الباحث والمحلل الاقتصادي د. “هيثم محمد فتحي” في حوار ما بعد إجازة (الموازنة) مع (المجهر)
الدولار الجمركي أثر بشكل غير مسبوق على أسعار السلع وشهدت الأسواق انفلاتاً كبيراً
لا أتوقع انهيار الموازنة الجديدة، فالجهاز التنفيذي وعى الدرس وتعلم من أخطاء الموازنة السابقة
النقص الحاد في العُملات أدى إلى زيادة الفجوة بين السعر الرسمي والسعر (بالسوق الموازي)
سوء إدارة الأزمة وراء الأزمات.. واعتراف الحكومة بذهاب الدعم لغير مستحقيه أكبر دليل على وجود خلل في المنظومة الاقتصادية
حوار ـ رقية أبو شوك
البلاد على أعتاب موازنة جديدة، يبدأ العمل بها اعتباراً من بعد غدٍ (الثلاثاء) والتي جاءت بحجم كلي بلغ (192.8) مليار جنيه وبعجز متوقع (53.7) مليار جنيه
جملة من التحديات تقف أمام موازنة 2019م، من بينها “الدولار الجمركي وتأثيره المباشر على الأسعار وانفلاتها بالإضافة إلى الأزمات المتكررة والنقص الحاد في العُملة الأجنبية وشح السيولة في ظل تركيز الموازنة الجديدة على (الإنتاج والصادر)، (المجهر) وضعت أمام المحلل والباحث الاقتصادي المعروف د. “هيثم محمد فتحي” عدداً من الأسئلة، من بينها الدولار الجمركي وضرورة تقليل الفجوة ما بين سعر الدولار بالموازي وآلية صناع السوق وكيفية إدارة الأزمات حيث كانت هذه الإفادات :
*هل بالفعل أن الدولار الجمركي وتحريكه خلال موازنة 2018م تسبب في جل مشاكل الاقتصاد التي نعاني منها الآن ؟
نعم.. كلما ازدادت الفئة الجمركية، ارتفع التضخم والعكس، وتخفيضه يؤدي إلى خفض معدلات التضخم، ومن ثم تعود عمليات الاستيراد إلى حجمها الطبيعي، وبالتالي تتوافر أصناف كثيرة من السلع، وقد ثبت من خلال التجربة زيادة الإيرادات أيضاً وذلك عندما يتم خفض الدولار الجمركي.
فالتضخم يعتبر هماً كبيراً للإصلاحات الاقتصادية كما أن انخفاضه يعتبر مؤشراً لنجاح السياسة، كما أنه يفتح باباً ومتنفساً في معيشة المواطن، فقرار رفع الدولار الجمركي والذي بدأ تنفيذه مع موازنة العام 2018م أدى إلى توقف كثير من المصانع وذلك بسبب ارتفاع مدخلات الإنتاج، وأثر بشكل غير مسبوق على أسعار السلع، وعاشت الأسواق انفلاتاً كبيراً أدى إلى عجز المواطنين عن توفير احتياجاتهم الأساسية وعدم القدرة على شرائها، وارتفع التضخم بنسب كبيرة تجاوزت الـ(64%)، بالرغم أن أهداف الموازنة العامة للدولة للعام 2018م والتي أشارت إلى خفض معدلات التضخم والوصول به إلى (19.5%).
*الموازنة الجديدة، حسب تأكيد رئيس مجلس الوزراء وزير المالية والتخطيط الاقتصادي أنها ستركز على زيادة الإنتاج والصادر.. قراءة لذلك في ظل ارتفاع تكلفة الإنتاج؟
لنجاح ذلك لابد من توفير جميع مستلزمات الإنتاج وتوزيع المستلزمات الزراعية ومنح المحفزات للمزارعين الذين يزرعون الأرض بالفعل
وتوعية المزارعين من خلال اتباع الإرشادات الضرورية التي تساهم في زيادة معدلات الإنتاج لضمان الفائدة المزدوجة التي تحقق للمزارع زيادة في موارده المالية وللدولة زيادة في حجم المحصول لتخفيف حجم الاستيراد من الخارج مع رفع الحكومة للسعر الرسمي الذي يحصل عليه المزارع نظير تسليمه محصول القمح بالصورة التي تعوضه عما أنفقه طوال العام على المحصول، من بذور وتقاوى ومصاريف ري ورش مبيدات
ايضاً ضرورة استخدام التقنيات والأساليب الحديثة التي تؤدي إلى زيادة إنتاجية فدان القمح بنسبة (20%) فضلًا عن استخدام الطرق الحديثة في التخزين داخل الصوامع لكونه محصول إستراتيجي مهم وزيادة إنتاجه إما عن طريق زيادة المساحات المزروعة أو استنباط أصناف جديدة عالية الإنتاجية لنقلل من الفجوة الاستيرادية الكبيرة الموجودة حالياً.
*كيف يتم ذلك في ظل عدم استقرار سعر الصرف حيث تعتمد كل مدخلات الإنتاج على الاستيراد؟ استقرار سعر صرف العُملة عامل مهم جداً، كما أن المعالجة يجب أن تكون موضوعية وبعيدة من الاعتماد على الأساليب الإدارية، فالأصل في تحديد سعر صرف العُملات هو ترك آليات السوق والعرض والطلب لتقوم بدورها الذاتي في تحديد سعر الصرف، وتقليل أسعار الواردات حتى يتمكن المواطنون من شراء السلع الأجنبية بسعر معقول، حتى لا يؤثر سلباً على قدرة المنتجين المحليين في منافسة السلع الأجنبية، وبالتالي تفشل كثير من الصناعات المحلية في النمو بسبب رفع سعر صرف العُملة المحلية.
*إذاً كيف نرتقي بالإنتاج في ظل هذه التحديات؟
مرونة هياكل الاقتصاد، ومدى قدرة الهيكل الاقتصادية على استيعاب تقلبات السوق والمتغيرات العالمية، والقدرة على امتصاص الصدمات سواء كانت الإسمية أو الحقيقية منها، تنوع هيكل الإنتاج والصادرات، ومدى القدرة على التنافسية الدولية والتركيز الجغرافي للتجارة، والاعتماد على التكامل الاقتصادي مع دول الجوار، واستقرار ومصداقية العُملة الأجنبية، خاصة وقد ذهب جزء كبير من السيولة خلال الفترات الماضية للمضاربة على الدولار الأمر الذي انعكس بشكل سلبي على أحجام وقيمة التداول وهروب المستثمرين خاصة وأن الدولار شهد حالة من عدم الاستقرار
ووفقاً للنظرية الاقتصادية فإنه كلما زاد معدل التـضخم قل الاستثمار وفي المقابل فإن زيـادة تدفق الاستثمارات يؤدي إلى زيادة عرض النقود وكذلك فإن تحسن مـستوى الـصرف واستقراره من المفترض أن يزيد مـن فـرص الاسـتثمار،
فأي سياسة اقتصادية متبعة مستقبلآ لابد لصانعي القرار التعمق في دراسة أبعادها الاقتصادية أولا وما تلحقه من إضرار على هيكل الاقتصاد القائم، وكيفية تأثير تلك السياسة على المجتمع وكيفية التغلب على السياسات الاقتصادية التي تمس حياته اليومية.
*التحول الإلكتروني في المعاملات المالية الحكومية .. هل يمكن أن يكون حلآ للارتقاء بالإنتاج في ظل شح السيولة؟
هناك بعض المخاوف لانعدام الثقافة الإلكترونية لدى بعض المخضرمين من قادة الدوائر الحكومية خاصة الخدمية منها، لذا لابد من أن توفر القطاعات المصرفية للخدمات الإلكترونية حل جزء كبير من المعوقات التي تعترضها.
فعلى الإدارات الحكومية تفعيل الخدمات الإلكترونية، ولابد أيضا من أن يمون التخول بهدف عرض ودفع الفواتير والمدفوعات الأخرى إلكترونياً على أن تكون مهمته الأساسية هو تسهيل وتسريع عملية دفع الفواتير والمدفوعات الأخرى عبر جميع القنوات المصرفية المتمثلة في فروع البنوك وأجهزة الصراف الآلي والهاتف والإنترنت، حيث تعتبر هذه القنوات هي الخطوة الفعلية الأولى لانتشار المعلوماتية في المجتمع ككل ،خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الإيجابيات الكبيرة التي يُحققها هذا النظام.
* ماهي هذه الإيجابيات؟
القضاء على العديد من المُمارسات الفاسدة ماليا وإداريا والتي كانت منتشرة في النظام اليدوي سابقاً، فينبغي تعزيز التعاون مع البنوك التجارية لأن الخدمات الإلكترونية للبنوك تشكل مستقبل العمل في القطاع المصرفي ومن أبرز تلك الخدمات خدمات الدفع الإلكتروني الحكومية الذي سيعمل على إدخال الأموال داخل المنظومة المصرفية، وتأمين أموال المواطن وتسهيل معاملاته المالية عبر الأنظمة التقنية وتسهيل التحويلات المالية بصورة مباشرة على أن يكون هناك إعفاء لخدمات الدفع الإلكتروني من الضرائب والرسوم، مع ضرورة العمل على نشر وسائل الدفع الإلكتروني.
*ربما يلازم هذا العمل التقني الكبير تحديات متمثلة في الشبكة؟
نعم التحدي الأكبر يتمثل في شبكة الاتصالات بعدد من المناطق في البلاد خاصة الولايات، فلابد من إنشاء المزيد من الأبراج، وهو الأمر الذي تراه شركات الاتصالات مكلفا بالنسبة لها.
*هل النقص الحاد في العُملات ادى إلى زيادة الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي؟
بالطبع فإن النقص الحاد في العُملات ادى إلى زيادة الفجوة بين السعر الرسمي وسعر صرف الجنيه في (السوق السوداء) مع خسارة الجنيه (95%) من قيمته أمام الدولار خلال الأشهر الماضية.
فالحكومة لن تسمح بانخفاض القيمة الشرائية للعُملة كما أنها لابد لها أن تكرّس جهودها لتعزيز قيمة الجنيه السوداني مقابل العُملات الأجنبية وذلك منعاً لحدوث أي اضطرابات اقتصادية في موازنة العام القادم 2019 م
فظهور (السوق السوداء) للدولار كان نتيجة الفجوة بين المعروض والطلب على العُملات الأجنبية.
* الحل في رأيك؟
الحل هو إعادة تدوير أرباح الشركات الأجنبية في السوق السودانية عن طريق التوسعات في الأنشطة القائمة لتلك الشركات، ومن ثم الاحتفاظ على أرصدة النقد الأجنبي في الدورة الاقتصادية، والعمل على خلق حوافز الإعفاءات الضريبية والجمركية والاستثمارية (الحقيقية .. المراقبة والمدروسة) وذلك حتى نتيح استثمار أرباح الشركات في البلاد.
* كيف؟
مثل تصدير منتجات مصنعة داخل السودان بقيمة مضافة وتخفيف الضغط على العُملة الصعبة إلى جانب تعزيز قدرة السودان على جذب الاستثمارات وطمأنة المجتمع الاستثماري العالمي بالبيئة والمناخ الاستثماري وقدرته على تقديم حوافز وضمانات لحماية رؤوس الأموال.
* آلية (صناع السوق).. هل بإمكانها أن تعمل على تقليل الفجوة؟
آلية السوق حتى الآن لم تعمل على تقليص تعاملات (السوق السوداء)، والمضاربين في العُملات الأجنبية فـ(السوق السوداء) ستنتهي.
إذا تدفقت الاستثمارات والعُملة الأجنبية، مع زيادة الإنتاج والعمل على تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي ووضع القوانين التي تحمي المستثمر وتهيئة البيئة الملائمة للاستثمار وجذب تحويلات ومدخرات المغتربين مع ضرورة اتخاذ إجراءات وتدابير صارمة للحد من عمليات تهريب سلعتي الذهب والصمغ العربي إلى دول الجوار والحد من وتيرة الواردات المتصاعدة، فكل هذا سيؤدي من زيادة حجم احتياطات البلاد من النقد الأجنبي.
