أخبار

خربشات

(1)
(رغوة سوداء) عنوان مثير لرواية حديثة خطها يراع الأديب والقاص الإريتري “حجي جابر”.. غاصت في أعماق سحيقة داخل مجتمع المهاجرين إلى إسرائيل من اليهود الفلاشا الإثيوبية والإريترية.. ما بين و(طنين) إثيوبيا الأم وإريتريا الأب.. ينتاب الأديب “حجي جابر” شعور بالانتماء لجغرافية القرن الأفريقي.. وكأن “جابر” يبني في مخيلته الغنية بالصور والمشاهد لكونفدرالية تجمع إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي والسودان مثل تلك الكونفدرالية التي دعا لها كاتب آخر ومفكر “محمد أبو القاسم حاج حمد” ، ولكنه رحل عن دنيانا مسرعاً وترك إرثاً من النضال ومواقف من التاريخ ومكتبة تظل باقية مثل شعر “أبو الطيب المتنبئ”.. والأديب القاص “حجي جابر”.. لم ينس السودان والسودانيين فأشركهم في رغوته، السودان من خلال أشعار لـ”عاطف خيري” في مقدمة الرواية الواقعية الساحرة التي تبدأ بعوامل أديس أبابا.. والناس والمقاهي وحانات الرقص.. وشوارع المدينة المترفة والفقيرة.. وموسيقى “أستيرا” الساحرة الأمهرية التي سرقت العقول.. وأمسيات (السبت) الرائعة في الزهرة الجديدة.. المدينة تغسل وجهها لتستقبل مساء (السبت).. تنبعث الأغاني من كل مكان.. والشعب الإثيوبي يفرح بطريقته الخاصة، الغناء جزء من كيمياء الأمهرا والتغراي والأرمو والعفر.. والفرحة يبسطها مغنٍ في حانة بشارع بولي.. أو مغنية في المطعم اللبناني.. وليس كما ذهب “ابن خلدون” في تجليات تعاليه على الشعوب غير التي ألفها وألفته فوصم الزنج بالطيش واللعب وحب اللهو، الطيش شيء والفرح شيء آخر.. و”حجي جابر” الذي يكتب بالعربية لغة نصف سكان القارة الأفريقية يطوف بنا في عالم التكوين الأولى لعمليات التهجير التي نفذتها نخبة اليهود السود في أمريكا.. لإضفاء تنوع عرقي على المجتمع الإسرائيلي.. بنقل اليهود الفلاشا من القرن الأفريقي لأرض الميعاد.. الصور التي بعث بها الإعلام الإسرائيلي خدعت الآلاف من شعوب الأرض بأن الجنة في الأرض تحت أقدام اليهود.. ودولة إسرائيل ليس كما هي في مخيلة المتلقي للإعلام العربي.. والفقر الذي نخر في عظم الشعب في إثيوبيا.. والجوع في الهضبة والحروب جعلت الشباب يتوقون لوطن بديل عن الوطن.. ولأرض لا تزرع البن.. ولا ينبت فيها المهوقني.. وتأكل العنب وتشرب اللبن.. ولا يموت اليهود فيها بلسع البعوض والقمل.. انتشرت تجارة التهجير ونمت طبقة السماسرة المطففين لتهجير الشباب لأرض الميعاد مقابل عشرة آلاف بر إثيوبي وخمسة عشر ألفاً نقفة إريترية.. وأضحت الفنادق سوقاً لاصطياد اليهود والمتهورين.. زعم بعض المسلمين الإثيوبيين بأنهم يهود ونزعت الفتيات الصليب من صدورهن وقذفن به على الأرض من أجل هجرة بلا عودة!!
