نجل “أبو صلاح” يكتب لـ(المجهر) ويكشف تفاصيل لم تُنشر من قبل عن حياة والده
"الكواكب احتفلوا بالقمر".. في ذكراه السنوية
بقلم_ عبد المنعم أبو صلاح
تصادف هذه الأيام ذكرى رحيل الشاعر “صالح عبد السيد أبو صلاح” الذي ولد بحي الموردة العريق بأم درمان عام 1890م وتعلم مبادئ القرآن الكريم بخلوة الفكي “مكي حسن حسين”، وانتقل بعد ذلك إلى السكن بحي الهجرة الأمدرماني وسط الكثيرين من أقاربه. التحق بمدرسة الأمريكان الابتدائية بالخرطوم بحري ولم يكمل دراسته فيها، حيث انقطعت صلته بالدراسة المنتظمة وانخرط في العمل المهني ليعمل نجاراً بمصلحة الوابورات بالخرطوم بحري، وبعدها عمل نجاراً بالحملة الميكانيكية ولم يواصل العمل فيها، كأنه يريد أن يبرهن لنا أن الحياة هي خلاصة اعتصار التجارب وإدارة الذات بعيداً عن الاحتكار، والدليل على ذلك مواصلة حياته العملية في الأعمال الحرّة متنقلاً بين البلدان.
{ اخترق جدار التقليد
كسائر أفذاذ وفحول الشعراء في عصره سار “أبو صلاح” على نهج الأقدمين بكتابة الدوبيت الذي كان سائداً في تلك الحقبة فبينت تلك الفترة نضج وتجلي شاعريته التي تجاوز بها رصفائه في ذلك العهد الرصين، فحملت أشعاره بذرة التجديد الحقيقي وكان متنقلاً بين البقعة والحلفاية، وكان لها بالغ الأثر حيث الإلهام المطلق في أزهى مرابع الجمال يحفه السحر والنقاء. اخترق “أبو صلاح” جدار التقليد فهشت له الساحة بالترحاب بمفرداته التي لا تضيق بها حدود النفس بأغنياته التي ظلت وستظل ترى الوجدان: (بدور القلعة وجوهرا، جوهر صدر المحافل، قسم بي محيك البدري، يا ليل أبقالي شاهد، يا رشا يا كحيل، خلي العيش حرام، كم نظرنا هلال). وكان لها الإسهام الواضح في الساحة الفنية.
{ حكاية بدور القلعة وجوهرها
كان رجلاً هادئاً بسيطاً متواضعاً رغم ثقله الثقافي والاجتماعي في الساحة، وفي بعض المناسبات لا يعرفه الحاضرون إلا إذا أشاروا له بالبنان، كما حصل في مناسبة قصيدة (بدور القلعة وجوهرا) التي دعاها له صديقه العريس المحتفى به “عبد الرحمن”، وكانت المناسبة بحي القلعة الشهير بأم درمان وكان شاديها الفنان الكبير “علي الشايقي” وحينها استوقفه جمال إحدى الحسناوات فطلب من العريس أن يطلب منها أن تشارك بالرقص كعادة متبعة في تلك الحقبة، وعندما ذهب إليها وطلب منها المشاركة بطلب من الشاعر الكبير “أبو صلاح” فسألته: (وين الشاعر أبو صلاح) فأشار إليه فرفضت وقالت له: (معقولة هو ده أبو صلاح “أبو عيون دقاق ده” ما بقوم أرقص)، وأثناء الحفل أخبر “أبو صلاح” بالرد الصادم: (بدور رفضت يا أبو صلاح).. فدخل “أبو صلاح” الغرفة الخاصة بالفنانين وكتب هذه القصيدة العصماء كنوع من الرد.. (العيون النوركن بجهرا غير جمالكن مين السهرا يا بدور القلعة وجوهرا .. السيوف الحاظك تشهرا على الفؤاد المن بدري انهرا .. أخفي ريدتك مرة واجهرا نار غرامك ربك يجهرا .. حفلة يا أبو الحاج اتذكرا .. ورنة الصفارة اتفكرا وهبة بي مزيكتو اتحكرا كم طرب أفكارنا وأسكرا يا بدور بدور القلعة وجوهرا).. وكان من ضمن الحضور “كرومة” فلحنها وأداها في نفس الأمسية وعندما علمت “بدور” صاحبة الوصف من العريس “عبد الرحمن” بأن هذه الأبيات كتبت لها خرجت عن صمتها ووقفت وشاركت بالرقص وقسمت الشبال على الحضور.. (الشعر أقدامك سترا لقطيبو قلوبنا البعثرا .. عالي صدرك لي خصرك برا فيهو جوز رمان جلّ البرا .. الخطيبة وردفك منبرا الشعور البسطل عنبرا).. وهنا الشعور جمع شَعر وليست المشاعر، وذكر فيها “أبو صلاح” اسم وهبة عازف الأكورديون الشهير آنذاك وهو والد لاعب المريخ الشهير “بشرى وهبة”.. ووثق في ختامها اسم العريس المحتفى به (عبد الرحمن دمت بتظفرا بي نعيم وحظوظ متوفرا).. فكانت تلك هي من أماسي أم درمان العابقة بالفن والجمال والثقافة والأدب.
أعرج على حياته الخاصة بالمنزل.. كان رجلاً هادئاً جداً، يبدأ صباحه بصوت نغمات (الفُندك)، حيث كانت الوالدة وملهمته رحمة الله عليها “سكينة منصور المطبعجي” تصنع له القهوة قبل خروجه للعمل يومياً، وفي ذات صباح جلس أمامها وهي تقوم بطقوس تحضير القهوة .. فكتب هذه الأبيات: (ختت البن بالعدد سبعين حبة.. في جمرا من قبيل انهبه.. ريحة البن تداوي الجنو ما بنطبّ.. جبنه رهيفة ماهي دبلبة.. المنقد من دهب والجمرة فيهو حريرة.. والشرقرق من فضة لابسه ضفيرة.. والمسك مع النسيم شال روايحو يديره .. والفندك ضرب دلوكة فاقد السيرة).. تصوير عميق لذلك المشهد.
كتب عن المرأة فأوفاها حقها.. كتب عن استقلال السودان.. مجّد الجندي السوداني.. مدح الرسول “صلى الله عليه وسلم”.. كتب عن المزارع وتطور النهضة بالسودان كان يعتصر الحروف وكأنها قطوف تدنو له.. كان عميق المفردة وكأنه يرسمها بفرشاة ولون تشاهده بزوايا مختلفة الأبعاد كلوحة تكعيبية الشكل تشهدها بزوايا مختلفة ومتحركة.. قال لي شاعرنا الفذ “عتيق” ذات مرة: (أبو صلاح بصور المشهد كالكاميرا المتحركة).
توفي الوالد “أبو صلاح” في العام 1963م.. نسأل الله له الرحمة والمغفرة.