الديوان

ارتفاع الأسعار.. هل يتسبب في انهيار سوق (قندهار) الشهير؟

ربما بُعد المسافة، والمعاناة كانا سببين أساسيين جعلا الخيال الشعبي يُطلق على امتداد سوق الناقة الأم درماني الشهير اسم (قندهار)، لكن لم يكن أكثر المتشائمين (ضراوة) يتوقع أن (ينيخ) سوق الشواء الأشهر في السودان و(يبرك) على ركبتيه، وتنحسر أعداد زبائنه بهذا الصورة الكبيرة، في أعقاب الارتفاع الكبير والمضطرد في أسعار اللحوم. 
فالنسوة اللاتي كن آمنات ومطمئنات خلف (صيجانهن)، يشوين لحم الضأن والإبل بلا كلل أو ملل، يقدمنه شهياً وحاذقاً للزبائن الذين يتكبدون مشقة الطريق وزحمته طلباً لشواء طازج أو لـ(ضرب) أكباد الإبل النيئة، غدا الآن ساكناً بعد أن كان يعج بالضجيج.
انحسار السوق أنهى الصراع
يُقال أن امرأة تُدعى “حواء” هي أول سيدة ابتدرت العمل كـ( شاوية) للحوم في سوق الناقة، وهو سوق ينشط في تجارة الجمال (الإبل)، وعندما حقق نشاطها رواجاً تبعتها نسوة أخريات، فتوسع العمل في هذا المجال واحتدمت المنافسة، وتطورت (المطاعم) من البيع في الهواء الطلق إلى (رواكيب) من القش، ثم (الزنك)، ولما ارتفع الطلب على (الشواء القندهاري)، وأضحى السوق مقصداً للكثيرين دون تجار الإبل وسماسرتها، انقلبت الأوضاع رأساً على عقب، وحدث تطور هائل في طريقة تقديم الخدمة، وخلق السوق قطاعاً موازياً للعمل، فهناك أطفال يضطلعون بغسيل الأواني، وتنظيف المكان، وعاملات لتحضير السلطات وتقديم الطعام وصنع الشاي، وجزارون وصبيتهم، وظل كل هذا القطاع الخدمي يعمل في تناغم وانسجام تام في مجال صنع (الشواء)، كما ظل (سوق قندهار) عبر سنوات مصدراً (جبائي) مهم للمحلية، ولشرائح أخرى من أصحاب العطاءات، وهنا لا بد من الإشارة إلى ما عُرفت حينها بمعركة (العناقريب) بين صاحبات (الشوايات) والمحلية، وكان نائب رئيس شعبة سوق السلام (قندهار) حينها السيد (إبراهيم فرحنا) قال لي في إفادة سابقة (2008م) إن ناس المحلية طرحوا عطاء دون الإعلان عنه، وفرضوه على الناس فرضاً، وأضاف: إذا كان عندك كراسٍ وسراير يصادرونها منك ويفرضون عليك أمران: إما ترحيلها إلى منزلك، أو بيعها لصاحب العطاء، ثُم استئجارها منه بواقع (50)  قرشاً للعنقريب الواحد في اليوم.
انحسار طلبات الشواء
كان حينها (سوق الشواء) في أوج نشاطه، وكانت المنافسة حامية الوطيس، كل يريد موطئ قدم ومصدر دخل فيه، أما الآن ونحن في خواتيم (2012م) أُصيب كل ذلك النشاط بكساد كبير، وهربت أعداد كبيرة من الزبائن سواء المقيمين من مختلف الطبقات أو المغتربين، وخرج عن السوق عدد ماثل من ناشطاته وناشطيه جراء ارتفاع أسعار الماشية (الخراف خاصة)، وبالتالي ارتفاع أسعار الطلبات، ولم تعد أشهر الـ(شوايات) تعمل بذات الكفاءة والنجاعة السابقتين.
