رئيس مجلس وزراء الانتفاضة بروفيسور “الجزولي دفع الله” يكشف لأول مرة لـ(المجهر) كواليس الحكومة الانتقالية
*التعامل بيني وبين المشير "سوار الذهب" كان سلساً ولم يمتحن بأي عقبات أساسية
لم أمارس العمل السياسي ولم انتمِ لحزب سياسي وترددت كثيراً عندما رشحت لتولي منصب رئيس الوزراء
*لا أرى أسباب قاهرة للتعجل في وضع دستور دائم قبل أن توفر الأرضية السياسية من إجماع وطني
* طريق الديمقراطية المستدامة شديد التعرج ويحتاج إلى صبر ولكن..
حوار: نجاة صالح شرف الدين
(المجهر) توالي اللقاء التوثيقي مع البروفيسور “الجزولي دفع الله” رئيس الوزراء الأسبق، وكانت الصحيفة قد أجرت معه في الجزء الأول من هذا الحوار وتحدث فيه حول قضايا الراهن السياسي.
وفي هذا الجزء نتناول العديد من القضايا والمستجدات على الساحة السياسية إلى جانب الأحداث التي صاحبت انتفاضة أبريل وتجربته إبان توليه رئاسة مجلس الوزراء في تلك الفترة واللقاءات التي تمت بينه وبين المشير “جعفر محمد نميري” وتناول الحوار أيضاً شخصية المشير “سوار الذهب” كقائد ورئيساً للجمهورية، وكذلك تجربة الممارسة الديمقراطية في تلك الحقبة بالإضافة إلى أدوار وممارسة العمل النقابي وخلافه من القضايا الأخرى فإلى مضابط الحوار..
{ كيف ترى إجازة قانون الانتخابات في ظل انسحاب عدد من نواب؟
– أهم شيء في قانون الانتخابات أن يكون هنالك توافقاً سياسياً حوله ومما رشح في الأخبار أن هذا التوافق قد تم في الفترة السابقة، ولكن عند مناقشة القانون في المجلس الوطني الذي أجيز بالأغلبية وهذا ما جعل أحزاب معارضة في المجلس اعترضت على ذلك بشدة، وفي تصوري أنه يجب أن تكون الانتخابات وسيلة إلى نقلة جديدة في الحياة السودانية، فإن التوافق على قانون الانتخابات يلعب دوراً محورياً في ذلك فلا بد من إعادة النظر في تعديل القوانين التي تعيق الممارسة السياسية الحرة للأحزاب السودانية والسودانيين عامة.
{ بدأ الآن الترتيب لصناعة الدستور الدائم للبلاد فهل الوقت مناسب لوضع هذا الدستور؟
– لا أرى أن هنالك أسبابا قاهرة للتعجل في وضع دستور دائم قبل أن توفر له الأرضية السياسية من إجماع وطني يضمن له الإجازة والتطبيق في المستقبل، وكم ضيعنا من دساتير في غاية التقدم وتوفير الشروط التي توفر حياة ديمقراطية في الوطن، ولكن أنها تظل في معظمها (حبراً على ورق) وأن الدستور الحالي فيه من الرؤى والأبواب ما يسمح لانتخابات حرة ونزيهة في ظله إذا توفرت الشروط الأخرى التي ذكرناها آنفاً بالإضافة إلى لحظة الانتخابات التي ينبغي أن يتم التوافق حولها.
{ نود أن نتعرف على الدوافع الحقيقية التي عجلت باستلامكم للسُلطة بعد انتفاضة السادس من أبريل؟
– دعونا نذكر أن ميثاق الانتفاضة قد حدد الفترة الانتقالية لثلاثة أعوام، ولعلكم تذكرون أن القوات المسلحة في صبيحة السادس من أبريل قد قررت انحيازها إلى ثورة الشعب والتي تفجرت في الثالث من أبريل واتضح لكل ذي عينين أن النظام قد سقط تحت وطأة الحراك الشعبي الواسع في كل أنحاء السودان، ولكننا في نقابة الأطباء قد ثمنا هذه الحركة التي قامت بها القوات المسلحة عالياً وظننا أن القوات المسلحة ستظل محكومة بنظامها العسكري المعروف ولكنها شكلت قيادة القوات المسلحة مجلساً عسكرياً انتقالياً برئاسة الفريق المرحوم “محمد حسن سوار الذهب” دون أي تشاور مع القوى الوطنية التي فجرت الانتفاضة وقادتها وأعلنت القوات المسلحة سابقاً أنها قد انحازت إليها ولم تقل إنها قد قامت بانقلاب عسكري أو ثورة عسكرية ضد النظام، فأزعجنا هذا التطور وظننا أننا قد خرجنا من نظام عسكري لنعود إلى نظام عسكري تحت مظلة المجلس العسكري الانتقالي وبناءً على ذلك دعوت قيادة التجمع النقابي لاجتماع وناقشنا هذا الوضع الجديد وقررنا أن نقلص الفترة الانتقالية لعام واحد، ونضع السلطة في يد الشعب عبر انتخابات حرة ونزيهة حتى لا يتعرض الوطن إلى نظام عسكري آخر تحت مظلة المجلس العسكري الانتقالي.
{ مقاطعة، ولكن من المعلوم أن المشير “عبد الرحمن سوار الذهب” هو الذي حدد أن تكون الفترة الانتقالية عاماً واحداً؟
– هذه ليست الحقيقة ولكن دعني أقول إنصافاً للمجلس العسكري رغم أننا لم نوافق على قيامه في البدء ولكن من خلال الممارسة طوال عام الفترة الانتقالية لم نجد منهم إلا تعاوناً ولم نرَ منهم أي اعتراض على الخطوات التي اتخذناها خلال الفترة الانتقالية نحو الانتقال بالشعب إلى نظام ديمقراطي قائم على التعددية وهذا هو الذي حدث إذ أقيمت انتخابات حرة ونزيهة ومقبولة من الشعب وأدت إلى نظام ديمقراطي قائم على التعددية.
وأما هذا النظام الذي جاءت به الانتخابات الأنفة الذكر المعبرة عن الإرادة الشعبية لم يرضي طموحات الشعب ولم يحقق ما كان ينتظر منه وأدى في النهاية لانقلاب الإنقاذ فليس من مسؤولية انتفاضة أبريل.
{ ” من خلال تجربتك وأنت كنت تتقلد رئاسة مجلس الوزراء عقب انتفاضة السادس من أبريل.. إلى أي مدى استطعت أن تعبر بكثير من القضايا التي جعلت الشارع ينتفض في تلك الفترة؟
– لعلنا نذكر أن الأحوال المعيشية في آخر أيام الفترة المايوية كانت شبيهة بما يحدث هذه الأيام من انعدام لضروريات الحياة فالخبز كان مشكلة والكهرباء كانت مشكلة والماء أيضاً كان مشكلة، وغاز الطبخ كان مشكلة، وحتى نقودك التي في البنك أصبح التصرف فيها مشكلة إذن في ظل هذه الظروف وعندما جاءت الانتفاضة وتكونت الحكومة الانتقالية التي تشرفت برئاستها ومثل فيها كل القوى السياسية الأساسية وأعني بذلك حزب الأمة والاتحادي الأصل والأخوان المسلمين والحزب الشيوعي، وأما الحركة الإسلامية فقد دعيت للمشاركة ولكنها لم تشارك.. إذن أن حكومة الانتفاضة والنقابات ممثلة فيها كانت تشكل إجماعاً شعبياً وكان يتوقع منها الكثير، وأنا هنا أقول وللتاريخ أنه بجهود الحكومة والمناخ الذي وفرته على المستوى الوطني والإقليمي والدولي فقد استطاعت أن توفر للمواطن السوداني كل ضروريات الحياة الأساسية التي حرم منها في أواخر الفترة المايوية، فلم يقف المواطن في صف واحد للخبز ولا للوقود ولم تقطع الكهرباء يوماً واحداً، وكذلك الماء. كما أن الحكومة الانتقالية قد مثلت فيها القوى السياسية الأساسية كما ذكرت سابقاً، ورغم ذلك فإنها كانت تتعرض لهجوم شرس خاصة من صحافة حزب الأمة الممثلة (جريدة الأمة) بالرغم أن حزب الأمة كان ممثلاً في الحكومة الانتقالية بالدكتور المرحوم “أمين مكي مدني” والحزب الشيوعي هو الآخر كان يشن هجوماً عنيفاً على الحكومة الانتقالية عبر (صحيفة الميدان) رغم أن ممثلهم في الحكومة الانتقالية كان المرحوم الدكتور “محمد بشير حامد” كما أن الفترة الانتقالية قد وفرت الحريات الأساسية المتفق عليها عالمياً في التنظيم والتعبير والحركة، فلم يعتقل أو يسجن مواطن واحد بسبب آرائه السياسية أو حركة السياسي السلمي تظاهراً وإقامة للندوات.
