دخان ذو بأس شديد.. (وأنا دستوري نازل في بيت الخياطة)
في تفسير باهر لإطلاق السودانيين على (الجدات) لقب (حبوبة)، قالت الباحثة الاجتماعية والنفسية الأستاذة “سامية الجاك” في إفادة سابقة لـ(المجهر) إنه اللقب الجميل المشتق من كلمة (الحُب)، لأن الجدات السودانيات يُبدين ويُظهرن دوماً حباً وعطفاً كبيرين على أحفادهن، لذلك فهن (حبوبات). وإذا ما عدنا إلى ماضي (الحبوبات) قليلاً فاستحضرناه ووضعناه في كفة ميزان مع الحاضر الماثل، نجد الفرق هائلاً وبائناً.
لكن دعوني بداية أذكر هنا وفي مقام (احتفاء) بـ(حبوبتي) الجميلة الفاضلة، رحمها الله، التي كانت دائماً ما تطرق بكلماتها اللينة الغضة سمعي، وكانت تحيطني باهتمام ورعاية شديدتين، وتحكي لي ولأخوتي عن حياتها (زمان) بكل تفاصيلها علنا نجد فيها عظة وخبرة، ورغم أنها لم تدخل مدرسة، إلاّ أنها كانت تتمتع بحنكة وتجربة باذختين اكتسبتهما من تربيتها، ومن حياتها المحافظة القائمة على القيم والعادات السودانية الأصيلة.. حكت لي ذات مرة، أنها درست وحفظت بعض (سور) القرآن الكريم وهي صغيرة على يد الأسرة، وعندما كبرت دخلت دور المؤمنات وخلاوي القرآن، حتى استقر بها الحال في مدينة أم درمان مع أولادها.
{ أمهات صغيرات
وكشفت حبوبة “بخيتة” عن أن الزواج المبكر كان سائداً حينها، وأن البنت تصبح زوجة وأماً قبل أن تصل العشرين من عمرها، ورغم ذلك كانت الأمهات الصغيرات يقمن بإدارة بيوتهن بجدارة فائقة، وبما تعجز عن القيام به (كبيرات اليوم)، وأنهن كن مقبلات على الحياة الزوجية رغم أنها كانت بسيطة ليست فيها معينات وإمكانيات كما هو متوفر الآن.. فكانت الزوجة تضطلع بأعمال البيت كافة (ما فيش شغالات والذي منه)، ويتحملن وحدهن عبء النظافة وإعداد الطعام والعناية بالزوج والأولاد وإكرام الضيوف، والمحافظة على العلاقات مع الأسرة والأهل والجيران، واحترام أهل الزوج (النسابة) بصفة خاصة.
{ تسمين العروس و(تمشيطها)
أما عن تفاصيل الزواج في أيامها، فأشارت إلى أن العروس كانت تُحبس، حسب ما كان سائداً من تقاليد، وفي فترة الحبس هذه تقدم (الحبوبات) للعروس وجبات لفتح الشهية بغرض زيادة وزنها، فالمرأة (الشحمانة) على حد قولها كانت مطلوبة وسوقها رائجة، وأضافت حبوبة “بخيتة” إن (الحبِس) كان غالباً ما يستغرق عدة شهور، تنهل فيه العروس من (مدائد الدخن والبلح والحلبة والذرة مع السمن البلدي) الكثير، فيزداد وزنها عدة كيلوجرامات، وفي ذات الوقت كانت العروس تخضع لتدخين (ذي بأس شديد) بـ(الطلح) أو (الشاف) على يد (الحبوبة)، باعتبار أنه ينشط الجسد ويساعد في اصفرار اللون، بجانب الفوائد الصحية، حسب اعتقادهن آنذاك، لذلك كان (الدخان) يستمر مدة طويلة ربما عدة أشهر عكس ما يحدث (اليومين دي)، وكانت (الحبوبة) هي التي تأتي بـ(المشاطة) التي تصفف الشعر بأشكال مختلفة وبديعة، وأردفت: مهما كان شعر العروس طويلاً فلا بد أن يُمشط بالاستعانة ببعض الشعر المستعار، مبينة أن مشاط الشعر يستغرق أكثر من يومين ويستخدم فيه الزيت المعطر والعطور المحلية الأخرى، وتأتي النسوة من كل حدب وصوب لحضور طقوسه ومراسمه، وعندما ينتهي طقس المشاط تُقدم الهدايا لـ(المشاطة) التي كان لها وزنها الاجتماعي الكبير.