وحين زرت (قندهار) بالأمس، تحسرت على (مطاعم) كانت تجعلك تنظر ساعات لتحظى بطبق شواء جراء (الزحمة)، وها هي الآن شبه خالية من الزبائن، فلم تعد (شوايات) (سلوى إبراهيم، منى غرزتين، أم سلمة إبراهيم، نورا عبد الله، وحنان كردفان) وما يقارب الـ( 100) شواية أخرى، تعمل (بربع) طاقتها السابقة.
إغلاق البيوت
تقول الشاوية في السوق “حنان زكريا” إن العمل لم يعد مغرياً، وأنها ظلت ولأربع سنوات متواصلة تقوم بمساعدة صاحبات المحلات في النظافة وتقطيع اللحم وتقديم (الشية) للضيوف وغسل الأواني، وفي نهاية اليوم أحصل على ما بين (25 – 35) جنيهاً، دا غير الوجبات، والبشيلو لأولادي، أما الآن فأحياناً أعود و(حق المواصلات ما عندي)، وطالبت “حنان” الجهات المسؤولة بتذليل الصعاب وضبط سوق الماشية، لا نو – بحسب قولها – كل ما رخص الأكل كل ما زاد عدد الزبائن، وبالتالي زاد دخلنا وحفظنا كرامة أسرنا، لكن بالطريقة دي بيوت كتيرة ح تقفل.
تهديد السياحة والترفيه!!
وفي سياق متصل، قال أحد الزبائن، أنه وأصدقاءه كانوا يتجمعون كل (جمعة) هنا في (قندهار)، ويستمتعون بالشواء، وأنه أحياناً كثيرة كان يحضر أسرته معه، إلاّ أنه بعد الارتفاع الكبير في أسعار اللحوم صار لا يزور هذا السوق إلاّ مرة بعد عدة أشهر (شهرين تلاته)، بحسب تعبيره، وأضاف ” موسى الأمين” تاجر أحذية، أن زبائن كثيرين خرجوا عن السوق، وأنه ما عاد جاذباً كما كان من قبل، ودعا “الأمين” السلطات المسؤولة للحفاظ على هذا السوق الذي أضحى أبرز معالم العاصمة والسودان قاطبة، ومقصداً للمغتربين والسياح الأجانب، لذلك صار جزءاً من وجدان الناس وتراثهم، وأن الحفاظ عليه ليس من أجل الأسر التي تعتمد على العمل فيه كمصدر دخل وحيد لها، ولا لأنه مصدر دخل كبير للمحلية فقط، بل لأنه سوق مختلف وجاذب حتى أنه أضحى محلاً لتجمع الأصدقاء وزملاء العمل، والسياسيين والرياضيين والإعلاميين والتجار، وصار منبراً مفتوحاً للعلاقات الاجتماعية والتعارف بين الناس، وأهم مصادر الترفيه للمواطنين.
أنقذوا قندهار
وأنا أغادر (قندهار) وانهي زيارتي الخاطفة إليه، طرأت عليّ وطافت عدة أفكار، أولها لماذا لا تطرح محلية (أم بدة) خرافاً بأسعار تفضيلية خاصة بسوق (قندهار)، حتى تضمن لنفسها أولاً مزيداً من الدخل، إلى جانب الحفاظ وتوسيع فرص العمل المتاحة لقطاعات واسعة من الأرامل والفقراء والطلاب في هذا السوق، الذي لو أغلق أبوابة لانفتحت أبواب الجحيم على أسرة كثيرة، وبالتالي على المجتمع والدولة، لماذا لا نسهل للناس عملهم وندعمه حتى نحافظ على تماسك أسرنا ومجتمعاتنا، وها نحن نرمي بكرتنا إلى المحلية، ووزارة الرعاية الاجتماعية، واتحاد المرأة ومنظمات المجتمع المدني، صائحين بأعلى صوتنا: أنقذوا (قندهار) من الانهيار؟!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية