خربشات
(1)
يتسلل صوتك في العشيات.. والصباحات ومع نسائم الفجر دافئاً.. (حنوناً).. مشحوناً بالشجن والحنين ولا تلبث كلمات مثل (جدي الريل أبو كزيمة تعال نتمشى في الغيمة) وهل بقى من الآرايل شيء.. حصدت حروبنا طيورنا.. وقتلت في نفوسنا كل شيء.. وأنت طريح الفراش في لوعة وحزن.. تبصر الدنيا بعين غير عينيك الغارقتين في التأمل.. ما أفجع الحاضر حينما يعز الصديق.. و(يفوت الحبيب) وننسى جميعاً “عبد الرحمن عبد الله” يغني صامتاً وينتحب في الليل الطويل آهته.. وتطوف مخيلته بارا.. أم قرفة.. المجرور.. العباسية تقلي وبرشم عريس الحبوبة.. وجلجال والأحيمر النارهم أدفوبا ، ويرمق “عبد الرحمن عبد الله” بعينيه في محنته كردفان المغروزة في دمه وعضام أبواتو ولسه متقريفة لي شراب قهواتو!!
ويتردد صدى صوته في هجعة الليل (تعالى يا غالي راجينك تعال أدينا من حنك) وترقص العذارى، ويمد “فضل السيد” ضراعه حتى تستبين سكينه التي تآكل حديدها من كثرة ذبيح الشياه لضيوف الهجعة ومنتصف الليل العابرين من أم بادر للمزروب في طريقهم لأم درمان ابتغاء مصلحة.. وطلب علم.. وفلاح تجارة.. وأنت مع مريخه “ومحمد آدم” شاعرنا الذي يكابد هو الآخر ظلم ذوي القربى.. وربما لم يسمع “معتز موسى” رئيس الوزراء بتغريداته عن الخبز الحاف.. والزيت الوافي.. بضابط السجن المسجون في عنابر الزمن الصعب.. و”عبد الرحمن عبد الله” حينما يجلس متكئاً على ذراع ابنته يتأمل في وجه الزمان الشين.. وفي راكوبة أولاد “عبد المنان” نهض “عبد الرحمن عبد الله” في منتصف ليل أبريل وأجواء العافية السياسية تخيم على جبال النوبة والتنافس بين (الحلو المُر) و”هارون” على أشده.. وودبارا يجوب القرى مغنياً بتراث الأبالة والبقارة، لكنه في ذلك الليل اختار وفاءً لصديقه وأستاذه الراحل “أحمد المصطفى” يدغدغ مشاعر “أبو زيد عبد القادر حسن الجميل” ، الذي رحل فجأة.. وقد بلغت به النشوة حينما غنى “عبد الرحمن عبد الله” أن أشعل سيجارة برماد سيجارة أخرى.. و”عبد الرحمن” بصوته الذي لم يشيخ يرطب الأكباد
زاهي في خدره ما أتألم
إلا يوم كلموه ما تكلم
حنَّ قلبه ودمعه سال
هف بالشوق قال قال..
وكان الراحل “الأمين عبد الغفار” يحتسي كوباً من لبن البقر الطازج.. فغنى وفاءً للراحل “الكاشف” رائعته:
أنا يا طير بشوفك
محل ما تطير بشوفك
وطار الطائر الغريد “الأمين عبد الغفار” من دنيانا وتركنا ننظر لـ”عبد الرحمن عبد الله” في محنته المريضة ونعجز عجز العاجزين عن مسح دمعته التي تهطل مثل مطر الطرفة في خريف مهطال.. وأوجاعنا وقلة حيلتنا وبحثنا منذ إشراق شمس الصباح عن قطعة الخبز وجرعة الدواء، تجعلنا كالذي يعيش دوار البحر.. والخوف من (الفايكنج) الجدد في عالم اليوم.. والفايكنج كما في التاريخ الأوروبي مغامرون حكموا دولة النرويج، متوحشون سلوكياً.. لصوص بحر وقراصنة.. وعبدة شيطان.. قتلوا القساوسة.. واستعبدوا الناس.. وبطشوا بالإنسانية.. وحينما سقطت عصابة الفايكنج اغتسلت النرويج من ماضيها.. فهل ما نعيش على وقعه اليوم مقدمة لوصول عصابة فايكنج لأرض لم تعرف التوحش ولا القتل المروع.. والموت هنا.. بالإهمال والجوع والمرض ونكران الجميل الذي يقتل “عبد الرحمن عبد الله” في اليوم الواحد أكثر من مرة.