{ شخصية المشير “عبد الرحمن سوار الذهب” كقائد ورئيساً للجمهورية كيف كان التعامل بينكما بمعنى آخر كيف طريقة العمل مع بعضكم البعض؟
– “سوار الذهب” قد انتقل إلى جوار ربه مرضياً إن شاء الله كان رجلاً توافقياً يسعى دائماً لأن يلتقي معك في منتصف الطريق ولم تكن له أي أطماع في البقاء في السلطة وهذا الذي جعل التعامل بيني وبينه سلساً ولم يمتحن بأي عقبات أساسية خاصة أن الرجل كان باطنه كظاهره.
{ هلا ألقيت الضوء حول تجربة الممارسة الديمقراطية في ظل الانقلابات العسكرية المتكررة وأيضاً كيف تقيم تلك الفترة كمراقب سياسي؟
– نعم أن تلك الفترة قد علقت عليها آمالاً شعبية كبيرة خاصة بعد التجارب الديمقراطية السابقة والانقلابات العسكرية التي لم تحقق إلا القليل مما أدعت أنها الأسباب لقيامها بهذه الانقلابات وظننا أيضاً أن الممارسة الديمقراطية في أطر الأحزاب وفي وعي الشعب لن تسمح بتكرار الممارسات السابقة وأننا على أعتاب عهد جديد، ولكن خابت هذه الآمال ولم تختلف التجربة التي أتت بعد الانتفاضة بالجديد في الحياة السياسية ولكننا نعلم أن طريق الديمقراطية المستدامة شديد التعرج ويحتاج إلى صبر وكان يمكن أن تنهي حكومة “الصادق المهدي” دورتها ويحكم عليها الشعب في انتخابات ديمقراطية عاش منها على أدائها وما أنجزت وليس الحل هو انقلاب عسكري جديد أياً كان لونه وتسميته.
{ في مارس أبريل كنت تترأس النقابة التي كانت بمثابة رأس الرمح لإشعال (الثورة) كيف كنتم تعملون.. وكيف كنتم تستقطبون المواطن؟
– في أواخر العهد المايوي بعد ستة عشر عاماً من حكم الرئيس “نميري” قد أقتنع الشعب بصورة قاطعة أن هذا النظام ليس في جعبته ما يقدمه للشعب على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي أو حل مشاكله الكثيرة ومن بينها مشكلة الجنوب إذن كان الشعب مهيئاً للانتفاضة وهو كان أشبه بباروده معبئة بذخيرة وكل الذي نحتاجه هو من يضغط على الزناد، وكان التجمع النقابي هو من ضغط على هذا الزناد وتفجرت ثورة الشعب.
{ كيف نقيم وضع النقابات في تلك الفترة خاصة أن النقابات كانت تتعرض للهجوم والانتقادات وهل هنالك أدوار حقيقية للنقابات وإلى أي مدى استطاعت النقابة أن تحقق إنجازات على الأرض؟ وكيف تقيم أدوار النقابات الآن؟
– النقابات في المرحلة الديمقراطية الحزبية بالرغم مما يثار حولها من انتقادات لم تتدخل في الحريات النقابية ولا في انتخاباتها فكانت القيادات النقابية سواء أن كانت مهنية أو عمالية أو موظفين كانت تمثل القاعدة الشعبية أما في عهد الإنقاذ فقد جاءت فكرة نقابات المنشأ التي تجمع فئات مهنية مختلفة ولنضرب بذلك اتحاد الأطباء فهو يجمع الأطباء في الإدارة بمن فيهم الوكيل وكل الأطباء العاملين حتى وزارة الصحة الاتحادية والولائية ومساعدي الحكماء الممرضين والقابلات والزائرات الصحيات وكل العمال العاملين في الإطار الصحي وهؤلاء مطالبهم مختلفة ومشاكلهم مختلفة ولا يمكن أن يصدر اتحاد ذهب التشكيل وهو (ديناصور عاجز عن الحركة) أن يصدر قراراً ثم تدخلت السلطة السياسية في هذه الانتخابات أصبح هذا الديناصور بكل عيوبه لا يمثل القاعدة وهذا ينطبق على النقابات الأخرى.
{ لاحقاً هل تمت لقاءات بينكم وبين الرئيس “نميري”.. وماذا دار بينكم؟ وهل ألقى اللائمة عليكم وهل تحدث معكم؟
– أوضح هنا أن الرئيس “نميري” لم يتحدث مع التجمع النقابي في عام 1985م، ولكن تحاور مع نقابة الأطباء في استقالة أعضائها جميعاً في أوائل عام 1984م، بعد أن توقف الأطباء حتى الطوارئ في نهاية المطاف بعد أن حلت نقابتهم وبعد أن لم يبدوا اكتراثاً لتهديد “نميري” لقيادتهم بأنه سيعلقهم على المشانق إن لم يعودوا للعمل في خلال (72) ساعة ولما لم تنصاع نقابة الأطباء لذلك أخذ القيادة إلى سجن كوبر، ولكنه بعد مدة أرسل لهذه القيادة وتحاور معها ثم أوكل إيجاد الحلول معها لنائبه اللواء “عمر محمد الطيب” وبعد نقاش طويل استمر أيام توصل الأطباء معه إلى الحلول التي ترضيهم وكان شرطهم أن يعلنوا عودتهم إلى العمل خلال دار نقابتهم التي كانت تحاصرها القوات المسلحة وقد تم ذلك في مساء اليوم الذي حدده الأطباء، وعاد الأطباء في كل أنحاء السودان إلى العمل في ذات المساء.
وفي اعتقادي أن موقف الأطباء هذا قد كسر حاجز الخوف من النظام المايوي وهيأ الطريق إلى انتفاضة أبريل التي كانت نقابة الأطباء على رأسها.
وفي حوار مع نقيب الأطباء وشخصي ونائبه دكتور “حسين سليمان أبو صالح” بالقصر الجمهوري بعد استدعائنا من السجن دخلنا في حوار معه فبدأ “نميري” الحديث عن نفسه بأنهم من أسرة سودانية متواضعة وأننا في النقابات عملاء (لحلف عدن) الذي كان مكبوتاً من اليمن الجنوبي ونظام الراحل “منقستو هايلي مريام” في أديس أبابا.
وقد قلت لـ”نميري” يا سيادة الرئيس أنا قروي لا أحسن تزويق الكلام فأرجو أن لا يغضبك حديثي وقد ظللنا على مدى عام نحاول الاتصال بك لنشرح مشاكل الأطباء وهي تتلخص أساساً في شيئين. شروط عمل تسمح للأطباء خاصة صغارهم بالحياة الكريمة إذ كان يومذاك مرتب حديث التخرج لا يزيد عن مرتب الخادم المنزلي. بيئة عمل تسمح للأطباء بأداء واجبهم بصورة معقولة لمواطنيهم وهذا يذكرني بصفة الكاتب الأوروبي “كافكا” المسماة (بالقلعة) إذ إن الحاكم في هذا الوطن يعيش في قلعة حولها عديد من الأسوار وكلما يحاول مواطن أن يصل إليه ويدخل من سور إلى سور ويظن أنه يضرب من موقع الحاكم يجد نفسه في السور الخارجي وهكذا.. صممت هذه القلعة وأننا في نقابة الأطباء مواطنين كرسنا حياتنا لخدمة وطننا ولا ننتمي لمجموعة داخلية أو خارجية.
{ انتفاضة أبريل كانت ثورة مختلفة.. في اعتقادك ما هي أكثر ما يميزها.. هذا من جهة ومن جهة أخرى كيف تم اختيارك لتقلد منصب رئيس الوزراء في تلك الفترة؟
– أحب أن أؤكد أنا وزملائي الذين كانوا في قيادة التجمع النقابي أنه لم يكن لأحد منا طموح في الحكم ولم يخطط أحد منا عند انتصار الانتفاضة أن يكون ضمن الجهاز التنفيذي أو الوزارة أما عن شخصي فلم أكن مفكراً مطلقاً أن أتولى منصباً تنفيذياً بعد الانتفاضة إذ لم يكن العمل السياسي اليومي مما أمارسه ولم أكن انتمي لحزب سياسي معين وكان همي أن أعود إلى ممارسة الطب، وقد ترددت كثيراً عندما رشحت إلى تولي منصب رئيس الوزراء طوال ثلاثة أيام وكان الأطباء يترددون على منزلي لإقناعي لقبول المنصب، وقالوا لي في نهاية المطاف وهم على أبواب اليأس من إقناعي بأن ذلك في نظرهم (هروب من المسؤولية) ولعل ذلك كان أهم عنصر من التحدي الذي دفعني لقبولها وكنت أقول في أثناء الحكم المايوي (من هو هذا المجنون الذي سيتولى شؤون الحكم بعد مايو) فإذا بي أصبح هذا المجنون وذلك نسبة للأوضاع المأسوية التي ظننا أنها ستعصى على الإصلاح.