"محمد عثمان عبد الرحيم": أرفض أن يقال عني شاعراً غنائياً.. لأن الشعر عندي نضال وكفاح!!
وصفه الشاعر المصري الدكتور “إبراهيم ناجي”، بأنه رجل متفرد بأسلوبه في الحياة كما أسلوبه الشعري، فهو في الحياة ثائر على النظم، وفي الشعر حاول أن يشق طريقاً جديداً، ولذلك لم يستقر في الحياة ولا في الشعر، فالقلق أصبح طابعه وديدنه. وفي موضع آخر يقول عنه “ناجي”: ( إن “محمد عثمان عبد الرحيم” ليس شاعراً مغامراً فحسب، بل هو غاضب).
ولعل أقواس “إبراهيم ناجي” عن “محمد عثمان عبد الرحيم” التي كتبها في العام 1947م، عندما قدم لديوانه الأول (رياض الأمل)، لخصَّت شخصية شاعرنا الكبير بدقة، فهو ومنذ ذلك الحين لم يستقر على حال كما تشير سيرته، حيث بدأ حياته العملية مُدرساً ثم مُحاسباً بالسكة الحديد (عطبرة)، وأخيراً وهب نفسه للنضال بالكلمة – كما قال.
كما ما زال شعره مشتت (الدم) بين الأوراق والدفاتر أو حبيساً بين (قضبان) أشرطة الكاسيت، ولم يُطبع منه سوى ثلاثة دواوين، الأول كان عام 1947م، والتاليان طبعت أحدهما هيئة الخرطوم عاصمة للثقافة العربية عام 2005م، والآخر تكفل به والي الجزيرة السابق الفريق “عبد الرحمن سر الختم”، حيث طال الفرق (الزمني) بين طباعة الديوان الأول والثاني إلى (57) عاماً، وفي ذلك يبرر الشاعر قائلاً: ( توقفت طباعة أشعاري، ولكنني لم أتوقف عن الكتابة، لأن الشعر هو رئتي اللتان أتنفس بهما وسيفي الذي أجاهد به)، والآن بلغ شاعرنا “محمد عثمان عبد الرحيم” من العمر (98) عاماً، وما زال يكتب شعره حتى لا ينفلت منه عقال بيت واحد في سباق محموم مع الزمن. ورغم أن العاتيات أقعدنه قليلاً، وأيادي الدهر عبثت بملامحه، فتوارى اللحم عن العظم وبانت المفاصل هزيلة، ورحل السواد من شعر رأسه الذي اكتسى بياضاً، واحتشدت في الوجه ملامح الشيخوخة، لكن ما زال الكبرياء شاخصاً وساطعاً، والعينان براقتان وذاكرته متقدة.
(المجهر) زارته بمسقط رأسه مدينة (رفاعة)، وقلبت معه الدفاتر، فخرجت بحصاد ذكريات السنين.
{ حدثنا عن البداية والنشأة؟
ـ ولدت بمدينة رفاعة في العام 1914م ونشأت فيها، وكان معي أخوان هما “محمد حسن عبد الرحيم” و”علي عبد الرحيم”، عشنا في منزل واحد مع الوالدة بعد وفاة الوالد التي حدثت في العام 1917م بالأبيض، دخلت أولاً خلوة الخليفة “الحسن محمد”، ومنها انتقلت إلى خلوة الشيخ “أحمد يوسف نعمة”، وفيها أكملت (جزء عمَّ وجزء تبارك)، وبعدها التحقت بالكُتاب حوالي عام 1918م – 1919م برفاعة، وكان كتّاباً رسمياً يشرف عليه الشيخ “بابكر بدري”، وفي ذاك العمر لم تكن لدي علاقة بالشعر، ولكن عندما دخلت المدرسة الابتدائية بدأت أنظم بعضه، وكنت لا أميل إلى الشعر العاطفي، بل كنت أنظم الشعر السياسي، لأن همي كان محاربة الانجليز الذين كانوا يسيطرون على البلد وعلى الناس ويكونوا حكومات (زي ما عايزين)، وإدارات أهلية تحقق إرادتهم، وبعد أن أكملت الابتدائي التحقت بـ(كلية غردون) التذكارية ما بين 1928 – 1931م وبها درست المحاسبة.
{ كيف كانت فترة دراستك بـ(كلية غردون).. ومن الذين زاملوك.. وما مدى وعي الطلاب في تلك الفترة بقضايا الوطن؟
ـ بصورة عامة كانت تلك الفترة مفصلية في حياة السودانيين، لأنها شهدت ظهور الوعي السياسي بقضايا الوطن، ومن الذين زاملوني آنذاك “خليفة محجوب”، “محمد الحسن حمد” وآخرين، وهؤلاء كانوا أصدقائي، كنا نتقاسم هموم الوطن ونتناول قضاياه بصورة جماعية، وبعد تأسيس اتحاد الطلبة داخل الكلية عقدنا اجتماعاً، دعينا إليه الطلاب، وتحدثنا فيه عن قضايا الوطن.
{ هل هذا هو الاجتماع الذي قاد إلى الإضراب الشهير بـ(كلية غردون)؟
ـ لا، الإضراب الشهير كان في العام 1931م.
{ هل كنت أحد الذين نظموا ذلك الإضراب؟
ـ نعم، كنت عضواً في اللجنة المشرفة على تنظيم الإضراب.
{ هل حقق الإضراب أهدافه في ذلك الوقت؟
ـ على أي حال، كان الإضراب بسبب قرار حكومة الاستعمار الذي قضى بتخفيض مرتبات الموظفين بتوصية من الإدارة الأهلية، وقد اشترك في تنظيمه طلاب السنة النهائية من طلاب الهندسة والمحاسبة والكتبة، كل هؤلاء اجتمعوا من أجل مناقشة الأمر، وأخيراً اتخذوا موضوع تخفيض المرتبات ذريعة للإضراب، وكان الطلاب (واعين) جداً، فاستبعدوا الطلاب الذين يدرسون الطب، لأن السودان في تلك الفترة كان يحتاج إلى الأطباء، فاستمر الإضراب حوالي يومين، وأزعج الاستعمار جداً فقاد وساطات كثيفة عبر الأحزاب السياسية والزعماء الوطنيين، وعندما فشلت أمر بإغلاق الداخليات وقطع الغذاء، وبعد هذا رأى الطلاب أن السيل قد بلغ الزبى، ولا بُد من إرجاع الطلاب إلى مدنهم وقراهم وقد كان.
{ بعد تخرجك عملت مدرساً بمدارس الأحفاد.. حدثنا عن تلك الفترة؟
ـ نعم، مدارس الأحفاد كانت تضم كُتّاباً ومدرسة بنات، وكان شقيقي الأصغر “علي” مديراً بمدارس الأحفاد، فالتحقت معهم كمدرس للغة العربية بالمدرسة الابتدائية، وبعد فترة قليلة لم يرق لي العمل، فعدت إلى أصلي في وسط الشعب أنظم المحاضرات في الأندية والميادين، وكانت هذه المحاضرات تمس الانجليز بصورة مباشرة.
{ ومن ثم؟
ـ التحقت بالسكة الحديد (عطبرة).
{ كيف كانت أيامك بالسكة الحديد؟
ـ كانت كلها نضالاً وكفاحاً، وكان معي “الطيب حسن”، “محمد أحمد الطيب”، “محمد عمر إدريس” و”عمر درواي”.
{ ديوانك الأول (رياض الأمل) طُبع عام 1947م بالقاهرة وقدمه الشاعر الكبير “إبراهيم ناجي”.. حدثنا عن علاقتك بهذا الشاعر ذائع الصيت؟
ـ أنا لم ألتقِ الشاعر “إبراهيم ناجي”، ولكن صديقي “حسن درواي” كان صديقاً له، فأعطاه ديواني الأول، وعندما أعجبه قدم له في طبعته الأولى التي صدرت منها في ذلك الحين حوالي (1500) نسخة.
ـ الفرق الزمني بين ميلاد ديوانك الأول والثاني (57) عاماً.. ما هي أسباب هذا التأخير؟
ـ حقيقة توقفت طباعة أشعاري، ولكن لم يتوقف تأليف الشعر عندي.
{ تقول عن نفسك بأنك أفريقي أسود.. ولكن أشعارك تنضح بالعروبة.. لماذا هذا الانحياز الواضح؟
ـ انحيازي للعروبة جاء من انحيازي للأدب العربي، لأنني أعشق الأدب العربي واطلعت على كل نفائسه.
{ ما هي أحب قصائدك إلى نفسك؟
ـ والله كل قصائدي محببة لديّ، ولكن (أنا سوداني) لها وقع خاص على نفسي.
{ هل لميلاد هذا النشيد الخالد قصة؟
ـ بصراحة عندما فكرت في كتابة هذا النشيد، أردت له أن يحمل سمات العروبة فيمجد أدبها وأبطالها، وهكذا أتى نشيد (أنا سوداني).
{ يعاب على نشيد (أنا سوداني) أنه يمجد العروبة ولم تذكر فيه (الأفريقانية).
ـ نعم يمجد العروبة، ولكنه يمجد أيضاً السودانيين بصورة عامة.
{ أستاذ “محمد عثمان”.. ما هو رأيك في المسرح؟
ـ المسرح مهم جداً، ولابد منه لأنه يعالج الكثير من القضايا، ولهذا كنت قد ألفت مسرحية اسمها (تضحيات محب)، ناقشت فيها غلاء المهور.
{ أكثر من نصف قرن وأنت تكتب الشعر.. ماذا تبقى لديك؟
ـ ضاحكاً: لدي الكثير حتى الآن.
{ قصائدك أخذت سمات الخلود؟
ـ نعم لأنني كنت متأثراً بشعراء كبار أمثال “البارودي”، وغيره من الفطاحلة، وهذا ما جعلنا نكون مخلصين فيما نكتب، لذا أخذت كلماتنا طابع الخلود وحفظها الناس ورددوها فيما بينهم.
{ كيف التقيت بـ(العطبراوي)؟
ـ حقيقة كنت معجباً به وبصوته، ولكني لم أذهب إليه، بل هو الذي جاءني بواسطة صديقي “الطيب حسن”، فأعطيته نشيد (أنا سوداني).
{ من الذي تغنى من أشعارك غير الفنان الكبير (العطبراوي)؟
ـ غنى لي “الخير عثمان” بأغنية (الملامة)، وصراحة أرفض أن يقال عني شاعراً غنائياً، لأن الشعر عندي نضال وكفاح.