تشخيص المرض ومنح العلاج.. هل يكفيان؟
دأب خبراء تربويون ومتخصصون في التعليم وسياسيون كبار، من بينهم وزير الصحة بولاية الخرطوم الدكتور ” مأمون حميدة”، الذي يعتبر إلى جانب منصبه السياسي، أحد أهم كبار المستثمرين في مجالي التعليم والصحة بالبلاد، دأبوا على التشديد على ضعف المخرجات التعليمية، وعدم ملائمة التخصصات لسوق العمل، وضعف المناهج الدراسية وترهلها. وفي الوقت الذي تزداد فيه نسب البطالة باضطراد بين خريجي الجامعات بصفة خاصة، ما زالت إرادة القائمين على أمر التنمية البشرية مغلولة لا تنتج غير (الكلام) والتصريحات، بينما كل شيء ينهار بمتوالية هندسية. فالمدارس والجامعات الخاصة والأجنبية، ما تزال تتمدد ويزداد الطلب عليها في ظل وضع اقتصادي مُتردٍ وفقر مدقع، على حساب المدارس الحكومية التي لم تتحرك منذ عدة عقود قيد أنملة في تطوير مناهجها وموائمتها لسوق العمل، إن لم تكن ذهبت إلى الأسوأ.
جعجعة ولا طحن
ورغم الحديث المتكرر، والمؤتمرات المتتالية لوزارتي التعليم العام والعالي عن خطط إستراتيجية ومشاريع تطوير للمناهج والسلم التعليمي والبنى التحتية للقطاع الحكومي، إلاّ أن شيئاً لم يحدث حتى الآن، ما دفع الكثير من المواطنين إلى البحث عن بديل في القطاع الخاص بشقيه الوطني والأجنبي، في موجة هروب كبير من جحيم المدارس الحكومية، رغم أن نظيراتها ليست أفضل منها بكثير.
وفي السياق قال الدكتور ” علي نورين” خبير تخطيط العمل والتنمية البشرية لـ( المجهر)، إن على وزارتي التعليم العام والعالي وضع (سوق العمل) في مرمى بصرها وبصيرتها عند وضع المناهج، وأضاف: ليس هناك عبثاً أكثر من أن يحتوي منهج الصف الأول الثانوي – مثلاً – على سبع عشرة مادة، وما الحكمة أصلاً في ذلك؟ واستطرد: المدارس الأجنبية تحقق نتائج أفضل من نظيراتها الوطنية، لأنها تعي ضرورة أن يجد خريجها فرصة عمل عندما يحتاج إلى ذلك، فتضع مناهج تكسب مُنتسبيها مهارات إضافية أخرى كاللغات (الإنجليزية والفرنسية)، والكمبيوتر مثلاً، إلى جانب تأسيس عالٍ في المواد العلمية، كما تعلمهم الالتزام بالوقت واحترام الآخر باختلاف ثقافته، وإذا ما ذهبنا في (عقد) هذه المقاربة تظهر بوضوح تلك الفجوة الكبيرة حتى في الجوانب التنظيمية والترفيهية والثقافية.
الحصة موسيقى
من جانبها بررت الأستاذة ” عائشة إبراهيم” هجرة الكوادر التعليمية المؤهلة والمدربة، داخلياً إلى مدارس القطاع الخاص أو خارجياً إلى دول الخليج، بأن المدارس الحكومية أضحت مسخاً طارداً من كل النواحي، فالبيئة التعليمية متردية، والمنهج (معسم) على حد تعبيرها، والاعتداء على المساحات التربوية مستمر، والمرتبات ضعيفة، واليوم الدراسي ممل ورتيب، غالباً ما يبدأ بطريقة تقليدية بحصة (رياضيات)، باعتبارها تنشط الذهن – كما يقولون – لكن لماذا لا تكون حصة موسيقى أو دراما مثلاً؟. وأضافت: انتهى عصر التعليم القاهر، عصر الروتين القاتل والجلد والمناهج المترهلة ( ست أو سبع) مواد أو حتى أقل كافية جداً، لأن مهمة التعليم الأساسية هي إنتاج كوادر بشرية مؤهلة وخلاقة ومبدعة، لا أكثر ولا أقل، وما نفعله الآن بأبنائنا يذهب في الاتجاه المعاكس تماماً، فالمدارس ترفد الجامعات بطلاب ضعيفي القدرات، والجامعات تتولى تخريجهم كما (وصلوا إليها) لا يعرفون الكاف من القاف – على حد تعبيرها.
إلى حين ميسرة
إلى ذلك انتقد الخبير التربوي المقيم بالإمارات الأستاذ ” زين العابدين طه”، انتقد بشدة ما اسماه جشع القطاع الخاص المستثمر في التعليم، ودعا الحكومة إلى تقليص دوره وتحجيمه، وإيقاف تمدده على حساب (الحكومي)، وأضاف: المستثمر لا ينظر إلاّ لكنز الأموال، فكيف يأتي إلينا منهم من يحدثونا عن تدهور التعليم وضعف مخرجاته، وهم أول من أسهم في ذلك، هم من أضعفوا التعليم حتى تتاح لاستثماراتهم فيه فرص للنجاح، وهذا ما حدث. واستطرد ” طه” قائلاً: صحيح هنالك ضعف في المنهج وفي الكوادر البشرية العاملة في هذا المجال، وبالتالي في مخرجات التعليم، لكن لا ينبغي أن يجعلنا هذا نذهب مباشرة إلى دعم التعليم الخاص والأجنبي، بل علينا أن نعيد (الحكومي) سيرته الأولى، ونعد لذلك ما استطعنا من رباط الخيل، ولا نستسلم لأقدار المستثمرين، ومضى قائلاً: إذا أرادت الحكومة تصحيح مسارات التعليم في البلد تستطيع أن تفعل، وإذا أرادت دعمه تستطيع، وإذا أرادته أن يكون مواكباً لسوق العمل يمكنها ذلك، وإذا رغبت في التخلص من منهجها العقيم تستطيع أن تفعل، لكن يبدو أنها لا تريد، وليست لديها رغبة وإرادة قوية في المضي قدماً في هذا الأمر، لذلك وإلى (حين ميسرة) نتوقع أن يستمر الأمر كما هو عليه، وبالطبع لن يدوم، سيأتي يوم يتحسرون فيه على ذلك، وينقلبون عليه.
ودعا الأستاذ ” زين العابدين طه” الشركات والمؤسسات في القطاع الخاص، والدواوين الحكومية إلى تدريب موظفيها وتأهيلهم أثناء العمل وعدم الضيق والتبرم من ضعف قدراتهم لأنهم ليسوا المسؤولين عن ذلك، وبالتالي يمكن سد ما عجزت عنه وزارتا التعليم العام والعالي، وأضاف: في كل العالم – عدا السودان – هنالك تدريب مستمر للموظفين أثناء الخدمة، بل ويعتبرون هذا حقاً وليس عطية، فلماذا لا تفرض الحكومة على تلك المؤسسات هذا الأمر؟!