{ من المهجع الليلي إلى الديوان النهاري
أما عن طقوس الزواج فتستطرد حبوبة “بخيتة” قائلة: تأتي عند المساء برفقة نساء كبيرات السن من أهلها مرتدية الثوب السوداني الجميل والجدلة إن وجدت، وبعد أن يبارك لها الناس تبدأ في أداء ما كان يعرف بـ(رقيص العروس)، وهي عادة كانت سائدة في معظم المجتمعات السودانية، وترقص العروس في وجود زوجها والأهل والضيوف، ولم يكن هنالك ما يعرف بشهر العسل، فالعروس والعريس يمكثان في بيت أهل العروس لمدة أربعين يوماً، ولا يلتقيان طوال هذه المدة إلاّ ليلاً بعد العشاء، ويغادر العريس مهجعه قبل طلوع الفجر إلى ديوان الرجال، وطوال هذه الأربعين يوماً غير مسموح للعروس بمغادرة حجرتها إلا لـ(الشديد القوي) كما قالت.
{ أنا دستوري نازل في بيت الخياطة
من جهتها أشارت الحبوبة “سلوى حسين” إلى أن الكثير من العادات والتقاليد اندثرت بفعل التغيير الذي طرأ على الحياة، وذكرت أن إقبال الفتيات من جيلها على التعليم كان ضعيفاً، لعدم رغبة الكثير من الأسر في إرسال بناتها إلى المدرسة، حيث كانوا يفضلون إعدادهن للزواج، وحتى اللاتي كانوا يسمحون لهن بذلك، كن يرسلن إلى معاهد تعليم الخياطة والتفصيل والتطريز وشغل الملاءات والمناديل و(الطواقي)، حتى أن الراحل “أحمد المصطفى” غنى لهن (جن ماشات تلاته، واحدة فيهن حلاته، أنا دستوري نازل في بيت الخياطة).
{ بنات وأولاد تحت ضوء القمر
وفي السياق عدّت الحبوبة “حاجة الشيخ” أيامهن السالفات أجمل من هذا الزمن، مبررة ذلك بأن التعامل مع الجيران كان أفضل، والعلاقات بين الناس كانت أجمل وأقوى، حيث كانت (نساء الحلة) يجتمعن كل يوم في بيت إحداهن يتناولن الطعام والشراب والقهوة ويتسامرن، وكانت الفتيات اليافعات يسمح لهن باللعب مع إخوانهن وأولاد الجيران تحت ضوء القمر بعض اللعبات المحلية مثل (شليل)، و(نط الحبل)، و(غمضت) دون أن يحدث تحرش أو مشاكل كما هو اليوم.
{ (الطواقي) لغير المتزوجات
إلى ذلك زفرت وشهقت الحبوبة “نفيسة الطيب” وهي تدلي بإفادتها وتجتر ذكرياتها القديمة، فقالت: كنا نكرم ضيفنا ونذبح له ليلاً وتركض كل الأسرة لخدمته، وكانت النساء نشيطات يقمن بكل شيء دون كلل أو ملل، يخطن الملابس والطواقي وفوط الترابيز وخلافها، ويصنعن الزينة من أوراق الكرانيش ويلونها فتبدو راقية وزاهية، وكانت إحدى أهم علامات غير المتزوجات أنهن يقمن بحياكة الطواقي والمناديل كهدايا لأزواج المستقبل المفترضين، كما يجهزن الملاءات (فراش الزوجية).. وتحسرت على فتيات اليوم اللاتي لا يقمن بشيء سوى الدراسة والعمل الوظيفي، ويهملن الواجبات المنزلية الأخرى.