني، فصمتوا ليتولى قادة المؤتمر الشعبي معركة الدفاع عن أنفسهم تحت ظل القبول بالحوار، يحاولون بث شحنات من الثقة وسط المتشككين في جدواه.
وسط تلك الأجواء كانت مجموعة لا يستهان بها من الكوادر الوسيطة في قطاعي الشباب والطلاب رافضة لهذا التحول الكبير من حزب معارض إلى صديق ملتزم وبالغ الحرص على التقارب مع أعداء الأمس، فكثرة الهمهمات المتبوعة بالإشارات الرافضة لتبدل الحزب، لكن ما كان لأحد أن يجرؤ على مخالفة “الترابي” جهاراً وهو الذي حرص على تبرير تمسكه بمشروع الحوار إلى الحاجة لمنع سيناريوهات الربيع العربي بعد تحول البلدان التي اندلعت فيها إلى بؤر للعنف، كما وصم المعارضة بالضعف والعجز عن إسقاط النظام الحاكم.
وأمام (سطوة الزعيم) اتجه الشباب والطلاب داخل الحزب إلى تأسيس منابر لإدارة حوارات فكرية بدأت بمنتدى “ابن رشد” وأعقبتها بـ”منبر أهل الرأي”، وهذا الأخير نشر مع بدايات الحوار الوطني ورقة تحليلية حوت تقييماً لمجرى الحوار الوطني ومساهمة المؤتمر الشعبي، وحاولت الورقة التنبؤ بمستقبل الحركة والمؤتمر الشعبي، ما أثار حفيظة قيادات داخل الحزب كانت تشكك علی الدوام في أعمال المنتدى وتضيق باستضافته الشخصيات اليسارية، فاستجاب الأمين العام الراحل لتلك الأصوات وأمر بتجميد “منبر أهل الرأي”، فأصدر أصحابه بياناً قالوا فيه إن مناشط الشباب التي وجدت رواجاً أثارت حفيظة (إخوان)، ينتمون إلى ذات تيار الحركة الإسلامية وتنظيمها الذي يكابد ابتلاء معارضة جور السُلطان.
وأضاف (نهض نفر داخل المؤتمر يأتمرون ليطفئوا تلك الجذوة لا يدخرون وسعاً في إمضاء تدابير الكبت لدعاة الحق وتعويق عملهم العام المنظم منعاً لنشاطهم في دار الحزب ومحاولات الإعدام لكل أثر أو صدى لهم في الحياة بين المجتمع).
وأفاد البيان أن (الأمين العام “حسن الترابي” استجاب لتلك التدابير وأصدر قراراً يحظر أعمال منبر (أهل الرأي) في سابقة نادرة في تاريخ الحركة الإسلامية).

وقال المنبر إن (رحاباً أشد سعة من ضيق ساحة المؤتمر الشعبي ودوره وقاعاته انفتحت عليهم وإن قرار الحظر كان سانحة طيبة للانعتاق من ربقة قيود مقعدة التزمها شباب المنبر وهم لها كارهون).

إذا ربما كانت هذه أول مواجهة بين “الترابي” ورافضي الحوار الوطني من كوادر الحزب، برغم أن محاولات حثيثة سعت لنفي وجود ذلك الخلاف وأن “الترابي” لم يأمر بتجميد المنبر، لكن الشاهد أن أولئك الشباب تركوا منبرهم وذهب لتكوين مجموعة جديدة باسم (الإحياء والتجديد).
من بعد ذلك مضت الأيام طوال، بدأ اليأس بتسرب فيها إلى “الترابي” نفسه من جدوى الحوار الذي علق عليه الآمال، ورغم أنه قاطع لفترة طويلة جدا وسائل الإعلام، إلا أنه كان يسر لصحفيين مقربين تفضيله مناصحة “البشير” ومعاونيه مباشرة، ولا يريد أن تفهم انتقاداته في الإعلام لما وصل إليه الحال بنحو يثير الريبة في نواياه، ومن ذلك حديث كثير لم يرغب في نشره.
وبعد وفاة “الترابي” في الخامس من مارس 2016، تولى “إبراهيم السنوسي” منصب الأمين العام، وما هي إلا شهور لا تتعدى الثلاثة إلا وواجه معركة المذكرات، فتناقلت الوسائط في أواخر يوليو مذكرة تصحيحية من مجموعة لم تكشف هويتها تحثه على الدعوة لعقد المؤتمر العام، وتتضجر من طريقة إدارته للحزب، لكن “السنوسي” تعلل وقتها بعدم توفر ميزانية تسمح للحزب بعقد مؤتمره العام.
وفي خواتيم ديسمبر من العام 2016 وقع (108) من (ناشطي المؤتمر الشعبي) مذكرة تطالب بعدم الاستجابة لأية محاصصات سياسية أو مشاركة في الحُكم دون الاطمئنان إلى جدية الحكومة في تنفيذ التعهدات الخاصة بالحريات والحُكم الرشيد، ودعت كذلك إلى عدم المشاركة في الحكومة إلا بعد إجازة التعديلات الدستورية الخاصة بالحُريات، وبعد اجتماع “السنوسي” بممثلين للمجموعة تمكن من امتصاص حماسها ولملمة أطراف مذكرتها
وبعد عام بالضبط من رحيل “الترابي” وفي السادس من مارس 2017 برزت مجموعة جديدة داخل المؤتمر الشعبي، معارضة لسياسات قيادة الحزب، ودفعت “للسنوسي” مذكرة ترفض المشاركة في الحكومة المقبلة.
وقال بيان للمجموعة التي أطلقت على نفسها (شعبيون لأجل الحُريات)، إن قرار المشاركة في الحكومة أحدث فجوة أخلاقية ما بين ما كان يدعو له الحزب من قيم الحُرية وبين واقع يضج بالفساد السياسي والإداري.
وزاد (مضافاً إلى ذلك تملص النظام الصريح عن مخرجات الحوار وارتداداته المتكررة في كل مراحل الحوار)، وأشار البيان إلى أن قرار المشاركة في الحكومة أحدث صدمة، وسط قواعد الحزب، وأنه ينعكس سلباً على أداء الشعبي ويخفض مستوى مقبوليته ويضعف الروح المعنوية.
ظل هذا الرأي هو المسيطر على قطاع مؤثر في المؤتمر الشعبي إلى أن تولى “علي الحاج محمد” منصب الأمين العام خلفا “للسنوسي” الذي غادر إلى القصر الجمهوري مساعداً للرئيس “البشير”، على أن يكون رئيساً لمجلس شورى الحزب.
ويبدو أن الشباب علقوا آمالا عراض على “الحاج” ليتخذ مواقف أكثر حسماً في وجه التقارب مع المؤتمر الوطني ومواصلة الشراكة في حكومة لا تقيم وزناً للحلفاء، لكن الأمور مضت على ذات النسق السابق، التمسك بالحوار والاستمرار في الحكومة بشقيها التنفيذي والتشريعي، وما كان هناك بد من أن تبدأ من جديد معركة المذكرات.
وبالفعل منذ منتصف ديسمبر بدأت حملة ضغط على القيادة لاتخاذ موقف تجاه التطورات السياسية والاقتصادية الجارية في البلاد خاصة فيما يلي تعديل الدستور بما يسمح لإعادة ترشيح الرئيس “عمر البشير” في 2020، وتم توقيع مذكرة من (250) عضواً تقريباً، عممت في وسائل التواصل الاجتماعي، كما اطلع عليها الأمين العام عبر مدير مكتبه حسبما أكد “ضو البيت فضل الله” أحد أبرز موقعيها.
وما هي إلا أيام إلا ووقعت مجموعة ثانية من حوالي (40) كادراً على مذكرة جديدة تطالب الأمانة العامة بالانسحاب من الحكومة خلال أسبوع، وإلا فإنها ستضطر إلى عقد مؤتمر استثنائي يتم بموجبه عزل الأمين العام.
إزاء هذا الوضع اختارت مجموعة كبيرة الوقوف على الرصيف، بينما آثر البعض تجميد نشاطه كلياً، لكن قيادي معروف استفسرته (المجهر) عن مستقبل الحزب واحتمالات انشقاقه، وسط سيل المذكرات أبدى لا مبالاة حيالها، وقال إنهم لا يرغبون في التعليق على ما يتم تداوله إسفيرياً، وأكد أن هيئة القيادة لم تصلها أي مذكرة وأن القرار الرسمي يتخذ بعد اجتماع المؤسسات ولا يرضخ لأسماء (لا نعرف بعضها) كما قال.
في المقابل كان الأمين السياسي للحزب “إدريس سليمان” أكثر وضوحاً وهو يتحدث في مؤتمر صحفي الأسبوع الفائت عن إتاحة حزبه الحُرية لكل صاحب رأي ليقول ما يريد، ونوَّه إلى انعقاد اجتماعات يومية لتقدير الموقف وصولاً إلى قرار تتخذه المؤسسات بشأن أي قضية لافتاً إلى استمرار مشاركتهم في الحكومة.
ويستبعد القيادي “صديق محمد عثمان” في حديث لـ(المجهر) احتمالات انشقاق المؤتمر الشعبي، خاصة وأن الحراك الحادث حالياً كان متوقعاً، ويشير إلى أن عضوية الحركة الإسلامية انتابها إحباط كبير عند المصالحة مع نظام مايو، وحدث انقسام كاد يعصف بوحدتها خاصة وأن معتقليها كانوا في السجون، وأردف “لم تنتهِ معارضة العضوية للمصالحة حتى سقوط نظام مايو”.
ويؤكد “صديق” أن التململ ذاته كان موجودا في حياة الشيخ “الترابي” لكن (سطوة الشيخ الروحية) طغت عليه حينها خاصة أن الإعلام لا يمكنه تجاهل الشيخ والتركيز على حراك الشباب.
ويستبعد أن يؤثر الحراك داخل الشعبي على مستقبله (لأن معظم العضوية نفسها تدرك أن الشعبي ومنذ الحوار يعيش عمراً افتراضياً بانتظار ثمار حواره حرية تسمح له بالانتقال لمرحلة تالية حدها الأعلى المثالي تحقق المنظومة الخالفة ولكن قد يكون هناك مرحلة انتقالية قبل المنظومة الخالفة نفسها).
ويؤيد “الضو فضل الله” حديث “صديق” بتأكيد ضعف فرص الانشقاق ويؤكد لـ (المجهر) أن المذكرات محاولة للضغط على القيادة لتجتمع وتقرر في القضايا المفصلية لأن غياب الأجهزة هو السبب في أزمة الحزب .
في المقابل يرى “المحبوب عبد السلام” أحد أبرز القيادات الإسلامية التي انتحت جانباً عن العمل التنظيمي، أن صروف الدهر لا تزال تعطي الشعبي فرصاً نادرة ولا زال يملك (قاعدة ممتدة في السودان وهياكل فارغة أو عاطلة تحتاج لرؤى تنير لها السبيل وأفكار تمنحها طاقة وقيادة تلهمه في زمن الخطوب المدلهمة وأملا في سنين اليأس).
ويقترح “المحبوب” على الصعيد العملي (أن يتخلى كل من جاوز الخمسين من قياداته عن مقعده ويهب تجربته عن طيب خاطر حال طلب منه المساهمة بالرأي مضيفا وإذا استتب الأمر لأجيال الحاضر والمستقبل ينجزوا مراجعة شاملة نحو حزب سياسي كله ظاهر مؤسس على رؤية، تقوم عليه قيادة منتخبة محاسبة إلى أجل).
ويرى في حديت لـ (المجهر) أن القيادة الراهنة ربما إذا انسحبت من الحكومة أضحت بلا برنامج، (فالمسار كان من المعارضة إلى الحوار إلى المشاركة، دورة كاملة ليس لها مرحلة أخرى إلا التجديد الجذري).
ويستدرك بالقول (الحق أن دورة المعارضة كانت الأفضل رغم مشقة مسارها وباهظ تكاليفها، أما الحوار لم يلبث أمله البراق أن خمد وبدأ مشواره أعرجاً، ومشاركة اليوم لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت).
أما “عبد الحميد أحمد” وهو من كوادر الشباب التي جمدت نشاطها بعد قبول الحزب بمبادرة الحوار، فيرى أن أحوال المؤتمر الشعبي، غلب عليها عشية انتقال الشيخ “الترابي” إلى الرفيق الأعلى، شعور طاغي بالحنين ظل يسكن (الوجدان الجمعي) للجماعة يشدهم لماضي الحركة الإسلامية وتراث الشيخ لا يطيقون إلا أن يرونه برنامج عمل لا يخرجون عنه قيد أنملة.
ويشير إلى أن تعالي وقع الخلافات داخل أجهزة التنظيم وركونه إلى المشاركة في السُلطة دفع بأعداد كثيفة من عضويته، لا سيما الشباب، إلى مجانبة نشاطه، لكن وقع الحادثات بساحة الوطن الأكبر لا تفتأ تدفعهم تارةً أخرى مدّاً وجزراً يعبرون في كل مرّة عن مواقفهم بالمذكرات الاحتجاجية التي ترجو إقامة التنظيم على جادة طريق الخلاص الذي يتصورونه حتى تكاثفت مذكراتهم على نحو يشبه الظاهرة.
ويضيف لـ(المجهر) هكذا يقف المؤتمر الشعبي مثقلاً برؤى متباينة، تبطل فاعليته، شريكاً في سُلطة تتهددها الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة، لا تبالي مجموعات الشباب التي آيست من الإصلاح أن تدعو إلى عزل ذات الأمين العام والدعوة لمؤتمر عام استثنائي بينما تنمو شكوكها يوماً بعد يوم في أنّ طبقة القيادات التالدة في المؤتمر الشعبي، تملك عزماً أكيداً أو أفقاً متسعاً يمكنهم من استكشاف اتجاهات جديدة في عوالم الفكر والسياسة ليتمكنوا من التصدي لتحديات المستقبل وإنتاج رؤى وتصورات جديدة تتصوب نحو معالجة القضايا التي ظلت غائبة ومؤجلة لا يلتفتون إليها إذ كانوا على الدوام تحت ظل وقيادة الشيخ المفكر الملهم في أحسن أحوالهم محض ناشطين في الشأن التنظيمي والسياسي اليومي لا يجاوزونه مدى.
ويتابع “عبد الحميد” بالقول (مهما يكن من أمر فإنّ النهايات الأخيرة للمؤتمر الشعبي ترتبط وثيقاً بمآلات تيار الإسلام السياسي كله، سوى أن تجربة حكم الإنقاذ ستجعل استحقاقات أيما عودة لتيار إسلامي فاعلاً ومؤثراً في الساحة السياسية كما كان وقع الحركة الإسلامية لأول عهدها سيكون ذلك وثيق الارتباط بمقدراته على المراجعة الجذرية واستيلاد رؤية جديدة وهو ما يبدو مستحيلاً بالنظر لواقع مستويات القيادة كافة).

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية