في ذكرى الاستقلال الـ(63) .. تفاصيل ميلاد وزارة الخارجية بعد مغادرة الإنجليز
من "مبارك زروق" وحتى "الدرديري"
إعداد- ميعاد مبارك
في الثامن والعشرون من نوفمبر للعام1950 قدم سكرتير حزب الأمة وقتها “عبد الله خليل” مذكرة إلى الحاكم العام أكد فيها على ضرورة تشكيل حكومة من السودانيين، وأن يكون لوزارة المالية ووزارة الخارجية، وزراء سودانيون، عندما يتوفر السودانيون المؤهلون علمياً للتعيين، من هناك بدأت بذرة وزارة الخارجية السودانية ، والتي بدأت كمكتب للشؤون الخاصة إبان الاستعمار يقوم عليه وكيل سوداني بعد اتفاق الحكم الذاتي وتقرير المصير ،ليتحول بعد استقلال السودان في العام 1956 إلى وزارة الخارجية التي تولى حقيبتها السيد “مبارك زروق” ليكون أول وزير لخارجية السودان ،فما هي تفاصيل ميلاد هذه الوزارة السيادية ومن هم الرواد المؤسسون فيها وكيف كان الحراك الدبلوماسي في جيل الرواد؟.
إعداد-ميعاد مبارك
# بداية التكوين
في الثاني عشر من فبراير من العام 1953 وقعت اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير والتي أقرت إنشاء مكتب للشؤون الخاصة يعنى بالتنسيق لتمثيل السودان في المؤتمرات الدولية الفنية ويكون على رأسه وكيل وزارة سوداني، وكان نص المحضر الخاص بذلك: (بحثت الحكومة المصرية وحكومة المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وشمال ايرلندا، الرغبة في إنشاء مكتب وكيل وزارة في السودان، يتولاه سوداني ليعمل كحلقة وصل بين الحاكم العام ومجلس الوزراء السوداني، تكون مهمته الإعداد لتمثيل السودان في المؤتمرات الدولية الفنية فقط، وتوصي الحكومتان الحاكم العام للسودان ومجلس الوزراء السوداني بإنشاء هذا المنصب).
وبالفعل تم تعيين دكتور “عقيل أحمد عقيل” كأول وكيل لوزارة الخارجية-المسماة مكتب الشؤون الخاصة وقتها- وتم تعيين “خليفة عباس” العبيد نائباً له.
وينحدر الدكتور “عقيل أحمد عقيل” من أسرة ذات زعامة في قبيلة الرزيقات في دارفور، ودرس في مصر ونال درجة بكالوريوس القانون، وابتعث فيما بعد إلى فرنسا، فنال دكتوراه الدولة من جامعة باريس في القانون الدولي عام1952.
وفي عام 1953، أُختير د.”عقيل” عضواً باللجنة التنفيذية لـ”الحزب الوطني الاتحادي” ، ممثلاً لـ”حزب وادي النيل”. كان “عقيل” مؤمناً بوحدة وادي النيل، ثم جاء اختيار “الأزهري” له في العام 1954 ليكون أول وكيل لمكتب الشؤون الخاصة .
وبينما كان مكتب الشؤون الخاصة يقوم بالتحضير لأول تمثيل خارجي في مؤتمر باندونق بدأت تتباين مواقف الحزب الاتحادي حول وحدة وادي النيل ، الأمر الذي يرجح أنه كان وراء استقالة “عقيل” من منصبه في العام 1955 ليتولى المنصب بالإنابة “خليفة عباس العبيد” والذي أسس لهيكلة وزارة الخارجية بعد ابتعاثه إلى لندن في أغسطس 1955 ، للتدريب في وزارة الخارجية البريطانية.
# مؤتمر باندونق
بينما كانت الخرطوم تقف بين خياري الاستقلال أو الوحدة مع مصر، قامت وكالة الشؤون الخاصة بالتنسيق لأول مشاركة خارجية للسودان في مؤتمر باندونق والذي انعقد في الثامن عشر من أبريل من العام 1955 واستمر لستة أيام بمشاركة(29)دولة أفريقية وآسيوية،في اندونيسيا.
قاد وفد السودان وقتها الرئيس “إسماعيل الأزهري” ، وتضمن الوفد “مبارك زروق” و”حسن عبيد الله” و”خليفة عباس”.حيث حدثت الحادثة الشهيرة حينما وضع الزعيم “الأزهري” منديله الأبيض علماً للسودان بعد رفض وفد السودان الجلوس خلف الوفد المصري، وجلس في مكان مستقل ، الأمر الذي أثار حفيظة الرئيس المصري وقتها “جمال عبد الناصر” ،حيث أصر الوفد السوداني على موقفه، لتمثل أول مشاركة دبلوماسية للسودان ،نقطة بروز التغيير المفاجئ للحكومة التي كانت بقيادة الحزب الاتحادي الذي كان ينادي بالوحدة مع مصر ، حتى رفع “الأزهري” العلم الأبيض في باندونق ، حيث نادى خطاب السودان الذي أعده السيد “مبارك زروق” بالاستقلال، والذي أصبح بعد استقلال السودان أول وزير للخارجية.
#الدبلوماسيون الأوائل
وفي العام 1955 تم توسيع مهام مكتب المهام الخاصة ، حسب مقال للسفير “جمال محمد إبراهيم” ،لتشمل التنسيق بين الحاكم العام ومجلس الوزراء، وتقديم النصح في الشؤون الخارجية، والتنسيق مع بقية الوزارات في كل ما يتصل بالشؤون الخارجية،فضلاً عن تنظيم المشاركة في المؤتمرات الخارجية،فضلاً عن الإشراف على جوانب المراسم الخاصة بكبار ضيوف البلاد وترتيب برامجهم والإشراف على الممثليات الأجنبية والممثليات والوكالات الخارجية للسودان، في الجوانب الفنية ،والممثليات تضمنت وكالة لندن وكلّف بإدارتها دكتور “علي أورو”،ووكالة القاهرة وكلف بإدارتها السيد “بابكر الديب”، وقنصلية أسمرا وكلف بتأسيسها وإدارتها “محمد عثمان يسن”، وقنصلية جدة وكلف بإدارتها “الحاج أبو شرا”. التنسيق مع الممثليات الأجنبية.
# التحول لوزارة
بعد إعلان استقلال السودان، تحول مكتب المهام الخاصة إلى وزارة الخارجية التي تولى حقيبتها “مبارك زروق” كأول وزير للخارجية، وقامت الوزارة وقتها بفتح سفارات في كل من المملكة المتحدة ، الولايات المتحدة ، الاتحاد السوفيتي ، فرنسا ، الهند ،مصر ، إثيوبيا ،حيث كانت البلاد العربية وتركيا مقرها بغداد ، باكستان والمملكة العربية السعودية ، حسب مقال صحفي للسفير “الفاتح عبد الله يوسف” .كما تم فتح مفوضيات في كل من اليابان و إيطاليا و ألمانيا الغربية ،إضافة إلى المندوب الدائم لدى الأمم المتحدة بنيويورك، وتم فتح قنصليات في كل من يوغندا وتشاد وأسمرا و جمبيلا.وأضيفت لسفير السودان في موسكو مهام سفير غير مقيم في بولندا وتشيكوسلوفاكيا والمجر ورومانيا ، بينما قام سفير السودان في فرنسا ممثلاً للسودان لدى بلجيكا ، وضمت اليابان لسفير السودان في الهند ، و تم اعتماد سفير الخرطوم في العراق ممثلاً غير مقيم في كل من سوريا ولبنان والأردن وتركيا ، فضلاً عن تولي سفير السعودية مهام التمثيل في اليمن ، وضمت يوغوسلافيا إلى الوزير المفوض في اليونان ، واعتمد الوزير المفوض لدى إيطاليا مبعوثاً لدى ألبانيا ، والوزير المفوض في بون في كل من السويد والنرويج والدنمارك ، و القنصل في يوغندا مثل البلاد في كينيا ، وقنصل السودان في تشاد في الكونقو .
حيث كانت أول هيكلة للوزارة تشمل السفراء:”محمد عثمان يس”، “خليفة عباس”، “أمين أحمد حسين”، “عوض ساتي”، “جمال محمد أحمد”، د. “إبراهيم أنيس”، “محمد حمد النيل”،” يوسف التني”، و”بابكر الديب”.
والوزراء المفوضون والذين تم منح بعضهم درجة السفير وتعيينهم سفراء لبعض السفارات الجديدة وهم :”رحمة الله عبد الله”، د. “عثمان الحضري”، د.” بشير البكري”، “محجوب مكاوي”، “عثمان عبد الله حامد”، “يعقوب عثمان”، “عمر عديل”، و”الباقر سيد محمد”.
أما المستشارون فكانوا : “محمد أحمد ياجي”، “فخر الدين محمد”، “أحمد صلاح بخاري”، “محمد ميرغني مبارك”، و”عبد الكريم ميرغني”.
والسكرتيرون الأوائل:”فضل عبيد”، “محمد عبد الماجد” ، “النور علي سليمان”، “عبد الله الحسن الخضر”، “صلاح هاشم”، “الأمين محمد الأمين”، “الباقر عبد المتعال” وآخرون.
والسكرتيرون الثواني:”حامد محمد الأمين”، “مصطفى مدني”، “أبوبكر عثمان محمد صالح”، “كمال البكري” وآخرون.
أما السكرتيرون الثوالث فكانوا:”حسن الأمين البشير”، “أبوبكر عثمان محمد خير”، “علي سحلول” ، “محمد عثمان العوض” وآخرون.
حسب مقال صحفي للسفير “الفاتح عبد الله يوسف”.
#أول وزير خارجية
ولد “مبارك بابكر زروق” أول وزير لخارجية للسودان في مدينة أم درمان عام 1914م. درس الأولية والوسطى في أم درمان ثم التحق بقسم الكتبة والمحاسبين بكلية غردون ثم درس القانون بنفس الكلية ليتخرج منها وينال شهادة القانون في العام 1983. بدأ حياته العملية موظفاً بالسكة حديد بمدينة عطبرة، ثم افتتح مكتباً للمحاماة، حيث أشتهر بمرافعاته الثنائية مع زميله “محمد أحمد المحجوب” أمام المحاكم السودانية .
“زروق “كان من قيادات حزب الأشقاء ومن مؤسسي الحزب الوطني الاتحادي ، وكان عضواً بمؤتمر الخريجين، انتخب عضواً في الهيئة الستينية للمؤتمر من الدورة الثامنة وحتى الدورة الخامسة عشرة (1944- 1952م)، وفي تلك الفترة قدم الأشقاء المذكرة الشهيرة بالاستقلال وتكوين حكومة ديمقراطية بالاتحاد مع مصر.
انتخب “مبارك زروق “سكرتيراً عاماً للمؤتمر من الدورة الحادية عشرة وحتى الدورة الخامسة عشرة (1947 – 1952م). وعضواً في البرلمان الأول عام 1953م عن دوائر الخريجين وأحرز أعلى الأصوات بين الخريجين في البرلمان (35100 صوت). وتم ترشيحه من داخل البرلمان زعيماً للمجلس.
وانتخب في البرلمان الثاني عام 1958م عن دائرة ريفي الخرطوم الجنوبية. عضو مجلس بلدي أم درمان بالتزكية عن دائرة البوستة، وتقلد منصب رئيس المجلس البلدي في أم درمان عدة مرات، وفي عهده صار السودان عضواً في الجامعة العربية. وكان قبل توليه حقيبة الخارجية وزيراً للمواصلات والأشغال في حكومة (1955م).
تم اعتقاله في فترة حكم الرئيس “إبراهيم عبود” وأرسل إلى جوباً منفياً وكان معه عدد من زعماء الأحزاب الأخرى. بعد ثورة أكتوبر عام 1964م تقلد منصب نائب الرئيس للحزب الاتحادي، ووزارة المالية.
بعد إصابته بآلام في صدره أثناء أداء مهامه في مجلس الوزراء فاضت روح “مبارك زروق” في الخامس والعشرين من أبريل عام 1965م.
“زروق” أعد خطاب مؤتمر “باندونق” الذي طالب بالاستقلال التام للسودان ، وبالرغم من كونه من دعاة الاتحاد مع مصر ، كانت له مقولة مشهورة (لا يمكن لأي دولة أن تجد فرصة في الاستقلال وترفضها مفضلة عليها أن تكون في أحضان دولة أخرى، مؤكداً أن الوحدة يمكن أن تأتي بعد تطور وتقدم السودان).
قال “زروق” في خطابه في جلسة إعلان الاستقلال من البرلمان في التاسع عشر من ديسمبر 1955: (إن عملنا يجب أن يكون لمصلحة الشعب أولاً وأخيراً، وأن تحل إرادته المحل الأول، وأن يكون همنا العمل على إسعاده، ونرفع مستواه، ونمحو الآثار التي خلفها في نفسه وجسمه ومجتمعه الاستعمار، وأن نعيد له الثقة بنفسه، وأن نهيئ له الظروف التي يستطيع التنفس فيها بحرية، ونفتح فيها أبواب الفرص أمامه وأن نعطيه الحريات التي يتمتع بها الأحرار في كل مكان، والسودان قد عزم عزماً أكيداً على نيل حريته واستقلاله الكامل ولن تثنيه قوة عن ذلك ، وإن موقف الدولتين، مشيراً إلى بريطانيا ومصر- منا اليوم سوف يكون العامل الأول والأخير في تكييف علاقتنا المستقبلية، وكما لم نتساهل في الوقوف ضد من يقف في وجه حريتنا كذلك لن نتردد في مد يد الصداقة والتعاون من غير تفريط لكل من يحترم حقنا ويعترف بوضعنا الطبيعي الجديد).
مشوار طويل قادته الدبلوماسية السودانية عندما تولى “زروق” المهام كأول وزير للخارجية مروراً بعدد من الوزراء إلى أن وصلنا إلى محطة اليوم وقد تسلم د. “الدرديري محمد أحمد” مهام الوزارة.