(2)
يعيش “عبد الرحمن عبد الله” الآن غربتين ، غربة الجغرافيا والحرمان من رؤية الرهود تفيض بالماء ، والقمري يغرد على أغصان شجر الأبنوس.. والحمريات يرقصن في (الدرت) على أنغام طمبور “ود أم سيالة”.. و”حسين ود أبو بكر” و”موسى الخزين” الذي يحمل الأفراح في (السعاتات)، والسعاتات هي قرى متناثرة في دار حمر تبدأ بالسعاتة الزرقاء والسعاتة شمبول والسعاتة بخاري وهي مسقط رأس السفير الراحل “صلاح بخاري” والصحافية الراحلة “عفاف بخاري” والأديب والصحافي الراحل “مهيد بخاري” ، آل بخاري يرحلون علناً في شبابهم وليس كما يزعم البروفيسور “قور” في مقالته الشهيرة في ثمانينات القرن الماضي بألوان الخير والجمال المسيرية يرحلون سراً.. ويعيش “عبد الرحمن عبد الله” غربة ووحشة بانصرافنا عنه نحن الذين وهبنا تراثنا ووهبنا وسامتنا.. ومنحنا دفقاً عاطفياً لقرانا وأسواقنا وحتى سائقي لوارينا من أمثال “كباشي سيد الذوق”.. وكم تغنت عذارى الفرقان بأنشودة الشاعر قاسم بريمة.. وبتراث دار الريح وحتى “كلتوم” بت “جابر” التي تفتقت عبقريتها عن أغنية خال فاطمة.. وهي حبوبة “نقد الله ود عمر الركابي” ، والأغنية التي رفض “عبد الرحمن عبد الله” أداءها احتراماً لـ”عبد الكريم الكابلي” كتب في موقعة أزحف أو معركة أزحف حينما غار “المكي ود إسماعيل” وقتل (80) من الشباب، وكان قائد بارا “النور عنقرة” وتم سحب النساء إلى الخندق في بارا فأنشدت “كلتوم” بنت “جابر” تلك الروائع الخالدة.. لكن “عبد الرحمن” تغنى لـ”كباشي سيد الذوق” وديني ود دردوق” نحضر خضار السوق، ورسم معالم جغرافية دار حمر.. “كباشي” لو يرضى وديني ودبندة!! ولو كان حاكم دار حمر الآن.. ووالي الفولة “عجب الفيا”.. قد أصغى يوماً لجدي الريل أبو كزيمة.. وتأمل في أبيات (مريخة) ريحة الهاوي يا مجافي.. لما ظل “عبد الرحمن عبد الله” يتوجع ألماً وهو على فراش المرض تداعب أنامله حروف الهاتف كل جمعة ويبعث لأصدقائه بأدعية وكلمات من رصيده المعرفي الصوفي يتمنى لمن يحب العافية لأن من ذاق المرض عرف طعم العافية.. و”عبد الرحمن” ود بارا الذي رسم كل لوحات الغناء النظيف في خارطة الفن السوداني، ربما لم يسمع باسمه وزير الثقافة الذي لم يترنم في هجعة الليل بعز الليل
ولو حاولت تتذكر تعيد الماضي من أول
تلقى الزمن غير ملامحنا..
ونحن بقينا ما نحن..
لو لم يغير الزمن ملامحنا لحملنا ود بارا في حدقات عيوننا.. وذهبنا به لمشافي الدنيا القصية.. رداً لجميل هذا الجميل.. الذي لن نوفيه شيئاً مما يستحق لو شيدنا له قصراً في حي الركابية ببارا، أو عمارة في قلب النهود التي جرفتها السيول.. أو عشة صغيرة في قمة جبل حجر المك رحال.. وربما سمع جنرال كادقلي ووزير ماليته “عبد الله إبراهيم” بأن ود بارا يرقد طريح المستشفى منذ شهور لكن الرغيف أولى من الصديق.. وكما يقول “البرعي ود وقيع الله”:
أصبح زمنا قصير
وسامحنا في التقصير..
أعفو لنا يا “عبد الرحمن عبد الله” لم نوفيك ما تستحق.. وتركناك لوحدك تعاني عذابات المرض وقلة الزاد.. وشغلتنا مشاغلنا وأقعدتنا همتنا المهدودة.. وأنت وحدك تمشي ونحن في حق “عبد الرحمن عبد الله” بنقول:
حاشاك الملامة وما بتسوي العيب
وأيدك لسة تجدع من بعيد وتصيب
ويوم في المحاص شايفنو جاي قريب
ودورك بتلعبو قبل الشمس ما تغيب
بس ربنا يديك العافية وأعفو عنا التقصير.