* حدثنا عن أسباب الأزمات المتجددة والمستمرة ؟
أهم أسباب أزمة الخبز تتمثل في الاعتماد على استيراد القمح، وهو سلعة إستراتيجية، وتقليص مساحة زراعته، مع نقص المخزون الإستراتيجي نتيجة زيادة الأسعار في السوق العالمي للقمح، بالإضافة إلى سوء التوزيع وسوء التصرف في المنتج وسوء إدارة الأزمة، نتيجة تفشي الفساد بأنواعه وعلى كافة الأصعدة مع الزيادة في السكان التي تلتهم الإنتاج والمخزون، فالفقر ازداد بسبب انهيار الدخل الحقيقي مع غـياب الشفافية في البيانات الحكومية حول المخزون الإستراتيجي والإنتاج والاستيراد، أيضا جاءت الأزمة بسبب التلاعب في توزيع الدقيق، وبسبب تهريبه وبيعه في (السوق السوداء) بأسعار عالية والاستفادة منه لإنتاج الخبز الفاخر والحلوى، وذلك باعتراف الحكومة والتي أكدت أن دعم الخبز يذهب إلى غير مستحقِّـيه، وهذا أبرز دليل على أن هناك خللاً في المنظومة الاقتصادية.
*ثم ماذا؟
إذا نما الاقتصاد بمعدّل معقول مع وجود قَـدر من عدالة التوزيع، فسوف تقـل الحاجة إلى الدعم الحكومي، فعلى الحكومة القضاء على الفساد المستشري في الجهاز الإداري للدولة وخاصة في ماهو مرتبط بالسلع الإستراتيجية المدعومة كخطوة لتوفير هذه السلع مع القضاء على التهريب، زيادة الطاقة الإنتاجية للمجتمع، وخفض الواردات وزيادة الصادرات، ومراجعة شاملة للسياسات والأجهزة والهياكل الإدارية والقوانين والأنظمة ذات العلاقة بالاقتصاد الكلي وحل كافة الإشكالات المعيقة للتنمية ببرامج واضحة ومعلنة وتوعية إعلامية كافية وسند حكومي كامل وبرامج عمل تطبق بصرامة مؤكداً، مع ضرورة الاستمرار في البحث عن مخرج سريع خاصة فيما يتعلق باحتياطي النقد الأجنبي تخرج بموجبه الحكومة من المنافسة في شراء العُملات الأجنبية، حتى تكون موازنة 2019 م أكثر واقعية بسعر صرف معقول وأن يتم التركيز على قطاع اقتصادي واحد ذو ميزة نسبية وعوائد بالنقد الأجنبي أو حتى مشاريع بعينها داخل القطاع المستهدف، وذلك لصعوبة استهداف تنمية شاملة لكل القطاعات في وقت واحد
مع عدم تصدير منتجات غير مصنعة (زراعية كانت أم غيرها).
* القطاع الخاص.. هل يمكن أن يساهم في الحلول؟
الاستعانة بالقطاع الخاص ضرورية، وذلك بمعناه العريض، المحلي والأجنبي والاستفادة من الأوعية الاستثمارية القائمة (شركات مساهمة عامة، صناديق محافظ… الخ) دون الارتهان لعدد محدود من رجال الأعمال. ،وإنشاء (جسم) واحد للإدارة والإشراف على الصادرات مع تشجيع الإنتاج الزراعي بتخطيط الأراضي وتوزيعها على المواطنين ودعمهم ومساعدتهم على تسويق منتجاتهم، شريطة أن تتولى الحكومة بنفسها المشاريع الإستراتيجية الكبيرة، الزراعة والإنتاج الحيواني والتعدين .ووضع معالجات آنية للأزمة الحالية بوسائل فورية وهي الحصول على خط تمويل أو قرض من الحلفاء السياسيين بشروط ميسرة أو بضمان صادرات.
* وأخيراً.. مع الراهن الاقتصادي هل نتوقع انهيار الموازنة الجديدة؟
لا أتوقع الانهيار، لأن الجهاز التنفيذي قد وعى الدرس وتعلم من أخطاء 2018م.