حكايات .. واغنيات .. واسرار (5)
المكان، المسرح القومي بأم درمان.. الزمان، مساءً.. المناسبة، العيد الخامس لثورة مايو 1975م، وعلى رأس الحضور الرئيس “النميري”.. ستارة المسرح تفتح.. المذيعة تعلن عن الفقرة القادمة.. الفنان الشاب “عز الدين مزمل”، وقد كان أحد نجوم الغناء في ذلك الزمان يتبع- وقتها- لسلاح الموسيقى، قدم عدداً من الأناشيد والأغنيات الوطنية، أشهرها (مايو أشرق من جديد) من ألحان الملحن “أسامة بريش”، وهذه مناسبة نذكر فيها المرحوم سعادة الفريق “جعفر فضل المولى”، وقد كان أحد المؤسسين لفرقة (الفنون الشعبية) و(الأكروبات)، ومن الذين دعموا سلاح الموسيقى الحالي وأحدثوا فيه تطورات نوعية وكمية، والرجل فوق كل ذلك شاعر وملحن نظم أغنيات عذبة.. ولا أنسى الأستاذ الشاعر الملحن الإعلامي الرقم “عبد الرحمن بلاص” الذي كان أحد قادة العمل في تأسيس فرقة (الفنون الشعبية) العريقة و(الأكروبات)، والرجل يستحق منا صفحات توثيق لسيرته العطرة وعطائه الذي يستحق عنه الشكر والتقدير– لاحقاً أورد جزءاً من سيرته وأفضاله– هذا الذي شدا بأغنية (بال يا بلال أب ذوق عشا أمو) وألّف ونشر العديد من الدراسات والكتب– عافاه الله وشفاه– أعود للمسرح القومي والاحتفال بالعيد الخامس لثورة مايو.. أذاعت المذيعة وفتحت ستارة المسرح وصعد الفنان الشاب “عز الدين مزمل” وغنى من ألحان المرحوم الرائد “الفاتح كسلاوي” (خمسة سنين عذاب.. خمسة سنين ألم.. بزرع في المحبة وحصادي الندم).. والحفل كان منقولاً على الهواء وسيادة المشير رئيس الدولة الراحل “النميري” يتوسط كبار الضيوف والسفراء.. (يا لهوتي وحوستي أنا شاعر خمسة سنين عذاب).. والشاهد فقد راجت نفس الأغنية محورة من معارضي مايو (عشنا مع النميري لا جاز لا فحم.. خمسة سنين عذاب خمسة سنين ألم).. وبالليل كان المرحوم “كسلاوي” و”عز الدين” في سين وجيم، (وزرّة كلب في الطاحونة).
ومساء اليوم التالي كنت ضيفاً على ناس الأمن في أمسية رهيبة.. ولأن أمي داعية لي.. كان الضابط الذي حقق معي زميلي في كلية الحقوق جامعة القاهرة وصديقي أيضاً، وكان يعلم علم اليقين أن الأغنية نظمتها بالدويم وأنا طالب بالمرحلة الثانوية، فكانت زيارتي قصيرة وأغناني الضابط زميلي بمذكرته الضافية التي برأت ساحتنا، “كسلاوي” – يرحمه الله – و”عز الدين”– أمد الله في عمره – وشخصي.. بعد حادثة هذه الأغنية اقترح صديقي المرحوم “زيدان” أن نعدّل مطلع الأغنية ونجيزها من قبل لجنة النصوص، وقد تمت أجازتها بعد التعديل وسجلت للإذاعة السودانية في سبعينيات القرن الماضي (ليه كل العذاب.. ليه كل الألم) بدل (خمسة سنين عذاب)، وفي نفس تلك الأيام عاش صديقي المرحوم الفنان “زيدان” حزناً عميقاً بسبب رفض أسرة الفتاة التي اختارها تزويجها له، وتلك قصة أشبه بأفلام الرومانسية والتراجيديا!!
المقربون من أصدقاء “زيدان” كانوا يعلمون تعلقه بتلك الفتاة التي كانت كل قرائن الأحوال تقول إنها سعيدة برغبة “زيدان” في الاقتران بها، لأنه صديق أسرتها وفنانها المفضل ونجم نجوم الغناء– حتى رحيله.. واختارني لأكون في معية المرحومة والدته خالتي “أم الحسين” وعمه المرحوم “حسن زيدان”، وتزيّن ثلاثتنا بأحسن الثياب، وتعطّرنا بأرقى العطور، والشاهد أن الغبطة غمرتنا حينما رحبت بنا أسرة الحسناء التي اختارها “زيدان”، الذين بالغوا في حفل الشاي الفخيم الذي تكوّن من أشهى التورتات والبسكويت والفاكهة بأنواعها والعصائر بأنواعها.. غمزت لي خالتي “أم الحسين” والدة “زيدان”- يرحمها الله- فارتجلت خطاباً شاعرياً جميلاً وجد استحساناً من كل الحضور، انتهيت من مهمتي الصعبة، والذي لم نكن نتصوره عبارات رب أسرة الفتاة: (والله كان يسعدنا ويشرفنا لكن بتنا مخطوبة لابن خالتها).. باقي القصة طويل ومحزن طول وعذاب المرحوم “زيدان” الذي جعل ثلاث زيجات له لا تُكلل بالنجاح لأنه ظل على حبه حتى مماته للحسناء التي تزوجت.. ومحبو غناء وأغنيات (العندليب الأسمر) يشعرون بذلك الشجن والحزن المخبوء في صوته وفي نصوص معظم أغنياته الحزينة.. من كلماتي.. (باب الريدة وانسدّ).. و(ليه كل العذاب).. و(ليل البعد) و(شقى الأيام).. و(إذا الخاطر).. و(ظنون).. وقلِّبوا أغنياته تجدون هذا القاسم المشترك.. أما الأغنية التي نظمها صديقي الشاعر “عزمي أحمد خليل”– رد الله غربته– خصيصاً لـ”زيدان” تترجم مأساة حبه الذي لم يُكتب له النجاح.. (عشان أهلك بخليكي.. وأشيل من جرحي ماضيكي.. بحاول.. وبرضي ما قادر عشان أنسى وأنسيكي).. وأشهد أنه ألّف لذلك النص لحناً كان سيكتب له الخلود وأداءً هو الشجن بعينه، غير أنه رفض غناءها للناس فذهب النص إلى المرحوم المطرب “هاشم ميرغني” الذي صنع له لحناً مليئاً بالشجن والروعة.. ومن الأغنيات التي أيضاً ضنّ بأدائها للناس، ومن ألحان “عمر الشاعر” وكلماتي.. (شقى الأيام.. وسهر الليل.. بيهون لو مرة حسيت بي.. بزول كل الوجع وأرتاح.. وأغرد زي كنار صداح.. وتبقى الدنيا في عيني.. أزاهر وغيمة وردية.. ولو سلمت مرة عليّ.. سلامك ليا).. ولـ”زيدان” عشق خاص لليل.. وهو محب للسهر لا سيما في الليالي المقمرة للدرجة التي كلفني بنظم (موال الليل) التي لحنها في سبعينيات القرن الماضي، وكان يغنيها في خلوته ليطرب نفسه أو للأقربين من أحبائه الخلصاء: (يا ليل البعد يا مضيع سنيني معاك.. وتتمدد تطول يا ليل بعيدة سماك.. وتتعب في قليب مسكين بيتوجع وما هماك.. وتتمدد تطول يا ليل بعيدة سماك..).
ونواصل