انهيار وشيك للإمبراطورية العريقة : تاكسي الخرطوم.. الحال يغني عن السؤال!!
تظل عربات (التاكسي) محتفظة بصفتها (الإمبراطور) بين جميع سيارات الأجرة في كل البلدان، بما تمثله من سطوة ونفوذ على الطرقات والشوارع، وبما يتسم به سائقوها من خبرة في معرفة الأماكن وحسن التعامل مع الزبائن.
وفي السودان، اكتسبت إمبراطوريته عبر تاريخها الطويل سمعة طيبة، ورغم أنها تعاني الآن مشكلات عديدة، إلاّ أن تاكسي الخرطوم بلونه الأصفر الباهت الذي تكسوه الكآبة، ما زال يصارع كيما يحافظ على موقعة الصداري، خاصة في ظل منافسة من الأمجاد والعربات الخاصة الأخرى، رغم أنه لم يعد يتمتع بتلك (الشنة والرنة) كما كان في السابق.
ويعاني سائقو التاكسي في الخرطوم أحوالاً صعبة غير التي كانت في الماضي، حيثُ عاشوا أجمل سني حياتهم من رفاه وتقدير لا يُنسى، إلا أن الحال اختلف الآن وأضحى التاكسي غير مرغوب فيه، مهمل وباهت، يبتعد عنه الزبائن ولا يلحون في الطلب عليه.
تحت ظلال أشجار (اللبخ الوريفة) والمتشعبة بشارع الجامعة، يتجمعون بشكل ملحوظ، يجلسون بهدوء، أصغرهم سناً تجاوز الخمسين، اقتربت منهم وكانوا حقاً كما توقعتهم.. إنهم أصحاب هذا (الرهط) المتراص من (التكاسي) التي أمامي الآن، ولما كشفت لهم عن هويتي فرحوا جميعاً بالتحدث إلى (المجهر)، حيث طرحوا همومهم ومشاكلهم، وتوسموا فيّ خيراً لعلي أُحيي أملاً ظل يراودهم زمناً في عودة الروح إلى إمبراطوريتهم المنهكة. التي يقول عنها كثيرون إن زمانها ولى وأصبحت نسياً منسياً. وعلى حافة الرصيف الذي تُحيط به هذه المجموعة من عربات التاكسي جلست إليهم، واستفسرت عن حالهم، واستمعت إلى حكاياتهم التي تخرج من الماضي لتدخل في الحاضر وتغادر إلى المستقبل.. فدعونا نشرككم معنا في هذا السرد الممتع:
{ غزوة الأمجاد
بداية تحدث العم “خلف الله” الذي يعمل سائقاً في هذا المجال منذ العام 1985م، وخلال هذه السنوات الأولى من عمله عاش أجمل أيامه، حيث كان في زهوة الشباب (18 عاماً)، وقال: إن سائق التاكسي وقتها كان يعيش حياة كريمة يحظى باحترام وتقدير الناس، وأضاف: إنه يعرف أن هناك سائقين لهم ثقافة عالية، ومعرفة وخبرة كبيرتين بالشوارع والأمكنة، وأشار إلى أنه ورغم ما آل إليه حال التاكسي الآن، حيثُ أصبح غير مرغوب فيه بعد تكاثر الأمجاد والركشات، إلاّ أن بعض الناس ما زالوا يرغبون فيه كونه أرخص سعراً ويمكنه الدخول إلى كل الأماكن (المقطوعة) بالخرطوم. واستطرد: إن سائق التاكسي اليوم أحياناً يقف منذ الصباح حتى المساء دون أن يدخل عليه قرش واحد، وذلك لأسباب كثيرة، منها الحالة الاقتصادية والمعيشية للمواطنين الذين عزفوا جميعاً عن ركوب التاكسي مما يجعلهم في أحايين كثيرة يحملون من لا يملك مبلغ المشوار كاملاً بنصفه. وزاد: قلت رغبة الناس في التاكسي، لأن شكله أصبح غير جاذب، وأكد: بما أنه يحمل شعار البلد فلابد أن يكون شكله سياحياً، ومعظم سائقي التاكسي الكوريلا موديل 1983م، يشكون ضعف إمكانياتهم ويعانون من غلاء الإسبيرات وارتفاع تكلفة الصيانة، وأكدوا أن سعر (سمكرة) التاكسي الآن وصلت إلى (1000) جنيه بعدما كانت (500) جنيه فقط، وجوز الإطارات (اللساتك) ارتفع لـ(750) من (300) جنيهاً.
{ يترك (تاكسيه) و(يركب) المواصلات
أما العم “حسن إبراهيم” الذي يسكن شرق النيل، فأوضح أنه أنفق سنين عدداً كسائق تاكسي، وأنه يبدأ يومه منذ السابعة صباحاً حتى التاسعة مساء، بعد ذلك يتجه لشراء احتياجات أسرته، وأبان: بسبب غلاء المعيشة في الآونة الأخيرة ترك الناس ركوب التاكسي. وذكر أن الأرزاق بيد الله، لكن التاكسي القديم لا مكان له الآن، وتحسر على زمانه الذي ولى وهو يجوب الأسواق والأحياء والمطار والأماكن السياحية والفنادق مع ركاب يتسمون بالرقي والفهم، على حد قوله.
من جهته قال العم “مصطفى الفكي” أنه ابتدر عمله منذ أكثر من (30) عاماً سائقاً للوري ومنها اشترى التاكسي، وأكد أن (الشغل واقف) وأصبح يقضي جل يومه تحت ظل الأشجار بالخرطوم يفكر في الحياة الصعبة، وأقسم إنه أحياناً لا يستطيع توفير البنزين أو قوت يوم أولاده، كما أنه في نهاية اليوم يركب المواصلات العامة لتقله إلى منزله بالفكي هاشم ببحري ويترك عربته أمام أي موقع بسط أمن شامل.
{ ضيق وتبرم
أما العم الطيب فأوضح أن الأمجاد تضايق التاكسي الآن، وصارت منافساً له، ولفت إلى كونها عربة ملاكي تعمل أيضاً في كل مكان. وأكد أن التاكسي يصرف بنزين أكثر من أية عربة أخرى.. وعن عربات التاكسي الجديدة التي طرحتها ولاية الخرطوم من أجل تطوير التاكسي وتمليكها لأصحاب التكاسي القديمة، أجمع سائقو التاكسي أنهم يرغبونها لكن لا يملكون مبلغ شرائها لعدم الدخل المضمون، خاصة وأن سعر الدفع (750) جنيهاً شهرياً ودخل اليوم أحياناً لا يكفي لشراء البنزين، ولكنهم رغم ذلك يشكرون إدارة المرور التي لا توقفهم من أجل التراخيص بعدما أعفاهم رئيس الجمهورية.
{ يا حليل زمان
(التكاسة) أكدوا أن علاقتهم مع بعضهم البعض حميمة كما الإخوة تماماً، يقدرون ظروف بعضهم، عاشوا أجمل أيام في سواقة التاكسي، ولهم ذكريات مع بعض الركاب خاصة الفنانين الذين كانوا يقلونهم من الفنادق والمسارح، أمثال الراحل “زيدان إبراهيم” و”سيد خليفة”، وامتداد علاقتهم مع بعض الجيل الحالي من الشباب كـ”محمود عبد العزيز” و”جمال فرفور”، إضافة لليالي الاثنين التي تجمعهم في جامعة الخرطوم ليلاً، يتناولون الباسطة والحليب مجاناً ويقضون أوقات ممتعة في الترفيه بسينما كلوزيوم، ويخرجون مع أولادهم وأسرهم يوم الجمعة من كل أسبوع للحدائق بغرض الترفيه الذي أصبح الآن من ذكريات الماضي.
أما العم “فقيري” الذي ابتدر عمله في عام 1973م حين عودته من مغتربه بالكويت، وشرائه لعربة تاكسي موديل (هليمان) الإنجليزية، ثم تايوتا كرونا وأخيراً كوريلا موديل 1983، وهي التي يقودها الآن ويفضلها على أي موديل آخر، فعزا تراجع رغبة المواطن في استئجار التاكسي إلى الأوضاع المعيشية المتردية، مشيراً إلى أن ازدهار التاكسي مرتبط بتطور الحياة المعيشية والمدنية.