(2)
حينما تصبح الأوطان سجوناً كبيرة وزنازين يحرسها جنود غلاظ القلوب. حماة للوطن منتهكين لحقوق المواطنين تضيق الأرض.. وتشرئب الأعناق لفجر خلاص قادم.. “داويت” فتى من قلب مدينة قندر الإثيوبية.. لم يدرس الجامعة كان والده مقاتلاً في جبهة التحرير.. لذلك احتفظ بخوذته وحذائه وغليونه.. وحتى صور عشيقاته، مات والد “داويت” بمرض الزهري الذي انتشر وسط الجنوب منذ قدوم الجنود الطليان إلى الهضبة الإثيوبية.. “داويت” عمدته الكنيسة الكاثوليكية.. كقس.. وكانت أمنيته في الحياة أن يصبح كبير القساوسة في المدينة الفاضلة.. راودته “أيبا” وهي امرأة في الخمسين من العمر لا لقضاء ليلة بين أحضانها، فالنساء أحياناً يبحثن عن دفء الرجل، ولكنها قدمت إليه صورة عن إسرائيل وعن هجرة اليهود لأرض الميعاد والمستقبل الذي ينتظره إن هو أقبل على الهجرة ورمى بالصليب على الأرض وتخلى عن مسيحيته كما يتخلى المسافرون في محطات التوقف عن مخلفات المعلبات.. لقنته بعض الدروس الزائفة عن موت مزعوم لوالدته التي احتفظت باسمها اليهودي.. وقف “داويت” أمام لجنة من الكهنة اليهود، للإجابة عن بعض الأسئلة لفحص انتمائه للديانة اليهودية.. نجح في الإجابة على كل الأسئلة حتى باغته أحدهم بأن لليهود (اسمين) ، كل يهودي يحمل اسماً دينياً.. وآخر عملياً.. فما اسم والدته.. وقف “داويت” حائراً.. وأسعفته المرأة التي جاءت به بقولها ماتت أمه.. وكان طفلاً وتسرب اسمها بين معسكرات اللجوء.. والسجون.. ولكنه يتذكر اسم خالته المسلمة “عائشة رمضان”.
وانحنى “عثمان” أمام الكهنة وهو الذي ظل يركع لله وحده.. في صلواته الخمس.. زار طبيباً في عيادته اختصاصي في أمراض الجلد والتجميل لإزالة سيماء المسلم من وجهه من أثر السجود لله بعد أن أصبح يسجد من أجل الهجرة لإسرائيل.. طائرات شركة العال الآن في مطار أديس أبابا متوجهة بآلاف اليهود والمتهودين إلى تل أبيب أرض الميعاد.. في هجرة من أجل الحياة.. وضباط الجوازات يفحصون الأوراق جيداً، العبور إلى صالة المغادرة يشكل عبوراً من دنيا لأخرى ومن عالم لعالم آخر.. ومن واقع لواقع.. وينظر الرجال من نافذة الحافلة يتردد صدى الصورة.. وتطل المدينة في الفجر البارد والزمان الساعة الخامسة من ليلة ديسمبر.. لم يتبق لرأس السنة إلا أسبوعان.. وهنا تقوم الدنيا على أنغام “أستيرا” و”أبرهام”.. والصخب والضجيج.. وآلاف القادمين من أطراف القارة الأفريقية ومن قلب أوروبا القارة العجوز (للاسترخاء) في الشتاء.. والطائرة التي تنتظر بعيداً في ركن قصي من المطار تبدو لـ”دوايت” بعيدة.. وقريبة في ذات الوقت ، بعيدة لأن الجلوس في مقاعدها يعني مغادرة دنيا اليأس والإحباط والفقر والجوع والبحث عن (كسرة الأنجيرة) في المقاهي والحانات وعالم آخر يبدو من الصورة زاهياً مشرقاً.
(3)
بعين دامعة على إثيوبيا.. والقرن الأفريقي.. وبقلم يسيل إبداعاً.. يرسم “حجي جابر” صوراً من واقع الهجرة إلى أرض الميعاد.. ومزالق السفر.. ورهق الطرق.. واختلاف التقاليد والتميز وسط الطائفية الدينية الواحدة أي اليهودية بين الإنسان الأبيض (الأوروبي) والإنسان أو اليهودي الأصفر القادم من الهند وسورينام وسنغافورة وبين اليهودي الأسود من الفلاشا.. ماتت تطلعات “داويت” في تخوم معسكرات التأهيل والتدريب، فكر في الهروب وتذكر الموت برصاص الفلسطينيين.. انتابه إحساس عميق بأن إثيوبيا بفقرها (أجمل) من إسرائيل بثرائها.. وعوالمها..
و”حجي جابر” هو من رسم مرسى “فاطمة” وفتاة المغزل وصعد على قمة أدب القرن الأفريقي مع الشاعر “محمد مدني” بيد أن شيوعياً غامضاً يدعى “منجد باخوس” من مواليد مدينة كسلا بشرق السودان يقترب من “حجي جابر” الأديب والروائي الذي ولد في أسمرا وبزغ شمسه في شتاء الخليج الطويل.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية